الداخليّة تنفي تعرّض المحامي مهدي زقروبة للتعذيب وتتوعّد بمقاضاة هؤلاء    ارتفاع عجز الميزان التجاري للطاقة بنسبة 9 % الى 3025 مليون دينار موفى مارس 2024    شكاية حول شُبهات الفساد بين المَجمع الكيميائيّ وشَركة ''الكيميا ''...و هذه التفاصيل    السعودية تطلق خدمة جديدة للقادمين إلى المملكة ب''تأشيرة حج''    كأس تونس: تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    عاجل/ السجن 8 أشهر ل 50 مهاجرا من إفريقيا جنوب الصحراء..    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    وزير الفلاحة: الترفيع في طاقة استيعاب سد بوهرتمة    الاقتصاد التونسي يسجل نموا ب2ر0 بالمائة خلال الثلاثي الأول من 2024    رئيس الجمهورية ووزيرة المالية يتباحثان ملف التمويلات الأجنبية للجمعيات    محمد عمرة شُهر ''الذبابة'' يصدم فرنسا    عرب يتعاملون بالعملات المشفرة.. و هذه الدولة في الصدارة    الرئيس سعيد يبحث مع وزير الداخلية الوضع الأمني العام في البلاد ويؤكد على فرض احترام القانون على الجميع    التمويلات الأجنبية المتدفقة على عدد من الجمعيات التونسية ناهزت 316ر2 مليار دينار ما بين 2011 و 2023    ماذا في اجتماع هيكل دخيل بأعضاء "السوسيوس" ؟    عاجل : جماهيرالترجي تعطل حركة المرور    الترجي الرياضي التونسي في تحضيرات لمواجهة الأهلي    بطولة النخبة الوطنية لكرة اليد: الترجي الرياضي والنادي الافريقي في لقاء النهائي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    وزارة التربية تعلن قبولها ل100 اعتراض مقدّم من الأستاذة النواب    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    ضبط معدات لاسلكية لاستغلالها في امتحان الباكالوريا    مفزع/حوادث: 15 حالة وفاة خلال يوم فقط..    فظيع/ هلاك كهل الخمسين سنة في حادث مرور بالقيروان..    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    بوكثير يتابع مدى تقدم مشروع البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    كتاب «التخييل والتأويل» لشفيع بالزين..الكتابة على الكتابة اعتذار عن قبح العالم أيضا    ناجي الغندري يدفع المجلس البنكي والمالي نحو دعم الاقتصاد الوطني    حزب الله يستهدف فرقة الجولان بأكثر من 60 صاروخ كاتيوشا    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    سيدي بوزيد: يوم جهوي للحجيج    طقس اليوم ...الحرارة في ارتفاع ؟    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    ديوان السياحة: نسعى لاستقطاب سيّاح ذوي قدرة إنفاقية عالية    أخبار المال والأعمال    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    محكمة العدل الدولية تنظر "وقف العمليات العسكرية في رفح"    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    ينشط في عديد المجالات منها السياحة .. وفد عن المجمع الكويتي «المعوشرجي» يزور تونس    المقاعد في رادس محدودة والسوق السوداء تنتعش .. أحباء الترجي في قمة الاستياء    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الحق في الإعلام وحرية التعبير
أخلاقيات مهنة المحاماة وكرامة المحامين..
نشر في الصباح يوم 24 - 03 - 2009

أثارت بعض البرامج التلفزية التي بثت في المدة الأخيرة ردود فعل مختلفة سواء في أوساط المحامين أو الإعلاميين أو الرأي العام الوطني بصفة عامة نظرا للمواضيع التي تناولتها والمتعلقة ببعض القضايا ذات الطابع الاجتماعي

والتي كانت محل نزاعات قضائية وكان من بين الحصص التي شدت الانتباه وشغلت البال الحصة التي وقع بثها يوم 12 مارس الجاري والتي تعرض فيها معدوها الى تجاوزات احد المحامين مما جعل عميد الهيئة الوطنية للمحامين يصدر بيانا في الرابع عشر من هذا الشهر اعتبر فيه ان ما تضمنته تلك الحصة نيلا " من سمعة المحاماة ومسا بكرامة المحامي ولسان الدفاع وتجاوزا خطيرا للقانون".
