أضرم اقتراح الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، الداعي الى تأجيل موعد انتخاب المجلس الوطني التأسيسي، لهيب الجدال في الأوساط السياسية والاعلامية والشعبية، وغذّى الشكوك والتساؤلات، وأثار الهواجس والمخاوف. وبالرغم من الموضوعية النظرية للمبررات التي تمّ الاستناد اليها في بلورة الاقتراح والاعلان عنه، فإن الحيرة اخذت أبعادا أشمل وأشدّ مما كان متوقعا. لم يكن الاقتراح مفاجئا لمتتبعي الشأن السياسي الداخلي، إذ كانت الأبواب مفتوحة بين اللحظة والأخرى، فالحكومة المؤقتة أعلنت، في وقت سابق، انها متمسكة بموعد الرابع والعشرين من شهر جويلية لكنها لا تتحمل مسؤولية تأخيره. وهذا «الاحتراس»، هو في القاموس السياسي إقرار ضمني بإمكانية التأخير، كما صدرت عن بعض أعضاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة اشارات تلمّح لفرضية التأخير مع تبرُّءٍ معلن من تحمل المسؤولية، ونادت العديد من الأحزاب بضرورة مراجعة الموعد لتأمين الإعداد الجيد له اذا كانت هذه الأبواب مشرّعة أمام مقترح التأخير فلماذا كل هذه الحيرة وهذا التساؤل المشحون بالشكوك والمخاوف إذن؟ إن المسألة في جوهرها لا تتوقف عند تأخير موعد الانتخابات، بل تمتد الى مسائل أخرى مرتبطة جدليا وعضويا بالقضية الأشمل، التي هي المسار الديمقراطي بجميع استحقاقاته. يتساءل الناس الآن هل يفتح مقترح تأخير موعد الانتخابات المجال أمام تغييرات أخرى في الالتزامات ومواعيدها، والأهداف ومقاصدها؟ وألا توفر هذه المساحة الزمنية الاضافية (ما يقرب عن ثلاثة أشهر) ملاذا للمطالبين بالتخلي عن المجلس الوطني التأسيسي والذهاب مباشرة الى الانتخابات الرئاسية والنيابية، بعد إجراء استفتاء شعبي على تحوير بنود من الدستور؟ ثم ألا يؤثر امتداد المرحلة الانتقالية أكثر من اللزوم، في إرباك الناس والتقليص من رصيد الثقة والاطمئنان لديهم، وتأخير استتباب الاستقرار النهائي في البلاد، وارجاء عودة المستثمرين المحليين والأجانب، واستعادة الاقتصاد الوطني لعافيته؟ فاللامتأكد هو أخطر الآفات المعرقلة للاستقرار والنمو. من هذا المنظور فإن الحيرة التي استبدّت بالناس، من نُخب وعامة، تتجاوز البُعد السياسي واللوجستي لتأخير الانتخابات لتشمل شؤونهم الحياتية وضمانات أمنهم واستقرارهم، ومصادر ارتزاقهم ومواطن عملهم. من هذا المنطلق تصبح المعادلة بين الضغوطات المسلطة على صاحب القرار، ومطالب الناس أمرا على غاية من العسر. لمن تكون الاستجابة والوضوح ل: «موضوعية» القرار أم لحتمية المطالب؟ تلك هي المسألة. بقي أن القول الفصل، في الديمقراطيات، من حق الشعب دون سواه، فلا يجب أن ننسى هذه الحقيقة الثابتة وإلا حكمنا على المسار الديمقراطي بالتعثّر منذ البداية.