الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. عبد الحميد الأرقش ل«الشروق»: «التجمّع» ابن غير شرعي للحركة الدستورية
نشر في الشروق يوم 11 - 03 - 2011

الدكتور عبد الحميد الارقش مؤرّخ وأستاذ جامعي له كتابات في تاريخ تونس الاجتماعي كما درّس تاريخ الثورة الفرنسية طيلة سنوات وله إسهامات فكرية وسياسية، إنخرط في شبابه في الحقل السياسي حيث كان قياديا في الحزب الشيوعي التونسي الى حدود نهاية الثمانينات عندما اعتزل النشاط السياسي المنظّم وهو يرأس الان منتدى تونس للديمقراطية والحرية.
حاورناه من موقعه كمؤرّخ كيف يرى الثورة وافاقها يعيون المؤرّخ والمثقّف الملتزم .
٭ أنت متخصّص في التاريخ وكتبت فيه الكثير ودرّست الافكار السياسية والثورة الفرنسية،كيف تقرأ وتقيّم الثورة التونسية؟
لم يعد بالإمكان النظر الى الثورة التونسية بمعزل عن المحيط العام العربي والعالمي ونحن نرى عنف الزلزال الذي يهزّ مجتمعات حولنا وبعيدة عنّا. نحن امام حركة جديدة في التاريخ العالمي منطلقها تونس.
ففي بداية القرن الماضي نشأت القوميات العربية في ظروف الهيمنة الاستعمارية ثمّ تحوّلت إلى حركات تحرّر وطني بقيادة النخب وكانت تونس ايضا منطلقا لتلك الحركات حيث نشأت أولى النخب السياسية بالمعنى المعاصر وأولى التنظيمات النقابية وأولى الجمعيات المدنية للفكر التنويري (الخلدونية-قدماء الصادقية...) وأولى النشريات والجرائد .
ومن الأكيد أن شغف التاريخ سيعود في مدارسنا بعد ان سئمه التلاميذ طيلة عقود، لأن الانسان عندما يحرّر نفسه يعيد الاعتبار الى ماضيه ويسأل تاريخه .فالثورة التونسية لم تحرّرنا من اغلال الاستبداد والظلم فحسب بل وايضا عقولنا تحرّرت واصبحنا نشعر بمعنى المواطنة ومزايا الحرية وكذا تاريخنا فبعد ان كان عبءا علينا سيصبح حافزا لنا.
٭ كيف اكتنزت تونس تجارب التحديث ؟
الدولة لم تنتف عندنا وبقيت مستمرّة منذ قرون ومع استمرارية الدولة استمرّ الحراك الاجتماعي لاسيما في تونس وإعادة انتاج النخب (نخب العلم ونخب السياسة وحتى نخب الاقتصاد) وحتى الاستعمار عندما دخل ارضنا إضطرّ للتعامل معنا ككيان سياسي ومؤسساتي قائم فاستقرّ في شكل حماية خلافا للجزائر حيث لم يجد سوى حاميات تركية اجنبية فطردها وأخذ مكانها.
وتونس كانت منفتحة على العالم المتوسطي فكانت مركزا حرفيا وتجاريا مهمّا في المتوسط منذ القرن الثامن عشر وكانت مدينة امن وسلام فاستقرت فيها جاليات اوروبية عديدة اسّست لنفسها حيّا افرنجيا باكمله .