ثم تلاه بيان آخر صدر عن الهيئة الوطنية للمحامين التي عقدت جلسة طارئة يوم 17 من الشهر الجاري أعلنت فيه عن جملة من القرارات منها "القيام بالإجراءات القضائية اللازمة لمنع بث كل البرامج التلفزية أو الإذاعية التي من شأنها النيل من هيئة المحاماة وكرامة المحامين" وإعلام المحامين بان "المشاركة في أي برنامج لا بد له من الاستئذان من عميد المحامين ويراعى في ذلك موضوع البرنامج ومحتواه بما ينسجم مع حرمة المحاماة وقانونها وأخلاقياتها وتقاليدها" وجاء في هذا البيان بالخصوص مطالبة السادة رؤساء الفروع "بإجراء التتبعات التأديبية اللازمة ضد كل الزملاء الذين ثبتت مخالفتهم للقانون وأحالتهم على مجلس التأديب وعلى عدم المباشرة "
ان البيانين يثيران تساؤلات وملاحظات يتعين الوقوف عندها.
أولا : نبارك الحرص الدائم للهيئة الوطنية للمحامين والسيد عميدها على صيانة كرامة المحامين وحرمة لسان الدفاع ومن الطبيعي ان يكون هذا الحرص المحمود ديدنها طالما ان ذلك من مهامها باعتبارها منتخبة وهي الممثل الشرعي الوحيد للمحامين وان ما جاء في توطئة البيانين تجسيم هذا التوجه الذي دأبت عليه الهيئة وعميدها باعتبار ان لسان الدفاع مساعدا للقضاء لا يمكنه ان يؤدي وظيفته السامية والنبيلة إلا إذا كان مستقلا ولا يتأتى ذلك إلا بإقرار ضمانات ناجعة لحماية المحامين وصون كرامتهم وعدم النيل من شرفهم وسمعتهم وتجنب هتكها بصفة مجانية. ولا شك ان الدافع الى إصدار البيانين يتنزل في هذه الغاية الأمر الذي يستحق كل الثناء.
ثانيا: يبدو ان ما " أفاض الكأس " هو التعرض في الحصة التلفزية التي بثت يوم 12 من الشهر الجاري الى تجاوزات ارتكبها احد المحامين باستخلاصه لغرامات مالية هامة لحرفائه وامتناعه من تسليمها لهم علما بان هذا التصرف فضلا عن منافاته لأخلاقيات المهنة مخالف أيضا لقانون المحاماة عدد 87 والمؤرخ في 7 سبتمبر 1989 إذ ان الفصل 43 من هذا القانون يوجب على المحامي "عند قبض أموال راجعة لمنوبيه ان يسلمها لهم في ظرف شهر على أقصى تقدير وعند التعذر يودعها بأسمائهم في صندوق الودائع والامانات بالخزينة العامة في اجل عشرة أيام من انقضاء ذلك الشهر" ولا شك انه إذا ثبتت صحة الواقعة فان المحامي المتحدث عنه قد اخل بواجباته مما يجعل التجاوزات قائمة في حقه وإذا كان الأمر كذلك فلماذا هذه الضجة الكبيرة التي أحدثتها هذه القضية؟
يرى بعضهم ان الطريقة المتبعة عند عرض هذه القضية تمس بسمعة وكرامة المحامين وانه ربما كان بالإمكان الاقتصار على الإشارة بان الجهات المختصة متعهدة بهذا الموضوع دون الدخول في الجزئيات المؤثرة والتشهير الملح بمثل تلك التصرفات.
ومهما يكن من أمر فان مُعدي البرنامج قد الحوا مرارا على ان تلك الاخلالات هي حالة استثنائية تحفظ ولا يقاس عليها وقد حضر الحصة ممثل عن الفرع الجهوري للمحامين بتونس.
وفي اعتقادنا ان الأمر فعلا كذلك لان الأغلبية الساحقة من المحامين يمارسون مهنتهم بكل جدية وأمانة وان العديد من الشكايات المرفوعة ضد القليل منهم واهية ومجردة من كل دليل إلا انه عندما تثبت صحتها فان الفروع والهيئة الوطنية تمارس صلاحياتها وتتخذ الإجراءات اللازمة لان في ذلك حماية لهذا السلك وضمانا لمصداقيته وثقة عامة الناس فيه.
