من منّا مازال يذكر غسان كنفاني الذي اشتغل كمصحّح في عدة صحف سورية وفي الوقت نفسه واصل دراسته الجامعية الى أن التحق بسلك التعليم فتحوّل إلى أستاذ للطلبة الفلسطينيين اللاجئين في دمشق وانخرط في حركة القوميين العرب.. من منا مازال يذكر هذا الرجل الجميل الذي انفجرت به سيارته ذات يوم في بيروت فطارت أشلاء جسده في الهواء.. فكانت جريمة بشعة أخرى من جرائم إسرائيل التي لم تبرع إلا في «إنتاج» المجازر والمذابح والجرائم الناجحة كما لم يبرع سواها.. أمس مرّت ذكرى غسان كنفاني الذي أحبه وأحب تجربته الأدبية وأحبّ كل ما كتب من قصص قصيرة.. وروايات.. ومسرحيات.. صوّرت بعض الهمّ الفلسطيني كما لم يصوّره أحد.. إنني كلّما أتذكر رواية «رجال في الشمس» التي حوّلها المخرج المصري توفيق صالح الى فيلم سينمائي رائع يخيّل إليّ أن المأساة الفلسطينية بكل ابعادها وعمقها وتعقيداتها وهمومها وأحزانها ودموعها استطاع غسان كنفاني أن يضعها من خلال هذه الرواية في كبسولة صغيرة ما إن يلمسها الانسان حتى يهجم عليه طوفان من الحزن غير الجميل.. إنني عندما أتذكر أبطال الرواية كيف احترقوا.. وكيف اختنقوا.. بفعل الحرارة القاتلة وهم في الصندوق الخلفي على حدود قطر عربي سيتسللون اليه.. عندما أتذكر ذلك المنظر البائس ألعن الحدود العربية.. وأشك في قيمة الاخوة العربية.. وأراجع كل حساباتي العربية والقومية.. وأقتنع بأن أخوّتنا كذبة! وبأن عروبتنا كذبة! وبأن الوطن العربي الواحد كذبة! وبأن ما نتغنى به من قرابة عربية كذبة! وبأن الحدود العربية ليست كذبة! ومثلما كان محمود درويش نوّارة الشعر الفلسطيني.. وقيمة وقامة.. وسيّد الكلمة المجنّحة فإن غسان كنفاني كذلك كان نوارة الأدب الفلسطيني.. دون منازع.. لغته كالماء.. وأسلوبه عذب.. وصاحب أعمال ادبية رائعة.. وشامخة.. تستحق القراءة والدراسة.. ويؤسفني جدا أن الاجيال العربية الجديدة لا تهتم بتراثه ولا تستفيد بما تركه من مخزون أدبي وإنساني يرقى الى مستوى العالمية.. ولكن لماذا أتأسف وهل تقرأ هذه الاجيال أصلا.. بينما المكتبة العربية تكتظّ بالروائع الخالدة التي تشرف هذه الأمة.. وتضعها في مراتب الامم المتقدمة والمتحضرة على صعيد الأدب والفن والثقافة والتجارب الانسانية على الاقل.. ما أكثر الجرائم الاسرائيلية.. ولكن تصفية غسان كنفاني بتلك الطريقة الوحشية والهمجية تؤكد لدعاة السلام والاستسلام أن اسرائيل تذبح حتى من يحملون الأقلام ولا يحملون السلاح.. حتى من يزرعون الورد.. ولا يزرعون القنابل.. وغسان كنفاني لم يكن فدائيا.. او عسكريا.. ولم يكن يقاوم العدوّ بالبندقية والقنبلة ومع ذلك فلقد نسفه الموساد ودمّره تدميرا.. رحم الله غسان كنفاني الفلسطيني المسالم والجميل..