امّا من حيث الافكار والمدّ التحديثي فإنّ تونس كانت إحدى اهم مراكز المخاض الفكري والسياسي في حوض المتوسط منذ القرن التاسع عشر .فافكار ومبادئ الثورة الفرنسية شقّت طريقها إلينا وتفاعلت معها نخبنا منذ منتصف القرن التاسع عشر، فليس من باب الصدف ان تلغي تونس الرقّ سنة 1846 عشية زيارة احمد باي الى باريس، وان يردّ علماء الزيتونة على الدعوة الوهّابية منذ ذلك التاريخ وان يدعو خيرالدين صراحة الى الاستلهام من الدساتير الاوروبية لإصلاح نظام الحكم وان يدعو الجنرال حسين الى نشر التعليم العصري، وان نؤسس مدرسة باردو الحربية وبلدية تونس أولى البلديات العربية منذ 1858،والمدرسة الصادقية وتوضع القوانين الجنائية الحديثة على اسس وضعية وعهد الامان ودستور 1861...إنّها إبداعات النخب المحلية المتفاعلة مع العالم المتغيّر لكن في علاقات غير متكافئة لم تؤد الى نشأة الدولة الوطنية الحديثة وجاء الاستعمار الفرنسي ليعطّل ذلك المدّ لعدّة عقود .
المهم ان يعي الشباب اليوم أن هناك رصيد وطني تونسي للحداثة ومن الضروري تفعيله اليوم حتّى يساهم في تاصيل الكيان الحداثي وإعادة صياغة الفكر السياسي المعاصر في تونس بالعودة ايضا الى تلك المرجعية حتّى نتصالح مع تاريخنا بصورة نقدية واعية.
٭ هل كانت الحركة الوطنية في تونس امتدادا لحركة الاصلاح في القرن التاسع عشر؟
هي في جانب منها امتداد لها وفي جوانب اخرى قطيعة معها وتجاوز لها .التواصل نقرأه من خلال تبلور الفكر السياسي التونسي زمن الاستعمار فكتاب «تونس الشهيدة»لعبدالعزيز الثعالبي في 1920 اسّس للفكرة الدستورية وجعل من العودة الى تفعيل دستور 1861مطلبا وطنيا وكانت أولى الوفود الوطنية الى باريس تطالب البرلمان الفرنسي بالإقرار بأن دستور 1861 علّق ولم يلغ.
والتواصل نقرأه في نشأة الجمعيات العلمية والثقافية الأولى، فالجمعية الخلدونية هي وريثة العقل التنويري الزيتوني وجمعية قدماء الصادقية اسّسها الجيل الاوّل من ابناء خير الدين وكانت الرّحم الذي اولد النخب الوطنية الجديدة ومن بينهم الحبيب بورقيبة مؤسس الحزب الحر الدستوري الجديد.
والتجاوز نقرأه بالتزامن مع التواصل في جدلية اجتماعية فكرية خلاّقة وطريفة ليس لها مثيل على حدّ علمي في اي قطر إسلامي انذاك وسأكتفي ببعض الامثلة،فالشباب في تونس لا يعلم ان أول رئيس للاتحاد العام التونسي للشغل كان الشيخ الفاضل بن عاشور، وانّ اهمّ دراسة وأوّلها حول نشأة الحركة العمّالية في تونس كتبها الطّاهر الحدّاد وهو المتخرّج من الزيتونة مثلما كتب «امراتنا في الشريعة والمجتمع»والتجاوز نقرأه في قيام حركات اجتماعية ونظريات جديدة ولّدتها تحولات المجتمع زمن الاستعمار. فنشأة الحركة العمّالية والنقابية والتي أرّخ لها الطّاهر الحدّاد في كتاب رائع، مثّلت عنصرا جديدا في حياة التونسي بعد ان تحوّل الحرفي الصغير إلى عامل في المصانع الجديدة، وراعي القبيلة في جنوب البلاد إلى عامل منجمي.
ودفعت الهجرات الداخلية ابناء المطوية والحامة، والجريد، وقرى السّاحل الى الانبهار باضواء مدينة تونس والانخراط في حياتها الفكرية وتجديد ثقافتها بإدخال روح شعبية واجتماعية عليها. ولعلّ ما نعرفهم بجماعة «تحت السّور»في الثلاثينات هي خير من يعبّر عن تلك التحوّلات العميقة فالشّابي، والحدّاد، والدوعاجي، وخريف، والعروي، وهم عديدون مثّلوا حلقة الرّبط بين الفئات الشعبية والنخب السياسية الجديدة وعبّروا عن طموحات واحلام جديدة هي احلام الانعتاق والتحرّر من الاستعمار. بينما كان الحزب الحر الدستوري الجديد والتنظيمات التي انشأها من حوله نقابية،نسائية او حرفية العقل السياسي المنظّم والإطار التعبوي لتلك الحركة الصّاعدة،فكانت الحركة الوطنية بعد الثلاثينات حركة شعبية، مدنية رسمت ملامح الدولة الوطنية حتّى قبل الاستقلال.