ثالثا: في اعتقادنا انه بقطع النظر عن سلك المحاماة فان تعرض وسائل الإعلام لبعض التجاوزات مهما كان مرتكبوها مصدرها أمر ايجابي بل هو في مقدمة مهامها لعدة أسباب منها ان ذلك يساهم في تجنب تلك التجاوزات في المستقبل كما انه لا احد فوق القانون في دولة القانون وهو مبدأ له مرتبة دستورية اقره صراحة الفصل الخامس الجديد من الدستور بالإضافة الى ان الكشف عن التجاوزات يساعد على حل مشاكل ضحاياه وإنصافهم.
وأخيرا لا ننسى الحق في الإعلام وحرية التعبير والصحافة التي اقرها أيضا الدستور وقد اجمع شراح القانون والسياسة على أنها من المكونات الأساسية للديمقراطية التحررية واعتبرها المجلس الدستوري الفرنسي في قراره الصادر في 10 أكتوبر 1984 بأنها "إحدى الضمانات الأساسية لاحترام بقية الحقوق والحريات" لأن حرية الصحافة تمكن المواطنين من الاطلاع على ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالبلاد وتشمل هذه الحرية طبعا الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة ومن مكونات هذه الحرية الحق في الإعلام والحق في تلقي المعلومات لان أجهزة الإعلام مدعوة الى القيام بمهامها وممارسة حقوقها في حدود الضوابط التي اقرها المشرع كما ان من حق المواطنين ان تزودهم وسائل الإعلام بكل المعلومات التي تهم الشأن الوطني والعالمي وبالخصوص ان تهتم بمشاغلهم اليومية والمشاكل التي تعترضهم في حياتهم.
غير ان حرية الصحافة والحق في الإعلام ليسا مطلقين إذ هناك ضوابط وأخلاقيات ومبادئ يتعين التقيد بها في مقدمتها عدم التعرض للحياة الخاصة للأفراد ومن مكوناتها المعطيات الشخصية وعدم هتك الأعراض والنيل من كرامة الأفراد أو سمعة السلك أو الهيئات ومعلوم ان مجلة الصحافة تتضمن العديد من الأحكام الجزائية التي تُجرّم العديد من الأفعال المرتكبة بواسطة أجهزة الإعلام وقد خصص لها المشرع الفصول من 42 الى 78 وبالتالي فان وسائل الإعلام مطالبة باحترام تلك الضوابط وعدم تجاوزها وغني عن البيان انه عند التعرض لبعض التجاوزات يتعين عدم الخلط بين التصرفات الفردية الشاذة وبين تصرفات بقية المنتمين الى سلك ما على أساس ان انحراف احد أفراد هيئة أو مجموعة لا يعني إطلاقا ان كامل السلك مذنب.
وعلى كل حال فلا احد يتحمل وزر تصرفات غيره.
على ان تناول بعض القضايا والتجاوزات ان وجدت يجب ان يكون خاضعا لجملة من الضوابط والقيود من أهمها ان يكون ذلك بكل موضوعية وهدوء وبدون تشنج أو تحامل مفرط أو تهويل مفزع للأمور أو انتقادات لاذعة أو أراء مسبقة وخاصة عدم المس بالهيئات الرسمية والمهنية بمختلف أنواعها حتى لا يقع النيل بصفة مجانية منها ومن كرامة المنتمين إليها، كما انه حتى في صورة وجود اخلالات أو أخطاء فان التعرض لها ينبغي ان يكون بأسلوب حضاري وبكل تحفظ واعتدال، كما ان النزاهة في طرق مثل تلك المواضيع الحساسة تقتضي إعطاء الفرصة لكل الأطراف لتوضح مواقفها وتدافع عن نفسها ولا يمكن الاقتصار على سماع طرف واحد وفي هذا السياق يقول عمر ابن الخطاب "إذا سمعت حجة الآخرَ بَانَ القضاء".
وفي اعتقادنا انه من الضروري الكف عن استعمال بعض الطرق التي تأباها الأخلاق ويحظرها القانون مثل التقاط الأصوات والصور خفية بدون علم ورضا أصحابها إذ في ذلك اعتداء على حرمة الحياة الخاصة التي ضمنها الدستور ومن مظاهرها الحق في الصورة.
