بعض الشيء خير من لا شيء، لأن الكمال صعب المنال. لكن، بما أن من سار على الدرب وصل، وجبت استمرارية بذل المجهودات، لبلوغ الغايات، إذ ما ضاع حق وراءه طالب. بمثل هذه المفاهيم عملت دول كثيرة، فسارت وتقدمت وأحرزت على الكثير من حاجياتها، وحققت أكثر طموحاتها، فها هي في المقدمة نظاما، واستقرارا، وأمنا، وتطورا مستمرّا، لا يعرف الوقوف ولا الملل. كل هذا بعد أن أقامت نظام حكم وإدارة شؤون، يضمن أكثر ما يمكن من الحريات، والعدل، والمساواة، سَمِّه ديمقراطية، هو اليوم، بعيوبه ومحاسنه، أفضل ما بلغه الإنسان لإدارة شؤون الشعوب والبلدان. من بين الدول التي حققت هذا التقدّم، هذا البلد الذي يأوي هجرتي منذ عقود، وهو الذي أقارنه دوما ببلدنا، رغم إلحاح زميل خبير فطن، حاول ويحاول ردعي عن المقارنة لأن الأمر، حسب رأيه، يعود إلى الجينات. لم أرتدع، فلا زلت أقارن، لأن ماضي هذا البلد فيه الكثير مما مرّت به بلادنا وبلداننا العربية جمعاء. فمن مجد وسؤدد إلى انحطاط ووضاعة، بما في ذلك من شقاق وخلاف، وفقر واحتياج، تُوِّج بحرب أهلية، أتت بدكتاتورية وتسلطية، أفقدت البلاد وشعبها بقايا المجد، لكن استمر وتواصل الحفاظ على الأصول وعلى جذور الهوية وعلى الثقافة الموروثة. زالت الدكتاتورية بزوال زارعها، وانتظر العارفون والمتتبعون في العالم بأسره، خاصة ببلاد الجيرة، ما تنبأوا به من زلازل وتنافر، فكذَّب الشعب، تنبؤاتهم بوقوفه بكل شرائحه ومكوناته، بجميع ومختلف أصوله ولغاته، وقفة الرجل الواحد، تاركا جانبا كلّ ما من شأنه يُفرِّق ويُبْعد، وحقق تحوّلا مثاليا أبهت العالم، وأصبح عبرة وأسطورة، بسرعته وقصر مدّته التي لم تتعدّ الثلاث سنوات، - بين وفاة الدكتاتور نوفمبر 1975- وإعلان الدستور الجديد شهر ديسمبر 1978، فكانت بداية إرساء نظامه الجديد الذي يتمتع به إلى اليوم، أي أربعة عقود ونيف، هانئا مطمئنا بما أتاه له من ازدهار اقتصادي، وتطور اجتماعي، وإشعاع ثقافي أعاد للبلاد مكانها بين الدول المتقدّمة المتحضرة. كل هذا بلا جعجعة ولا قعقعة، بدون كلمات رنّانة، ولا عبارات واعدة كاذبة، بل إنجازات متواصلة حسب الإمكانيات تلبية لحاجيات والمطالبات. إن من أبرز ما تحقق استقلال القضاء الذي، كما أخبرت في حديث سابق، الذي حاكم وسجن أكثر من ثلاثين من كبار المسؤولين، ثبتت إدانتهم بالرشوة والفساد واستغلال المركز وما إلى ذلك. لم يسلم من متابعة القضاء ولا حتى زوج ابنة الملك الصغرى. الملك الذي يعتبر المحرك الأول للتحول والإتيان بالديمقراطية، حوكم صهره، وقدمت ابنته أيضا أمام المحكمة للتحقيق، فثبتت براءتها وسجن زوجها، وهو الآن قابع في سجنه كأي مواطن آخر. لعل هذا، وغيره، جعل أحد الزملاء، مراسل إحدى كبريات الصحف البريطانية يقول، ونحن نتابع المحاكمة وتحقيقاتها:" أعتقد أن ما يجري أمامنا هو مبالغة، جاءت نتيجة الحرمان الطويل من الحريات والعدالة." أيّا كان الدّاعي والسبب، فما هو إلا دليل عن استقلال القضاء، ومساواة المواطنين أمامه، إذ لا أحد يعلو على القانون. رغم هذا فلا يزال المواطنون يشكون ويطالبون بأكثر استقلالا، متهمين تدخلات السلطة التنفيذية فيه. أيّة سلطة؟ والذي دعا بي إلى العودة إلى هذا الموضوع، ما هو إلا مثول رئيسة حكومة إقليم مدريد السيدة ك.