٭ لكن كيف تحوّل الحزب من حزب الاستقلال وبناء الدولة الى جهاز قمعي متسلّط ؟
لابد قبل كل شيء من الفصل والتفريق بين الحزب الحر الدستوري كحزب الاستقلال، وبين الحزب الاشتراكي الدستوري كحزب بناء الدولة الوطنية وبين ما سمّي ظلما «التجمّع الدستوري الديمقراطي» والذي اعتبره شخصيا الابن غير الشّرعي للحزبين السّابقين رغم التواصل التنظيمي الشكلي. وإلاّ فسوف لا نفهم كيف انّ الرّجل الذي يسهر اليوم على حظوظ الانتقال الديمقراطي ولقي ثقة الرأي العام وهو السيد الباجي قائد السبسي هو الابن الشرعي للحزبين الحرّ الدستوري والاشتراكي الدستوري معا.
حزب الاستقلال انتهت مهمّته التاريخية الأولى مع استقلال البلاد وإعلان الجمهورية وإقرار دستور 1959 والحزب الاشتراكي الدستوري هو تواصل وتحوّل للاوّل مع نفس الزعامة التاريخية التي مثّلها الحبيب بورقيبة مع إدماج جزء من قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ممثّلة في شخص احمد بن صالح وتبنّي الفكرة الاشتراكية والتنمية الاقتصادية المعتمدة على دور القطاع العام، والتعاضد.
وشرعية الحزب الاشتراكي الدستوري كانت تستند الى المشروع المجتمعي الذي كانت تغذّيه الايديولوجيا الإصلاحية الدستورية، وواصل دوره القيادي الى حدود ازمة 1969 ونهاية تجربة أحمد بن صالح.
وبداية من السبعينات من القرن الماضي يمكن ان نتحدّث عن ازمة الدور القيادي للحزب الدستوري، وبدات التصدّعات داخله مع احمد المستيري، وكان للباجي قائد السبسي باع فيها، وتزامنت واقترنت تلك التّصدّعات بتفقير ملحوظ للحياة السياسية والخطاب السياسي داخل الحزب الحاكم واصبح يختزل السياسة في تمجيد الفرد والانجازات حتّى جاءت أزمة 26 جانفي 1978 والتي بيّنت ان الحزب الحاكم اصبح حزب دولة ولم يعد حزب مجتمع،واكثر من ذلك تحوّل الى حزب يقمع المجتمع ويقتل ابناءه وجاءت ثورة الخبز 1984 لتنهي مرحلة تاريخية تزامنت مع شيخوخة رجل عرف كيف يدخل الى التاريخ ولم يعرف كيف يغادر الحكم حتّى يبقى في التاريخ كما دخله.
لذلك اقول ان انقلاب 1987،جاء بعد الموت التاريخي للحزب الاشتراكي الدستوري، فوجد بن علي وهو الابن غير الشّرعي لبورقيبة،لانّ بورقيبة استنجد به كتقني للعنف Technicien de la violence.
وجد جهازا مفرغا، امتلأ بالمحسوبية، والانتهازية، ووجد مجتمعا ينتظر تغييرا حقيقيا فوعد التونسيين بالتغيير المنشود، واستحوذ على الجهاز الحزبي ووظّفه لفائدة حكمه الفردي.