كما ان طرق تلك المواضيع لا يمكن ان يكون في شكل محاكمات حتى لا تنقلب بعض البرامج الى "قضاء متوازي" في حين انه لا وجود في البلاد إلا لسلطة قضائية واحدة كما انه من أهم الضوابط الأساسية عدم التطرق الى النزاعات التي مازالت على بساط النشر أمام القضاء أو انتقاد الأحكام القضائية الباتة إذ ان التعليق على فقه القضاء لا يتأتى إلا في إطار بحوث قانونية وفي إطار أكاديمي معين له مجالاته ومختصون فيه وإذا احترمنا هذه الضوابط والمبادئ تهم الفائدة وتصبح تلك البرامج ايجابية ومفيدة للجميع.
رابعا: ان ما يستوقفنا في بيان السيد العميد وكذلك بيان الهيئة الوطنية للمحامين ما جاء في الأول من "دعوة المحامين الى الكف حينا عن المشاركة مستقبلا ومقاطعة مثل تلك البرامج الإعلامية" وجاء في البيان الثاني أي الصادر عن الهيئة "من ان المشاركة في أي برنامج لا بد لها من الاستئذان من عميد المحامين.." و"القيام بالإجراءات القضائية اللازمة لمنع بث كل البرامج التلفزية أو الإذاعية التي من شانها النيل من هيئة المحاماة وكرامة المحامي"
ان واجب التحفظ بحكم الانتماء الى سلك المحاماة واحتراما للهيئة الوطنية للمحاماة يفرض علينا عدم الخوض في هذا الإجراء الأخير التي تعتزم الهيئة القيام به أو إعطاء الرأي القانوني في شانه احتراما لكل الجهات ولتفادي كل التأثيرات الممكنة خاصة وانه من المحتمل عرض المسألة على القضاء.
أما بخصوص دعوة المحامين الى عدم المشاركة في ذلك النوع من الحصص وضرورة الاستئذان المسبق من السيد عميد المحامين للمشاركة في أي برنامج فان هذا الإجراء في نظرنا منازع فيه وقابل للنقاش لعدة أسباب منها انه لم يأت به أي فصل في القانون المنظم للمحاماة ولا في أي قانون آخر وان معشر الحقوقيين لا يقبلون إلا ما اقره القانون وبالتالي لا يمكن الحديث عن إذن مسبق لا يرتكز على أي أساس قانوني كما ان الانخراط في سلك المحاماة لا يؤدي إطلاقا الى حرمان المحامي من التمتع بحقوقه المدنية مثل سائر المواطنين وهي من الحقوق الأساسية التي ضمنها الدستور وفي مقدمتها الحق في التعبير كما انه ليست للهيئة الوطنية للمحامين الموقرة ولاية مطلقة وكاملة على المحامين إذ ان صلاحياتها محصورة في الجانب المهني فقط من حياة المحامي ولا تتعدى الى غير ذلك من بقية الجوانب الأخرى التي لا علاقة لها بالمحاماة وحسبه الا يقوم باي فعل ينال من شرف المهنة طبق الفصل 64 من قانون المحاماة الذي نص على انه " يؤاخذ المحامي الذي يخل بواجباته أو يرتكب ما ينال من شرف المهنة أو يحط منها بسبب سلوكه فيها أو سيرته خارجها"
ونستخلص من أحكام هذا الفصل انه لا دخل للمجلس التأديبي في سيرة المحامي خارج إطار عمله إلا إذا قام بفعل ينال من شرف المهنة فقط ومعنى ذلك انه باستثناء هذه الصورة تبقى للمحامي الحرية الكاملة في تعاطي أي نشاط ثقافي أو اجتماعي أو فكري أو رياضي وبصفة عامة يمارس أي نشاط لم يمنعه قانون المحاماة وخاصة بالفصول 22 و23 و24 و25 منه شريطة ان لا يمس بشرف المهنة ولا يخل بواجباته المهنية.
وعلى حد علمنا لم يحجر قانون المحاماة على المحامين المشاركة في برامج إذاعية أو تلفزية ولم يتضمن أيضا الاستئذان من السيد العميد قبل المشاركة فيها أو إعطاء تصريح للصحافة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية فهل يحتاج المحامي قبل الكلام خارج إطار مهنته الى الاستئذان المسبق لإبداء رأيه في بعض المسائل ذات الصلة بالشأن الوطني أو الدولي ؟ والحال انه يمارس مهنتها من ابرز خصائصها أنها حرة مستقلة ثم ما هو شكل هذا الاستئذان وما هي المقاييس التي ستعتمد في منح الترخيص وما الجزاء إذا كان الرفض اعتباطيا وهل يمكن الطعن فيه وكيف ستتعامل أجهزة الإعلام المعنية مع هذا الإجراء فهل هي ملزمة به والحال انه لا يرتكز على أي أساس قانوني؟.