ف. أمام القضاء، بتهمة تزوير مستندات، وهي شهادة علمية قدّمتها في ملفها، ثبت أنها لم تُحرز عليها. جاء الاتهام، فنفت وأكدت – قولا – صحة وشرعية شهادتها، لكنها استقالت وها هي تحاكم – الأربعاء 21 يناير - ونحن الآن بانتظار صدور الحكم، بعد أن صرّحت القاضية السيدة ك. ر. بأن الشروح التي تقدمت بها المتهمة يصعب تصديقها خاصة وأن الورقة التي عرضتها برهانا عندما شاعت التهمة، مزورة قدّمت لها من طرف آخر." فالرئيسة السابقة معرضة لحكم قد يبلغ الثلاثة أعوام سجنا. لا ندعي هنا ونقول إن هذا البلد، وغيره كثر، قد بلغوا الكمال أو أنهم وأنظمتهم خالون من العيوب. كلا، إذ لا العقل ولا الحقيقة يقبلان ذلك، لكن نقول ونؤكد، أن غيرنا الذي سار قبلنا في الطريق الذي أدى بنا إلى الغرق حتى الرُّكب في طين التمويه واستعمال كبريات العبارات، وأبلغ الكلمات والمفردات، بلا عمل ولا إنجاز يؤكد ما يقال، ولا تنفيذ يأتي ولو ببعض ما الشعب والوطن في حاجة ماسة مستعجلة إليه. هنا أتساءل في حيرة وقلق، ألسنا بشرا مثلهم ومثل غيرهم من العاملين لما يقولون؟ أم هم بشر ونحن ماذا؟ أسئلة غير هذه كثيرة، بعضها موجع أليم، أحتفظ بها لنفسي، ولو أن هذا لا يمنع من لمس الحقيقة المرّة، وهي أن بلادنا تتقهقر بسرعة مذهلة خطرة، وانحدارها وكل ما يأتيها من سوء، هو من صنع أبنائها، يقولون ما لا يفعلون، يعِدون بما لا يستطيعون، ويبذلون الجهد كي يستفيدون ولا يُفيدون، بينما المنطق والإخلاص وما يفعله الآخرون، هو يُفيدون فيستفيدون، كأنهم يعملون بفلسفة المثل الشعبي القائل: "اللي يدردر العسل، يلحس صبعه." فحبّذا لو خلطوا العسل ولعقوا إصبعهم وحتى أصابعهم وأيديهم، لأن المقولة الحكيمة تفيد بأنّ " شنقة مع الجماعة خلاعة." لم يبق لي بعد هذا إلا أن أنبّه الذين سيطروا على مراكز الحركة وتسيير شؤون البلاد، أن يحذروا ويرحموا أنفسهم، لأن الشعوب تُمهل ولا تُهمِل، وأن صبرها له حدود، ويا ويل من يقف أمامها إذا نفد صبرها، فانتفضت لتزيح الظلم والاحتياج وتقصير المسؤولين. إن بطشها، إذا غضبت وثارت شديد مريع، لسنا في حاجة إليه ولا هو من طباعنا. فليتق كل مسؤول غضب الشعب ويأسه، وليقم بواجبه حسب المستطاع لكن بإخلاص وحرص على مصلحة الوطن بما فيه، وإن لم يستطع فليكن صريحا مع نفسه ووطنه، فيبتعد بسلام، تاركا المكان لغيره لعله ينجح فيما فشل فيه هو، فكما يقال " تبديل السروج فيه راحة:" إن العاقل من اعتبر بغيره. لذا أقول للضالين المنتهزين، وللعاجزين ولو مخلصين صادقين، افتحوا أبصاركم واعتبروا ما يجري قريبا منكم على ارض ليبيا الفريسة، وعلى مسافة غير بعيدة، ما جرى ويجري في سوريا واليمن. هل هذا ما يبتغيه ويرمي إليه المتزعمون؟ لقد ضاع وقت طويل ثمين، والمركب توشك على الغرق، أفيقوا يرحمكم الله ولا تكونوا كما كان شمشون فتقولوا " عليَّ وعلى أعدائي يا رب " إذ ليس فينا أعداء، بل منافسون أو مخالفون في الرأي، وأمنا واحدة هي تونس ومن أنجبت. إن الإخلاص لها، وهو سهل بسيط، هو إخلاص لأنفسنا، وفي فائدتها فوائدنا، كثرت أو قلت، ثم أن النهم والأنانية ضررهما أكثر من نفعهما ولا خير وأثمر من القناعة والنزاهة، والله يهدي إلى سواء السبيل.