دأبت الدول، كبيرها وصغيرها، في كل آن ومكان، أن تقسّم ما يدور في أعاليها وبين مسؤوليها إلى عدّة مستويات من الأهمية والقيمة، فتخضعها حسب تلك المستويات لترتيبات خاصة ومحافظة أخص، فتعتبر بعضها عموميا يصل إلى الجميع، وبعضا آخر موقوف معرفته على دوائر معيّنة، وغيره لا حق للاطلاع عليه إلا لدائرة محدودة من المسؤولين، وهو ما اتفق على تسميته أسرار الدولة. وهذه الأسرار خضعت عموما وبين معظم الدول إلى قوانين، منها، متى يحق للعامة الاطلاع عليها. فبعض الدول تسمح بإذاعتها ونشرها للعموم بعد ثلاثين سنة وأخرى بعد خمسين، وهناك فرق أيضا في المدة المحددة بين أخبار وأخرى. فهذه تونسنا، التي رمتها عين الحسود، فأصابها ما نجت منه سابقا، فأخذ ينخر عظامها دود أتى لها به بعض أبنائها، استوردوه، أو، خدمة للغير، أطاعوا فاستوردوه لها، فها هي تشكو، وتئن بلسان الكثيرين من أبنائها الصالحين، دون أن يقدم أحد على القيام بأي عمل، غايته إخراج الوطن، الذي فقد مفهوم الوطنية، مما غرق فيه من تدهور، وافتقار مستمر متواصل، وانحلال اجتماعي، فتح الباب على مصراعيه للنهب، والسرقة، والاختلاس، والاحتكار، بلوغا إلى الجريمة، وانتهاك الحرمات، ولا ثمّة من يسعى لإيقاف هذا التيار المفسد الجديد، كأن الذي خطط للدمار والانهيار، وضع في حسابه سد الأبواب والطرق المؤدية للنجاة، فأحكم إغلاقها ووضع العراقيل على طول سبيلها. فتونسنا هذه، هل فيها أو لها قانون لحفظ الأسرار يحدد كم مدّة تبقى مخفية، ومتى يحق للناس أجمعين الاطلاع عليها؟ لا أستطيع الجواب عن هذا السؤال، لأني لا أعلم عن الموضوع شيئا، ولا أظن أن أحدا في البلاد، فكر فيبه أو تساءل عنه، وأشك، لأني لا أعلم، أن مؤرخينا، ولنا منهم المؤهلون القادرون المخلصون، من التفت لهذا الأمر، أو طالب بحقه في الاطلاع على أمور وأحداث مرّ عليها ما يكفي، لتصبح ملك الجميع. إن كلّ ما علمته، كغيري ولا شك، هو ما تفضل به بعض الوزراء وكبار المسؤولين في مذكراتهم، حيث الحقيقة مبتورة، والواقع غير واضح الوصف والسّرد، لأنهما مركزان على " الأنا "، وغايتهما، إن صحّا وصُدِّقا، إبراز النفس وأعمالها، وتبرئتها من كل ذنب وسوء. إن معظمنا، أغلبيتنا، لا نعرف عما جرى ويجري في بلادنا شيئا، سوى ما نلتقطه عن طريق القيل وقال، أو ما تنشره أحيانا بعض الصحف الأجنبية لغاية من الغايات، فنأخذه ونسلم به كأنه مقدّس، لا يأتيه الباطل ولا تشيبه شائبة من مكر، أو كذب، أو تخدير أو تزوير، لأننا موتى مما بنا من ظمئ، جعلنا كالغرقى نتشبث بأي شيء يطفئ ما بنا من شدّة العطش. إن عدم اطلاعنا على الحقائق ومعرفتنا إياها، في حينها أو بعد مرورها، لمّا كنا مستعمرين، قبلناه وفهمنا أسبابه، إذ هي جزء مما يريده المستعمر بنا وبشؤوننا. لكن رغم أملنا في تغير الأحوال والسِّيَر والتصرفات بعد الاستقلال، نرى أنّ دار لقمان على حالها، ولا مبدّل ولا مغيّر، بل اشتدّت الرقابة على الخبر، وانعدمت الشفافة وإظهار الحقائق، فكثر الكذب، واتسعت دائرة التأويل، وتهاطلت التهم بلا دليل أو برهان، وأصبحنا نعيش بالإشاعات عديمة الأساس، صعبة التصديق أحيانا، فبقينا في جهلنا تائهين. أما اليوم، بعد تغيير مفاجئ أطاح بالنظام القائم ليأتي بالفوضى، وهدم هياكل الدولة وأسسها، تضاعف جهلنا الحقائق فبقينا طعمة لما هو أخطر من جهل الحقيقة، وهو ما تروّجه وتعمّمه وسائل التواصل " المسكونة "، من أكاذيب وترهات ومناورات، معظمها مسرّب من ذوي الغايات والإمكانيات التقنية والمادية، بغية بلوغ غايات، أقل ما يقال بشأنها، أنها مشبوهة. كيف نخرج من هذه الدوامة؟ سل عن ذلك خبيرا! أما الفقير إلى ربّه كاتب هذه الأسطر، فلا حول له ولا قوّة لأسباب عدّة، أوَّلُها البعد عن الأرض وأهلها. رغم هذا فلا بأس في التذكير بحق المطالبة، والمثابرة في التحريض وتحريك الهمم، لأن معرفة الحقيقة تزيل كثير الأخطار والأضرار، الناتجة عن جهل الواقع، وتصديق الكاذبين المغرضين، وما أكذبهم عندما تسقط الشجرة فيتهافت عليها الحطابون، أو كما قال الشاعر الشعبي الليبي، سيدي قنانة: " كيف الجمل اللي تكسر ظهره ** واحد خذا السكين وواحد نحره ** وواحد خذا الساطور وتدنا له ** أسوق هنا أمثلة من ظروف ووقائع، جهل الحقيقة فيها جعل كثيرين يسقطون ضحايا خطئ أو استغلال. يعرف الذين كانوا يدركون خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، أن الباي محمد الأمين، رحمه الله، جلس على العرش نتيجة خلع المرحوم المنصف باي، وبقي الأمين جامدا بلا حراك إلى أن توفي سلفه، فأخذ يعمل بهدوئه وخجله المعهودين فيه. فهل ثمّة من يعرف لماذا؟ هل هناك من اطلع على الكثير مما جرى أيامها بدار الباي بحمام الأنف، التي كانت مركز الحياة السياسية التونسية ومحورها الرئيسي، فعلم واطلع على حقائق مما دار بين الباي والمقيم الفرنسي المتهوّر دي هوتكلوك؟ هل ثمّة من يدري ما هو الدور الذي قام به الشاذلي باي، ابن سيدي الأمين الأكبر؟ هل فينا من له بصيص من الدراية بسرّ ونتائج الاتصالات، والاجتماعات، الكثيرة المتكررة المتواصلة، التي كان يقوم بها المرحومان فرحات حشاد والمنجي سليم، لدى الباي سيدي الأمين وابنه سيدي الشاذلي؟ هل فينا من يعرف ما تمّ في تلك اللقاءات والاجتماعات من مخططات واتفاقات؟ أما إذا خرجنا من دائرة دار الباي بحمام الأنف، ودخلنا قصر الحكومة بالقصبة، فأي شيء نعرفه حقا عن وزارات محمد شنيق ومصارعاتها مع المستعمرين ومفاوضاتها وإياهم؟ أما بعد الاستقلال فالغموض أظلم والشفافية أقل. هل نعرف الحقيقة أو بعضها عن دور امرأتين، داخل قصر الرئاسة، قيل الكثير عن تدخلهما في السياسة الكبرى، فتسببتا في رفع مسؤولية العديد ممن فضلتا، وحطتا بمنزلة آخرين، أو عرضوا لمتابعات وأضرار؟ هل نعرف الأسباب الحقيقية المنيرة الموضحة لكثير الإجراءات والمواقف، بعضنا يدينها والبعض الآخر يباركها، ونحن لواقعها ومسبّباتها جاهلون؟ قيل الكثير وسمعنا أكثر، طوال سنين عديدة، عن التسابق لضمان الخلافة، عن طريق المناورات، والاتهامات، والوشايات، ووضع الشباك والحواجز، أمام المنافسين. لا شك أن كل ما سمعناه، وأكثر منه وأهم، قد بلغ آذان المخابرات، والشرطة السياسية السرية، وآذان المسؤولين ذوي الاختصاص، وهذا يؤكد أنه مسجل ومحفوظ في ملفات " اسرار الدولة" التي نتحدث عنها. فما الذي نعلمه، ويعلمه المؤرخون اليوم عن كل ذلك؟ يذكر الذين كانوا يدركون الأحداث ويفقهون خلال سبعينات القرن الماضي، اتفاق جربة الشهير، الذي وقعه كل من الرئيس بورقيبة والقائد القذافي يوحّد بين تونس وليبيا، اتفاق ألغي قبل أن يجف مداده، فانهال سيل من الآراء والأقوال، انصب أكثرها على أن بورقيبة قد غرّر به، وأن المصمودي لعب الدور من أصله، وغير هذا كثير، وهو إن دلّ على شيء، فإنما يدل على أن القائلين لا يعرفون الرئيس بورقيبة، ولا يعلمون درجة ذكائه وحنكته السياسية، ومقدرته على التخلص من أي شبكة أو أحبولة يراد إيقاعه فيها. كما أن أصحاب تلك الأقاويل لم يعرفوا شيئا عمّا كان يتمتع به بورقيبة من نظر بعيد، وحسابات أبعد، وهو أعلم من غيره بما في وحدة بين ليبيا وتونس من فوائد للطرفين، والشعبين، والمنطقة بأكملها. فئن قبل الجلوس إلى القذافي وتوقيع اتفاق بهذا المعنى، فلم يكن عن غرّة بل عن دراية وإيمان، لأنه يعلم أن الشعبين التونسي والليبي يحبذان، ويؤيدان، ويتمنيان تلك الوحدة. فمتى ومَن وكيف سيُفرج عن كل ما يسمى أسرار دولة، حتى نتبين الحق من الباطل، وأن نعتبر بما فيه عبرة، فنتجنب الأخطاء والعثرات؟ أملنا في الإصلاح كبير فلا نيأس، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وكما قال الشاعر: فإن يك صدر هذا اليوم ولى.. فإن غداً لناظره قريب