وعلى صعيد آخر فان في إقرار هذا الإجراء إقصاء لسلك المحاماة من المشهد الإعلامي والحال ان المحامين يمثلون إحدى أهم النخب في كل بلدان العالم وقد قام المحامون التونسيون بدور أساسي في معركة التحرير الوطني وكتبوا العديد من المقالات الصحفية الداعية الى الكفاح من اجل استقلال البلاد وقد اشار الى ذلك بيان الهيئة الوطنية للمحامين.
وعلى كل فانه يمكن إعلام العميد ببعض النشاطات إذا كانت لها صلة بالمحاماة كما هو معمول به في بعض البلدان على ان هذا الإجراء يكتسي طابعا أدبيا فقط وليس إلزاميا.
وفي اعتقادنا انه من الضروري عدم التعميم.
إذ لا يمكن اتخاذ مثل هذه القرارات انطلاقا من حالات خاصة جدا والتي يمكن معالجتها بطرق أخرى بدل حرمان هذا السلك الطلائعي من شرائح المجتمع من الحضور بالمشهد الإعلامي أو الحد منه فهذا الحضور يزيد المحاماة إشعاعا ومصداقية كما يساعد على نشر الثقافة القانونية وفي ذلك فائدة لكافة المواطنين وتدعيم لدولة القانون فالحقوق لا يمكن ان تكرس وتمارس فعلا إلا إذا كان اصحبها على علم بها. وحتى لا يقع سوء فهم هذه الخواطر فإننا نؤكد على التمسك بشرف المهنة وعدم النيل من كرامة المحامين والتشكيك في الدور الكبير الذي يقومون به في الدفاع عن الحريات العامة وحقوق المتقاضين والمتهمين والمتضررين على حد سواء ومساعدة القضاء على إيصال الحقوق الى أصحابها وان كل محام مهما كان موقعه مدعو الى عدم المس من هيبة المحاماة وشرفها والدفاع عنها سواء كان في برامج إذاعية أو تلفزية أو غيرها.
كما انه في صورة تخصيص حصص إذاعية أو تلفزية لقطاع المحاماة فان عميد الهيئة الوطنية للمحامين هو المؤهل دون سواه لتمثيل هذا السلك.
أما إذا تعلق الأمر ببرامج تلفزية أو إذاعية لنشر الثقافة القانونية دون المس من مهنة المحاماة فانه لا شيء يمنع المحامي من المشاركة فيها خاصة وان لبعض المحامين نشاطات ثقافية أو فكرية أو أدبية كما ان منهم من يتحمل مسؤوليات في جمعيات أو هيئات رسمية أخرى كما ان البعض منهم أساتذة جامعيون ولهم بهذه الصفة أيضا المساهمة في نشر الثقافة القانونية.
خامسا: المسكوت عنه في هذه القضية والذي يتلجلج في حيازيم العديد من الأطراف الذين لا يريدون الحديث عنه صراحة هو الإشهار وفعلا آثار ظهور رهط من المحامين في تلك البرامج حفيظة أو بالأحرى غبطة بعض المحامين الذين يرون ان ذلك يمثل إشهارا لأولئك وجلبا للحرفاء على حساب بقية المحامين خاصة وانه يبدو ان بعض المتقاضين يتأثرون عند مشاهدة تلك البرامج بما يقدمه المشاركون فيها من ملاحظات وآراء قانونية وتعليقات في أسلوب قد تطغى عليها أحيانا نزعة استعراضية حسب البعض تكسبهم "النجومية" أو طرقا دعائية من شانها ان تؤثر على المشاهد فيلتجئ إليهم للاستفادة بخدماتهم وبالإضافة الى ذلك فان بعضهم أشاروا الى احتكار بعض الأسماء دون سواها لتلك البرامج دون تشريك بقية المحامين.
