كثر حديثنا هذه الايام.. عن الهيئات المستقلة في ربوعنا بل إن هذه الهيئات عندنا قد بدأت تفاخر باستقلاليتها.. وتدعو اليها وتتباهى الواحدة منها على الاخرى بأنها مستقلة.. والمسألة قد أصبحت تخص أغلب هيئاتنا.. مثل هيئات القضاء والمحامين وحتى النقابات.. وغيرها من هذه الهياكل التي تنوب الناس وتتكلم باسمهم وتدافع عن مصالحهم العاجلة والآجلة. ولقد أصبحنا نسمع في خضم كل هذا.. من يقول أن هيئة القضاة أو نقابتها مستقلة.. وأن نقابة الامن كذلك.. وأن هيئة المحامين أو الخبراء أو غيرهم قد أصبحت بدورها تنعم بهذا التميز في فترة ما بعد الثورة خاصة.. الحقيقة.. أننا مطالبون بالتوقف عند هذه المسألة بالذات ليس من باب التشكيك فيها.. ولا لأننا نرفض هذه الاستقلالية.. أو نعتبرها زائدة وفي غير محلها.. بل لأن بعض العارفين من بيننا يعتبرون بأن حديثنا وحديث هيئاتنا عن الاستقلالية.. قد يتضارب مع الحقيقة ومع الواقع وقد لا يعبّر عنه ولعله يعني أشياء غير سليمة. من ذلك أننا عندما نقول أن هذه الهيئة أو تلك تتمتع بالاستقلالية فهذا يعني أنها.. تملك لوحدها كل السلط.. ولا تخضع في ذلك لأية سلطة أخرى أو لأي هيكل آخر.. مما نراه مناقضا لواقعنا.. والذي يؤكد أن كل هيئاتنا تنتمي لهياكل معينة.. بل ان العاملين بها والمسؤولين عنها يعملون غالبا بصفة موظفين بالدولة.. مما يعني أنهم يتقاضون أجورهم منها.. وبالتالي.. فقد لا يمكنهم القول أنهم مستقلون أو أنهم يملكون بمفردهم حق تقرير المصير.. أو حتى أخذ القرار.. غير الخاضع وغير المرتبط.. بالهياكل التي ينتمون إليها.. وأشرح وجهة نظري بأسلوب آخر أوضح، وأقول.. أن كل هذه الهيئات التي تتحدث عن الاستقلالية والاستقلال وكذلك الهياكل الرسمية التي تفعل نفس الشيء.. وحتى اذا لم تكن خاضعة فعلا في قراراتها وتصرّفاتها للغير وحتى اذا تميزت بالحرية في التصرف في شؤونها وشؤون منظوريها فقد لا يمكننا أن نصف ما تتمتع به في ذلك بالاستقلالية.. أو بالاستقلال. ذلك أن ما تنعم به هذه الهيئات من حرية.. ومن حق في التصرّف ومن حرص على تجسيد الشفافية والنزاهة والذي نعتبره مكسبا هاما من المكاسب التي تحققت لفائدتها في مرحلة ما بعد الثورة.. فهذه مسألة قد نصفها بالحياد.. وسوف نطالب بتعميمها بل إننا نتمنى أن تكون مجسّمة ضمن أعمال كل هيئاتنا ولجاننا وهياكلنا مثل القضائية والأمنية والادارية وغيرها. أقول هذا.. ولا أخص به مرّة أخرى الهيئات غير الرسمية فحسب لأن القاضي مطالب في كيفية أدائه لمهامه السامية بممارسة الحياد التام وبعدم الوقوف الى جانب طرف ضد طرف آخر ولا عون الامن أو المسؤول الأمني مطالب بدوره بفعل ذلك وكذا الشأن بالنسبة بالنسبة للصحفي وللطبيب وللإداري وللسياسي وللمسؤول عموما والذي نطلب منه في هذه المرحلة من حياتنا وحتى في المراحل المقبلة منها غير الالتزام بالشفافية وبالوضوح في إطار الحياد.. وممارسة الشفافية والوضوح والتجرد من الرغبات الخاصة والشخصية وغير التعامل معنا ومع ما ينجزه لفائدته بواسطة الملفات المعروضة عليه.. دون البحث عن مصالح أصحابها.. وذلك وفق المصلحة العامة وبالاعتماد على القانون دون سواه.. ولاشك أن هذا الذي نطلبه من كل هؤلاء.. لا يعنيهم لوحدهم.. لأنه يخص كذلك كل المشرفين والعاملين بالهيئات النقابية والسياسية والمهنية.. والتي لا يمكنها أن تحقق النجاح بدون الالتزام بمبدإ الحياد.. وهو مبدأ سوف يسهم بدون شك في مزيد تطوير أعمالها وفي تمكينها من أداء واجباتها.. بروح وطنية.. وبنزاهة وبصدق.. أما عن الاستقلال والاستقلالية.. والتي قد تعني لنا التفرد التام بأخذ القرار فهذه مسألة قد لا يمكنها الا أن تكون لتونس ولتونس وحدها والتي لا نريدها الا مستقلة.. في كل شيء.. وبكل شيء.. ومع الجميع وعنهم.. بما في ذلك مجموعات البلدان التي نتعامل معها.. أو حتى التي تموّلها. هذه ملحوظة بسيطة.. قد حملني البعض مسؤولية إثارتها.. وها أنني أفعل.. ولقد طلبوا مني أن أذكر هذه الهيئات من رسمية وغيرها.. بألا تصف اعمالها مستقبلا بالمستقلة.. وأن تعوض هذه الكلمة بالحياد.. لأنها تمارس الحياد.. ولا يمكنها أن تدعي الاستقلال والاستقلالية.. ولأن الهيكل المستقل لا يمكنه أن ينتمي لهيكل آخر ولأنه من حقه أن يكون مستقلا في كل شيء وأن يكون له علمه (درابوه) الخاص.. وسلطته المطلقة وهذا ما لايمكنه أن يتوفر الا للدول وما لا يمكننا ان ننادي به الا لفائدة تونس.. الدولة المستقلة. آمل أن أكون قد أسهمت.. في تبليغ وجهة النظر السليمة في هذا الشأن حتى ننجح معا في المستقبل في تسمية الاشياء بأسمائها الحقيقية.. وحتى لا تتحول بعض هيئاتنا الى ما يشبه الدويلات التي تعمل داخل الدولة التونسية.