لا أحد اليوم يختلف حول صعوبة المرحلة التي وصلنا إليها ولا أحد يقلل من خطورة الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تهددنا كما لا أحد ينكر التردي في الأداء السياسي الذي تعاني منه الدولة و ليس هناك اليوم من يرى أن البلاد في أفضل أحوالها بل على العكس من ذلك… هناك تقريبا شبه إجماع على أننا نعيش أزمة عميقة متعددة الأبعاد وأن الحال قد وصل بنا إلى الحد الذي دخلنا فيه إلى نفق مظلم ومنعرج خطير ملامحه الكبرى إلى جانب الأزمات المعروفة ملمح الصراع على الحكم بين مؤسسات الدولة وصراع آخر بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة وهو صراع مآلاته خطيرة في ظل توازن القوى بين المتخاصمين فلا الرئاسة بكل ما تمثله مع الرئيس قيس سعيد قادرة على حسم معركتها مع منظومة الحكم وكل ما يقدر عليه الرئيس هو مزيد من تعفين الحالة السياسية من خلال معارضته الدائمة وكذلك المنظومة القائمة الممثلة أساسا في مؤسسة الحكومة ومؤسسة البرلمان ومنظومة الاحزاب غير قادرة على حسم خلافها مع الرئيس قيس سعيد الذي يعاديها منذ اليوم الأول لوصوله إلى قصر قرطاج مما يجعل الوضع العام بالبلاد يطغى عليه التوتر ولا يساعد على ممارسة الحكم في وضع مريح وهادئ كالذي كان يتمتع به وزراء الرئيس السابق بن علي. وأمام هذا المأزق السياسي الذي تعيش على وقعه البلاد منذ انتخابات 2019 يطرح السؤال حول دور الإعلام في تعاطيه مع أزمة الحكم هذه ؟ وهل كان أداؤه إيجابيا من أجل تنقية الوضع أم أنه استغل الحالة الرديئة ليزيد من تعفين الوضع وليختار التموقع الذي يناسبه من وراء صراع مؤسسات الدولة ؟ وهل ساعد الإعلام الشعب في التخفيف عنه من أزماته النفسية و إنارته بما يجري من دون تحيز وبتوخي معيار الموضوعية والنزاهة أم أن الإعلام قد واصل في استراتيجياته القديمة القائمة على التلاعب بالعقول وتوجيه الرأي العام و صناعة جمهور في اتجاه معين خدمة لأجندة ايديولوجية قد تكون معلنة وقد تكون مخفية وقد تكون لصالح جهات محددة في نطاق ما يعرف بتوظيف الإعلام في السياسة. سوف نختار ثلاثة محاور كبرى مثلت الحدث البارز في الآونة الأخيرة وأثرت على السلوك السياسي وكانت مساهمة بقوة في مزيد تدهور الوضع العام لنقف من خلالها على حقيقة أن جزء من الإعلام لم يكن يساعد على الوصول إلى حلول لمشاكل البلاد بقدر ما كان خطابه وأداؤه موجهين ومختارين ومقصودين في اتجاه تغليب صورة إعلامية على أخرى نتيجتها هرسلة المواطن والتلاعب به وحشره في زاوية نظر دون غيرها للوصول إلى صناعة رأي عام بذهنية معنية من ناحية والمساهمة مع الفاعلين السياسيين في خلق حالة من الارباك الفكري والنفسي لتزيد من حالة العجز عن الخروج من النفق والأزمة. المحور الأول هو قضية رفض رئيس الجمهورية دعوة الوزراء الجدد الذين زكاهم مجلس نواب الشعب لأداء اليمين الدستورية أمامه لمباشرة مهامهم في إجراء دستوري عادي محمول عليه. فكيف تعامل الإعلام مع هذا المشكل ؟ ما لاحظناه أن جانبا من الإعلام المرئي وكذا السمعي والمكتوب قد زاد من تأزم الوضع حينما لم يقدم المعطيات الأكثر معقولية وعلمية والتي مال إليها أكثر أساتذة القانون الدستوري حينما اعتبروا أن صلاحيات رئيس الجمهورية في موضوع أداء اليمين هي مقيدة دستوريا وغير قابلة للاجتهاد أو التأويل وأن قيس سعيد غير مخير في رفض أو قبول أداء اليمين الدستورية وأن رفضه قبول الوزراء الجدد لأداء اليمين أمامه هو إجراء مخالف للدستور. ولكن كيف قدم الإعلام هذا الموقف؟ في الحقيقة فإن جانبا من الاعلام حاول إخفاء هذا الموقف الدستوري القوي وإظهاره على أنه رأي من بين الآراء في اعتقاد من أصحاب بعض المؤسسات الاعلامية أن الانتصار لهذا الرأي الدستوري الداعم لحمل الرئيس على قبول الوزراء الجدد هو مساندة للحكومة وللحزام السياسي الذي حولها وبما أن هذه المؤسسات الاعلامية لها موقف سلبي من الائتلاف الحكومي لأسباب ايديولوجية فقد تم تهميش هذا الرأي الذي من شأنه أن ينهي الأزمة . المحور الثاني هو ما أصبح يعرف في أوساط الشارع التونسي ولدى المتابعين بلغز الظرف المسموم أو كذبة وإشاعة الظرف الذي وجه إلى رئاسة الجمهورية من طرف مجهول ويحتوي على مادة سامة كان يستهدف حياة رئيس الجمهورية قد اتضح بعد تحليل الظرف المشبوه من طرف الجهاز المختص بوزارة الداخلية أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد إشاعة وكذبة لا أساس لها من الصحة . فكيف قدم الإعلام هذه القضية الخطيرة ؟ وكيف تعامل مع خبر محاولة اغتيال رئيس الجمهورية بواسطة ظرف مسموم كاذب ؟ ما تمت ملاحظته أن جانبا من الإعلام غيب موضوع الايهام بجريمة وأخفى موضوع الإدعاء بالباطل وموضوع إرباك الوضع العام من خلال نشر خبر كاذب لا أساس له من الصحة يمس من أمن وسلامة الرئيس وتعامل مع هذه القضية الخطيرة بكل برود وحاول إلهاء الجمهور بقضايا أخرى جانبية حتى لا توجه الأضواء إلى مديرة ديوان الرئاسة التي وجهت إليها أصابع الاتهام بصناعة هذه الاشاعة وإخراجها إلى العموم والحال أن موضوع الظرف المسموم موضوع خطير للغاية يمس من أمن البلاد وسلامة الشخصية الأولى في الدولة وكالعادة فإن جانبا من الاعلام لحسابات أيديولوجية ضيقة تعمد تجاهل الفضيحة وخير إلهاء الناس بمواضيع أخرى. المحور الثالث يتعلق بما يحصل تحت قبة البرلمان من ترذيل لعمل البرلمان وتشويش متعمد على السير العادي لعمله من قبل كتلة الدستوري الحر وما تقوم به زعيمته يوميا من تعطيل وقطع متواصل لسير الجلسات في استراتيجية تتبعها منذ أن حلت نائبة به لإضعافه وتقديم صورة سيئة عن النواب عند الشعب… فكيف تعامل الإعلام مع ما تقوم به كتلة الدستوري من أعمال بلطجة واستقواء؟ ما وقفنا عليه من خلال متابعة الخطاب والأداء الإعلامي مع ما تقوم به زعيمة الدستوري الحر داخل المجلس هو أن جانبا من الإعلام متساهل ومتهاون مع تصرفات كتلة هذا الحزب ويتعامل مع ما يحصل من أحداث داخل قبة البرلمان بكثير من البرود ودون إدانة قوية ولا تحميل المسؤولية لهذا الطرف فيما آل إليه حال السلطة التشريعية بسبب تصرفاتها على عكس ما يقوم به مع أطراف حزبية أخرى والواضح أن بعض المؤسسات الاعلامية يعجبها ما يحصل من فوضى وتهور واستهتار لتوظيفه إعلاميا لصالح جهات سياسية تتموقع معها ايديولوجيا في معركتها القديمة مع بعض الأحزاب الموجودة اليوم في حزام الائتلاف الحاكم مما يجعل هذا الإعلام المسموع والمرئي والمقروء لم يساعد المرحلة الانتقالية ولم يساهم في الارتقاء بالسلوك السياسي للفاعلين السياسيين بل ساهم في زيادة كره الناس للسياسة والسياسيين وكرهم الثورة وكل ما جلبته معها بفضل خطاب اعلامي وأداء اعلامي لا ينتصر للثورة ولا يشهر بمن يعمل على إفشالها ولا يحمل المسؤولية للإطراف والجهات التي تتسبب يوميا في تعكير الأجواء وتعطيل كل تقدم نحو تحقيق أهداف الثورة.