تساءل الناس بحيرة بالغة عن الاسباب «الموضوعية» الضاغطة التي دفعت بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات الى اقتراح تأخير موعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي الى السادس عشر من أكتوبر عوضا عن الرابع والعشرين من جويلية (انظر مقالنا يوم أمس)، وها هم يتساءلون، اليوم، عن المبرّرات «الموضوعية» أيضا، التي استندت اليها الحكومة المؤقتة في تمسّكها بالموعد الأول. وفي الحالتين فإن التساؤل منطقي ومشروع ومطلوب لأن الحرية تتغذّى من السؤال، والديمقراطية تتطوّر على ايقاع البحث الدائم عن الحقيقة. لقد تناولنا في مقالنا اليوم بالدرس والتحليل مستندات مقترح الهيئة العليا للانتخابات تأجيل الموعد وواجهناها بالمبررات المضادة، تاركين الحكم النهائي للقارئ المواطن بعد أن وضعنا أمامه ما أمكن لنا استنتاجه من معطيات وفرضيات، وسنحاول في هذا المقال البحث في خلفيات ومقاصد قرار الحكومة المؤقتة التمسّك بالموعد الاصلي، فالحيثيات التي تضمّنها بيان الحكومة دقيقة وواضحة ومشدودة الى جملة من الالتزامات الرسمية المعلنة والموثقة، لكن لماذا وصل التباين في المواقف الى هذا الحد من المواجهة، وليّ الذراع؟ ألم يكن من الحكمة ايجاد صيغة توافقية قبل الاعلان عن المقترح؟ لاشك أن اللجنة العليا المستقلة للانتخابات قد درست المسألة من جوانب لوجستية وتنظيمية ومادية دقيقة، واقتنع اعضاؤها باستحالة اجراء الانتخابات في موعدها المحدد، ولكنها غفلت عن جوانب اخرى حسّاسة، كان من المفروض اخذها بعين الاعتبار، كتطلّع المواطنين الى دخول مرحلة الشرعية في أقرب وقت ممكن حتى تستعيد البلاد استقرارها، وتعود عجلة الاقتصاد الى الدوران بالنسق المطلوب، وحرص المستثمرين المحليين والأجانب على انتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الموعودة لتحريك اموالهم والتخطيط لمشاريعهم، والتزامات رئيس الجمهورية المؤقت والحكومة المؤقتة الرسمية والعلنية بموعد الرابع والعشرين من شهر جويلية، وتمسّك العديد من الاحزاب بهذا الموعد، وغيرها من المعطيات ذات التأثير الكبير والحاسم في مجرى الأمور. صحيح أن اللجنة، وكما هو منصوص في تسميتها، مستقلة وقراراتها لا تخضع الى أي اعتبار سياسي ضاغط، ولكنها معنية بالاوضاع العامة للبلاد، ويجب أن تكون متفاعلة معها. فهي لا تعمل في معزل عن المحيط السياسي والشعبي، وليست في قطيعة مع الواقع. وأعتقد أن أعضاءها المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، يدركون جيّدا أن استقلالية القرار، بقدر ما هي مقدّسة فإنها يجب أن تراعي الالتزامات الرسمية للمؤتمنين على الحكم حتى وإن كان ائتمانا وقتيا. ومن هذا المنظور فإن الحكومة المؤقتة ليست مستعدة للاخلال بالتزاماتها المعلنة تجاه الشعب، وهي جاهزة لمضاعفة الجهد قصد توفير المستلزمات الاساسية للعملية الانتخابية واختزال الوقت المطلوب في مساحة اقصر، كما جاء ضمنيا في البيان، ولكنها مطالبة، ايضا، باحترام استقلالية اللجنة. الأهم، الآن، هو العمل على ألا يتحوّل هذا التباين في المواقف الى صراع قد يعرّض المسار الديمقراطي برمّته الى الخطر، فنحن بحاجة ماسة الى مرحلة أساسية من التوافق والانسجام والعمل المشترك لتجاوز الصعوبات والعقبات والوصول بالعملية الانتخابية الى مرافئ التجسيم الفعلي في إطار النزاهة والشفافية.