ولكن حتّى في تلك المرحلة الجديدة فإنّه كان عليه ان يسلك في البداية سياسة متوزانة نسبيا، يراعي فيها انتظارات الشّارع والمجتمع، غير انّه بقي بالاساس رجل امن يخاف السياسة والسياسيين فاستهوته السّلطة والنزعات الغريزية البدائية فتحوّل الى مارد خافته واحتقرته النخب الحرّة والفئات الوسطى وشجّع النزعات الاستسلامية والانتهازية في كل المجالات، فأصبح الانتماء الى التّجمّع الدستوري الديمقراطي هنا في لغة التخاطب اليومي رديف للانتهازية النفعية والتنكّر للاخلاق. لذلك فإنّ الايّام الاخيرة لنظام بن علي اقترنت بأزمة ضمير وأزمة قيم شاملة حتّى في أوساط التجمعيين الصّامتين والذين لم ينزلقوا في براثن الفساد وزادت عائلته الطين بلّة فقد الغى بن علي السياسة وكادت عائلته ان تخوصص الدولة وثرواتها بأكملها.
٭ هل نفهم من كلامك انّه لن يكون لمن كانوا فيه اي وجود سياسي حتّى في احزاب أخرى؟ فكيف سيكون تاثيرهم في سير الانتخابات ككتلة انتخابية؟
التاريخ يحكم على التجارب والافراد ولا يحكم على مستقبل الناس،لا سيما ان حركة التاريخ حرّرت المجتمع بأسره بما فيها الالاف الذين كانوا يصفّقون داخل التجمّع ويناشدون إمّا قهرا او ادراكا .فالتجمّع الدستوري الديمقراطي قد مات كحزب سياسي بالمعنى الحديث قبل 14 جانفي بكثير ودفن يوم 14 جانفي بقطع النّظر عن شكليات محاكمته اليوم،لانّ العديد ممن يرغبون في العودة الى العمل السياسي مّمن كانوا داخله يريدون التخلّص من ذلك الجهاز المكروه والمنبوذ من الجميع.
والسؤال المطروح اليوم على ما تبقّى من العائلات الدستورية التي نريد ان تساهم في بناء المجتمع الديمقراطي والمشاركة في الحياة السياسية الى أي مدى ستكون لها الشجاعة والجراة السياسية ان تعلن قطعها مع الماضي،وتتحمّل قسطها من المسؤولية في كل ماجرى علنا،وتبيّن مدى استعدادها لاستخلاص الدروس من تغييب الديمقراطية التي منعتها على غيرها وأصبحت هي من ضحايا الاستبداد والحكم الفردي.
٭ لكن دكتور عبد الحميد الديمقراطية لم تكن في الموعد لا مع بورقيبة ولا مع بن علي؟
الديمقراطية هي الغائب الكبير في تاريخنا السياسي المعاصر والمفارقة ان الطموح الى الديمقراطية تزامن الى حدّ كبير مع طموحنا الى الحداثة والمساواة،غير انّ الحداثة تقدّمت اشواطا في مجتمعنا كذلك المساواة لا سيما بين الرجل والمرأة في حين بقينا ننشد الديمقراطية منذ عقود بلا طائل.
وهذا يفسّره التاريخ السياسي المعاصر لتونس فالحركات التحررية كانت في حاجة الى قيادات وزعامات وسرعان ماكان الفرد يلعب دورا محوريا في التعبير عن إختلاجات الشعوب خاصة عندما يكون متمكّنا من فن الخطابة ومن القدرة الشخصية،والذكاء وهذا ليس بالضرورة من الخصوصيات الثقافية لمجتمعاتنا العربية كما نقرأه في بعض الأدبيات، فبورقيبة وعبدالنّاصر لم يكونا وحدهما زعماء، هناك احمد سكارنو في اندونيسيا، وغاندي ونهرو في الهند، ومنديلا في جنوب افريقيا، وكاسترو في كوبا.
