تقرّر نهائيا موعد ثاني انتخابات ديمقراطية نزيهة في بلادنا منذ الاستقلال أقُول «ثاني انتخابات» لأن الأولى كانت سنة 1956 لانتخاب مجلس تأسسي أيضًا، وقد أكد المؤرخون وأغلب الذين عاشوا أطوارها انها جرت في ظروف ديمقراطية نزيهة بالرغم من بعض «الانفلاتات» العابرة. كانت البداية محملة بالبشائر الديمقراطية قبل أن يَلْتفّ الحكم الفردي لبورقيبة على المسار الناشئ ويحوّله إلى ديكتاتُورية، بالرغم من قطرات الضوء ومساحات التحديث، والانجازات الاجتماعية التي تخلّلتها. لن أتسلل إلى تفاصيل الأسباب التي دفعت بزعيم تاريخي حداثيّ، ومسكون بالنموذج الأوروبي، إلى اتباع أحطّ مناهج الحكم، فتلك مسألة أخرى قد أعود اليها في مقالات قادمة، لكن المهم بالنسبة إلينا الآن هو كيفية التعامل مع الوضع الجديد بعد اقرار موعد الثالث والعشرين من أكتوبر. لابدّ من الإشارة، في البدء، إلى أن هذا التاريخ قد تمّ اقراره بشبه اجماع بين الحكومة والأحزاب والهيئات المعنيّة، وهو مؤشر ايجابي، قد يُمثّل منطلقا أساسيّا لمرحلة جديدة من الوفاق الوطني بعدما يقرب عن خمسة أشهر من الاختلافات والمزايدات والتجاذبات والصراعات، التي أرْبكت الناس وأثرت على الوضع العام في البلاد، وجعلت البلدان الديمقراطية والمؤسسات والمنظمات الدولية تتردّد في مساعدة الثورة وديمقراطيتها الناشئة. ولأول مرّة منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة تتجلّى ملامح الوفاق بين مكوّنات الساحة السياسية، ممّا يؤكد أن المسار قد اتخذ اتجاهه القويم، أي الاتجاه الذي يُيسّر فضّ المشاكل العالقة، ويعبّد المسالك الآمنة أمام الحكومة المؤقتة لانهاء حالات الفوضى والانفلات، وإعادة الناس إلى العمل ودفع حركة الانتاج واحترام القوانين، ويوفّر الظروف الملائمة للأحزاب والهيئات والمنظمات حتى تساهم في إنجاح الموعد الانتخابي، لأن في نجاحه بالشكل الديمقراطي المأمول، الانتصار الأمثل للثورة. لا أخفي اني شعرتُ، هذه المرّة، بالتفاؤل، ولمست الكثير من العزيمة في تصريحات قادة الأحزاب، وهم يؤكدون على أهمية الموعد الجديد وضرورة الاستعداد الجيّد له. لاشكّ أن هذا الوفاق التاريخي سيؤثّر، بالايجاب، على مسائل أخرى تتطلب حسمًا عاجلاً، كمسألة الدستور المنتظر، والجدال المضطرم بشأنه، بين المطالبين بتنقيح دستور 1959 والاستفتاء عليه، والمنادين ببعث لجنة من الخبراء في القانون الدستوري لاعداد نماذج مختلفة من الدساتير، يختار منها الشعب واحدًا، والمتشبّثين بترْك الأمر إلى ما بعد انتخاب المجلس الدستوري. فمع كلّ وفاق يشعر الشعب بمزيد من الاطمئنان، فينمو تفاؤله، وتُفْتَحُ أمامه آفاق محمّلة بالأمل، فليس أخطر على استقرار الشعوب، وخاصة الخارجية لتوّها من ثورات شعبية، من انشقاق النُّخب وصراعاتهم قد تكون الأحداث الأليمة والمخجلة، التي عاشتها، أخيرا، مدينة المتلوي قد أعادت الوعي للنخب السياسية، ونبهتهم إلى مخاطر انعكاس اختلافاتهم على الوضع العام للبلاد، ففهموا الدرس جيدا وأرادوا التعبير عن حسن النوايا. هذا مجرّد افتراض، لكن المهم هو أننا اكتشفنا طريق الصواب!