ليست هذه أول مرّة أطرح فيها موضوع اللغة المستعملة رسميا وللتخاطب اليومي في بلادنا، وقد لا تكون الأخيرة، لأن لغة مرء أو شعب ما، هي أبرز مكوّنات هويّته، وهي، بشكل أو آخر، مرآة روحه وفكره وثقافته. أعود لهذا الموضوع الهام الحسّاس، لأن هذا اليوم قيل إنه يوم اللغة العربية، بقرار من هيئة الأممالمتحدة، ولو أني من هنا وعن بعد، لا أرى كيف يقام ويحتفل به لدى أهلها. ثمّ إنّ أغلب الأصدقاء الأجانب، زملاء كانوا أو جاؤوا عن طريق علاقة وتعارف اجتماعي طبيعي، زاروا تونس بعد أن أخذوا عنّي معلومات وشروحا وبيانات، بعضهم أخذ حتى مخطط جولته، إلا وعادوا يسألونني عن لغة البلاد. وعندما أجيب بأنها العربية، أرى هذا يبتسم شاكا في صحة جوابي، وآخر تبدو على ملامحه علامات الاستغراب والدهشة، والصريح الفصيح منهم يواجهني قائلا " هذا غير صحيح." آخرهم، أستاذة كاتبة من المكسيك، زارت المغرب العربي، لأنها تُعِدّ كتابا عن بطل الريف، وتفكر في الكتابة بعده عن غيره من الأبطال والثوار المغاربيين. جاءتني عن طريق صديق باحث متخصّص في الأدب الشفوي، فزوّدتها بما استطعت من معلومات، ونصائح، ومواضيع ذات أهميّة، فعادت ممنونة سعيدة، لكن تسألني هي الأخرى عن لغة البلاد الرسمية. كبر استغرابي فأخرجت لها نسخة من الدستور الأول لسنة 1959 وفصله الأول القائل: تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. ثمّ فتحت كتيّب الدستور الجديد الصادر سنة 2014 الذي ينص فصله الأول: تونس دولة حرّة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها، والجمهورية نظامها، فأذعنت قائلة " غريب ". لم أسألها عن الغرابة التي قصدتها، لأني فهمتها وعرفتها وكثيرا ما شكوتها، وتجنب نقاش قد أخرج منه فاشلا منهزما، لأنها ستكون في جانب المعقول المنطقي، بينما أنا سأكون مدافعا عمّا لا دفاع عنه. حيرة هذه الأستاذة الكاتبة البحاثة، وعدم اقتناعها بما سمعت ولاحظت، جعلني أنغمس مرّة أخرى في البحث عن سبب أو أسباب ما آلت إليه لغتنا، لساننا الدارج أو لغتنا الفصحى، وإن خلت من الفصاحة، لغتنا التي أصبحت " بيستو " – حسب النعت الذي رمته الأستاذة دون شعور، وهو يعني بلغتنا " شكشوكة " لأن الطبق الذي نعتت به لغتنا هو خليط من عدة خضر وتوابل وهو، بالمناسبة، أكلة لذيذة جدا. انغمست في التفكير والبحث عن فهم منطقي معقول، فعثرت بين أوراقي القديمة، محفوظاتي كما أسميها، على مجموعة من أقوال مفكرين ومسؤولين لها صلة متينة بما كنت غارقا فيه. أولها وأهمها قيمة ومفهوما وعبرة، ما قاله علامتنا الشهير، باعث علم الاجتماع والمؤرخ عبد الرحمن بن خلدون، وهو:” إنما تبدأ الأمم بالهزيمة من داخلها عندما تشرع في تقليد عدوّها ". قول بليغ ورأي سديد واقعي، لو تبصرنا فيه قليلا لوجدنا أننا خير مثال لقول عالمنا الفقيه. لأن ما نأتيه لغويّا، هو تأكيد أو تفسير لقول ابن خلدون، يُرسّخه، أو يشرحه فيؤكده، قول عالم آخر، فرنسي هذه المرّة، الذي لفظ بها صريحة واضحة فقال:" إن تعليم الناس لغتنا الفرنسية، لا يعني الاكتفاء بأن تألف ألسنتهم وآذانهم الصوت الفرنسي، بل إنه يعني فتح عقولهم وقلوبهم على الأفكار والعواطف الفرنسية، حتى نجعل منهم فرنسيين من زاوية ما.. إن هذه السياسة تؤدي إلى فتح بلد بواسطة اللغة". أما الآخر، فقال:" إن الهدف من فرنسة التعليم، هو جعل البربرية العربية تتنحى، لا إراديًا، أمام الحضارة المسيحية الفرنسية." كلّ هذا، وغيره كثير، ولو أن العبرة ليست بالكثرة، يقودنا إلى شعار نادى به رجل ثاقب الرأي ولا شك، هو اليهودي اليعازر بن يهودا، الذي نادى به في منتصف القرن التاسع عشر وهو قوله " لا حياة لأمة بدون لغة " فاستجاب له قومه فأنشأوا المدارس وأحيوا لغة كانت ميّتة فدرّسوها بكل موادها. هذه مجرّد أمثلة أسوقها لإبراز حقيقة لا نقاش فيها، وهي أننا، عن قصد أو غير قصد، بدراية أو بدونها، بصدد هدم هويتنا، والقضاء على أبرز مميزاتنا، على مرآة شخصيتنا، على مترجمة ثقافتنا، وأعني لغتنا ولساننا المميز، الذي نكيل له كل يوم إهانة جديدة، ونزيد يوميا في مسخه بما " نقلّده " – حسب تعبير ابن