واليوم يبدو لي ان عهد الزعامات الفردية قد انتهى فالذكاء الفردي يعوّضه اليوم الذكاء الجماعي وشبابنا من خلال دوره القيادي في ثورة تونس هو تجسيد لفكرة الذكاء الجماعي. فلم يعد هناك مجال للزعيم الاوحد وللشيخ الاوحد وللعلاّمة الأوحد.
غير أن مسألة تغييب الديمقراطية في تونس المعاصرة تفسّرها بالإضافة الى تعاظم دور الفرد وطغيانه على الجماعة،ظروف تاريخية، ارتبطت بهيكلة وإيديولوجيا النظام السياسي المتولّد عن الحركة الوطنية نفسها .ففكرة الحزب الواحد، والحزب الدولة والدولة الوطن، وتداخل كل ذلك الى حدّ التشابك العضوي كانت مقبولة ومبرّرة باسم اولوية المهام التنموية والتأسيسية للدولة الوطنية وضرورة تجنيد وتعبئة المجتمع بأسره وراء مشروع واحد وحقيقة واحدة وكان الدّاعون الى الديمقراطية اقليّة لم يفهمها المجتمع ولم يع انذاك مقاصدها الى درجة انّه عندما قرّرت الدولة تعليق نشاط الحزب الشيوعي التونسي سنة 1963 لم يجد الشيوعيون محاميا للدفاع عن حقّهم في النشاط العلني إلاّ بصعوبة.
ولم يع المجتمع بأسره ضرورة ومزايا الديمقراطية الخالدة إلا مع أواخر السبعينات إثر التصادم العنيف بين الحزب الحاكم والاتحاد العام التونسي للشغل الذي دافع عن استقلاليته وبعد ان تصدّع الحزب الحاكم نفسه وانشقّت عنه المجموعة التي اسّست حركة الديمقراطيين الاشتراكيين حول السيد أحمد المستيري، وبعد ان انخرطت عديد النخب في حقل النشاط السياسي وروّجت للقيم الديمقراطية ولعبت الحركات اليسارية في الجامعة وخارجها دورا ملحوظا ممّا مهّد لعودة محتشمة الى التعددية سنة 1981 مع الإعتراف بعدد من الاحزاب مثل الحزب الشيوعي وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الوحدة الشعبية...
كذلك لا ننسى ان الانحرافات الاستبدادية والتفرديّة وحتّى القمعية لها محطّاتها والتي من المفيد التذكير بها فالصراع الذي حصل داخل العائلة الدستورية سنة 1955 حول الاستقلال الدّاخلي بين انصار صالح بن يوسف وانصار الحبيب بورقيبة تحوّل الى صدام دموي وتصفيات ومهّد ذلك المنعرج الى النزعات القمعية داخل السلطة الناشئة ومحاولة الانقلاب اليوسفي على بورقيبة زادت الطين بلّة فالغى بورقيبة كل ما من شأنه ان يمسّ من هيبة الدولة على حدّ قوله انذاك فمنع حتّى الحزب الشيوعي والذي لم يكن له باع في ما حصل وأوصد الابواب وكمّم الافواه.
والمحطّات الثانية كانت في القمع العنيف لاحتجاجات الشباب في 1967 و1968 فأولى الاجيال الجامعية في تونس خرجت عن الاجماع الدستوري ومالت الى الافكار الاشتراكية واليسارية عموما وتظاهرت وطالبت بالديمقراطية فكان نصيبها القمع والسجون والتعذيب واصبح ينظر الى بورقيبة ونظامه في اوساط واسعة من الشباب المثقّف على أنه حاكم ظالم وقامع للحرية.
وفي اخر عهد بورقيبة،ومع بن علي كان الصّدام مع الحركة الاسلامية التي راى فيها بورقيبة اكبر خطر على الدولة الحديثة التي بناها،وراى فيها بن علي اخطر منافس لسلطته الفردية،فقمعت تلك الحركة بعنف شديد مع بداية التسعينات،وهنا لابد من الإشارة الى انّ فئات واسعة من اليسار صمتت على ذلك القمع وكأنها قبلت ان تقوم الدولة القمعية بدور السدّ امام تصاعد المدّ الإسلامي،وسرعان ما شملها القمع والاستبداد.
لذلك فإنّ ثورة تونس اليوم من مهامها التاريخية بناء المجتمع الديمقراطي وسدّ الطريق على نزعات العودة. فالديمقراطية هي الرئة المعطّلة منذ عقود واعادت الثورة حيويتها حتى نتنفّس هواء الحرية .ولعلّ اهمّ ما يجب ان يجمع عليه التونسيون اليوم هو قداسة الحرية،فالديمقراطية هي مستقبلنا ولا مستقبل لنا بدون ديمقراطية.
٭ كيف ترون مستقبل المشهد السياسي في تونس وماهي مخاوفك حول التجربة الديمقراطية في تونس؟
يخطئ من يتصوّر ان نجاح الديمقراطية رهين بتزايد عدد الاحزاب في المشهد السياسي، هناك حوالي 50 حزبا بين قديم، وجديد ومستحدث ينتظر التاشيرة. ولو انّ هذا يعكس حركية مشروعة لمجتمع كان يعاني الغبن والكبت السياسي وانفجر من أجل الحرية المسلوبة، فمن الطبيعي ان نرى مثل هذه الحركية غير ان هذا المشهد سيتّجه حتما على المدى المتوسط نحو التوازن والاستقرار.
والمجتمع السياسي المهيكل او حتى غير المهيكل او حتى غير المنظم في احزاب امامه تحد كبير اليوم وهو النجاح في اوّل امتحان سياسي تاريخي، هل ستنجح الطبقة السياسية والمجتمع في انتخاب مجلس تاسيسي قادر على صياغة دستور جديد يؤسس لحياة ديمقراطية دائمة ويحافظ على مكاسب تونس الحضارية ويضعها في موقع متقدّم عالميا؟
هذا التّحدّي لا يحتمل الانتظار حتّى موعد الانتخابات فالدستور سيحدّد مستقبل البلاد والاجيال لمرحلة تاريخية طويلة ولا يجب ان يعكس مصلحة جزء من المجتمع، أو جانب من قيمنا على حساب قيم أخرى.
فلابد من ان نصل جميعا بدون استثناء الى وفاق وطني حول جملة من المبادئ والقيم تصبح ميثاقنا جميعا قبل الانتخابات،مبادئ يتّفق عليها الجميع في ضمان دائم للحرية،وحق الفرد والجماعات، وبلورة مبدا الحرية في فصل السّلط وإقامة السّلط المضادّة والتنصيص على قيمنا الحضارية التي كافح من اجلها الشعب التونسي منذ أكثر من قرن.
هذا الميثاق، ميثاق المواطنة والحرية يمكن ان ينجح في التهيئة لفلسفة الدستور الذي نريد،ويكون قاعدة للوفاق ولم لا للانتخابات نفسها.
فلنتّفق حول الدستور ولنختلف بعده، لأنه هو وحده الكفيل بإدارة خلافاتنا وحتّى صراعاتنا المستقبلية على قواعد سلمية، ديمقراطية تضمن حق الأولويات السياسية والفكرية وتحدّ من نزعات الاغلبيات نحو التسلّط والتفرّد بالقرار.
والمجتمع المدني له دور أساسي في رفع هذا التحدّي، عليه ايضا ان يعيد هيكلته وان ينخرط بجدّية في البناء الديمقراطي،وان يكون عبر جمعياته،ومنابره القديمة والجديدة قوّة دفع في هذا الاتّجاه لانّ الاحزاب قد تميل الى الحسابات الانتخابية والتحالفات الجزئية في هذا الظرف، في حين ان المجتمع المدني بحكم استقلاليته ولو نسبيا عن المجتمع السياسي المنظّم يتمتّع بهامش أكبر حتّى يدفع كل الأحزاب في إتّجاه وفاقي نحن في حاجة إليه جميعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.