خلدون – عن الآخر الغريب من مفردات وعبارات، لغتنا أكثر بلاغة ووضوحا في التعبير عنها، ولا قياس لو كنا صادقين عارفين. يكفي مثال واحد في هذا المجال، حتى نتبيّن حالنا بالمقارنة مع الشعوب والبلدان التي تحترم نفسها وتثق فيها. فالمخترعات الجديدة تصلنا من الصين أو من الولاياتالمتحدة أو مما بينهما، بأسماء وضعها صانعوها. فيقوم كل شعب أو كل بلاد بإطلاق اسم جديد بلغته على المُختَرَع الحديث إلا نحن، أي العرب شرقا وغربا، نكتفي بتقليد اسم الصانع، فيستعمل المشرق الاسم الإنكليزي، والمغرب الاسم الفرنسي ولو كان المصنوع لا إنكليزيا ولا فرنسيا. فجهاز الهاتف المحمول، نجد له في كلّ بلد اسما خاصا بلغة البلد المستعمل، فهو موبايل بلغة العم سام، وبورتابل بلغة بلاد الغال، تشلولاري بلسان دانتي أليغياري، وتراغبارس أو هاندي بلسان الألمان، وهكذا. أما نحن فالتقليد لدينا أسهل وأبسط وأقل عناية. لأننا نسينا، أو لم نسمع ما قاله ابن خلدون، ولم نعمل ولا حتى بالمثل الشعبي لدينا الذي يقول: " جاء يقلد مشية الحمامة، ضيّع مشيته." أضعنا مشيتنا وخطانا وأكثر من ذلك، شخصيتنا وهويتنا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن للصدف غرابتها وفوائدها، مثل ما صادفني قبل حين. توقفت عن الكتابة لإعداد قهوة ولما عدت بها، دخلت موقع هذه الصحيفة، الصريح الغراء، لأطلع على آخر الأخبار وأنا أترشف قهوتي، وإذا بي أمام صدفة لا تعوّض ولا ثمن لها، إذ هي مقال من ثمرات أحد الأقلام البليغة اليوم وهو الأستاذ أبو ذاكر الصفايحي، يتذمر فيه ويشكو ما أنا بصدد الكتابة عنه، لذا أستسمحه شاكرا فأنقل بعض ما جاء في مقاله المركز على غياب أي نشاط للاحتفال باللغة العربية في يومها العالمي. بعد أن ذكّر الكاتب بقصيدة الشاعر الكبير حافظ إبراهيم التي تتكلم فيها اللغة العربية عن نفسها وإمكاناتها، خلص يقول: ذلك ما قاله ذلك الشاعر في ذلك الزمان البعيد الفاني. اما لو انه عاش اليوم بيننا ورأى حال اللغة العربية الجديد بين أهلها وذويها، وهي تقاسي ما تقاسي، وتعاني ما تعاني من البؤس والذل والهوان، لراجع بلا شك كثيرا من عقائده ومن أقواله، ولعله سيقول وسيتساءل، وهو في غاية الدهشة والذهول: " اين اليوم من يفدون بحق وصدق اللغة العربية ويفنون في هواها؟ واين ذهبت روحها ومتى أهدرت دماها؟ وهل مازال الآباء والامهات يتغنون بها امام ابنائهم كسالف الأعوام وسالف السنوات، ام أصبحوا يتغنون بغيرها وسواها؟ وهل مازال علماء العرب يتباهون بلغتهم العربية في الشرق والغرب؟ وهل مازال العرب يرون حقا بكل ثقة وبكل مصداقية ان بقاءهم ووجودهم على هذه الأرض مقترنا ومشروطا ببقاء اللغة العربية؟ وهل مازال العرب يرون ان لغتهم بحر متلاطم فسيح، ام أصبحوا يرونها ويشبهونها بغدير صغير عقيم شحيح؟" أجيبوني أيها المجيبون يا اهل الهدى ويا أهل الرشاد، او فاتركوني اقول ما قاله ذلك العربي وقد يئس من رد ومن استجابة ومن اقناع كل رائح وكل غاد (لقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي). لم يبق لي، بعد هذه الصرخة الأليمة الحزينة الصادقة التي نادى بها الأستاذ الصفايحي إلا التذكير بأنّ قرار الأممالمتحدة القاضي بأن يكون يوم 18. 12. اليوم العالمي للغة العربية، لأنه يصادف التاريخ الذي اعتمدت فيه اللغة العربية لغة رسمية من لغاتها، بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973. أن هذا النجاح كان بفضل مجهودات البعثة الليبية لدى الأممالمتحدة، حيث قام الصديق الحقوقي والأديب السفير كامل حسن المقهور، رئيس البعثة الليبية أنذاك رحمه الله، بمعية زميله المغربي، بمطالبة الجمعية اعتماد اللغة العربية لغة رسمية سادسة لديها، فنجح في جمع البعثات العربية الأخرى لدعم مبادرته، ففعلوا وتمت إضافة لغتنا رسميا داخل الأممالمتحدة، وكان ذلك يوم 18-12-1973. لذا، وإعطاء كل ذي حق حقه، أذكر في يوم اللغة هذا، أن الفضل لله سبحانه ولعناية وإخلاص الأستاذ كامل حسن المقهور وأمثاله، لأنه اعتز بلغته ودينه وتاريخه وبلده، فكان خير مواطن وخير سفير للغته ووطنه. مدريد في 19-12-2020.