ان هذه القضية مطروحة في جل بلدان العالم وهي تتعلق أساسا بالإشهار ومهنة المحاماة أو بصفة أدق علاقة المحامي بوسائل الإعلام بمختلف أنواعها وهذا الموضوع هو الان محل دراسات عديدة وانكب عليه المهتمون بأخلاقيات مهنة المحاماة.
ان النظر في هذه الإشكالية يحتم التذكير بمعطى أساسي وهو ان الإشهار لا يكون عادة إلا في الأنشطة التجارية لان التجار يلتجئون لبيع بضائعهم الى هذه الوسيلة التي انتشرت في الوقت الحاضر التي أصبحت تحتل مكانة كبيرة في وسائل الإعلام.
أما المحاماة فهي كما هو معلوم ليست تجارة بل هي مهنة يسدي أصحابها خدمات لها صبغة خاصة ضبطها قانون المحاماة ومنها نيابة الأشخاص المعنويين والطبيعيين أمام الهيئات القضائية والإدارية والتأديبية ويقدم الاستشارات القانونية وتحرير العقود ووصف بعضهم المحاماة بأنها سلطة مضادة في الجدلية القضائية. والمحاماة تقوم على قيمة رئيسية هي الشرف والكرامة ومعلوم ان المحامي قبل ان يباشر عمله يقسم بان يقوم بعمله "بكل أمانة وشرف" (الفصل 5 من قانون المحاماة).
وفي هذا السياق تستوقفنا ما قاله احد الكتاب الفرنسيين من "ان ممارسة مهنة المحاماة يجب ان تؤدي الى الشرف ولا الى الثروة".
إذا كانت المحاماة هي مهنة شرف وكرامة فان الإشهار قد لا يتلاءم معها.
وقد سادت هذه الفكرة لدى العديد من المهتمين بأخلاقيات المهنة الذين ميزوا بين الإشهار الوظيفي والإشهار الشخصي ولم يتعرض قانون المحاماة في بلادنا لموضوع الإشهار باستثناء ان القانون المؤرخ في 20 جويلية 1998 المتعلق بالشركات المهنية للمحامين الذي تعرض لإجراءات الترسيم والإشهار بالنسبة لهذا الصنف من الشركات ولكن الأمر يتعلق بإشهار إداري بحت لا علاقة بالإشهار في مفهومه الدعائي.
وأمام غياب نصوص واضحة تعالج هذه المسألة وأمام عدم وجود نظام داخلي ينظمها انكب فقه القضاء وشراح القانون على الاهتمام بها وهناك جملة من الثوابت في مقدمتها منع السمسرة وكذلك السعي والانتقال الى مقرات الحرفاء لجلبهم كما انه وقع التركيز بالخصوص على ما سمي بالإشهار غير المباشر والذي يحصل عن طريق وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وهذا العنصر هو الذي يهمنا في هذا المقام.
يرى بعضهم ان ظهور المحامي في وسائل الإعلام وخاصة المرئية منها هو شكل من أشكال الإشهار إذ ان ذلك قد يجلب له الحرفاء فضلا على ان الإشهار في مثل هذه الحالات يكون مجانيا ومما يزيد هذا النوع من الإشهار تأثيرا ان بعضهم قد يقدم استشارات أو تعاليق في أسلوب تطغى عليه النزعة الاستعراضية والقصد الدعائي المتستر وقد يكون أحيانا مكشوفا وهو يتنافى مع شرف المهنة.
ولا جدال في ان الظهور المتواصل في برامج من هذا النوع سيؤدي بالضرورة الى شهرة المشاركين فيها مما قد ينتج عنه حسب البعض إنخرام في تكافؤ الفرص في العمل مما أدى الى بروز فكرة تدعو الى إقرار التداول على تلك البرامج.
ان هذا الرأي مغري وقد يبدو وجيها لكن تطبيقه ليس هينا ويثير عدة صعوبات إذ ليس من السهل ان نفرض على منتجي تلك البرامج أسماء معينة ليتعاملوا معهم في الوقت الذي أصبحت فيه الشركات الخاصة المنتجة لتلك البرامج يطغى على نشاطها الجانب التجاري وظهور قنوات تلفزية خاصة كما ان التعامل فيها مبني على العنصر الشخصي ويصعب فرض مشاركين أو منشطين عليها ثم ما هي الجهة المؤهلة لاختيار المحامين الذين سيتداولون على تلك البرامج وما هي المعايير التي ستعتمد في انتقائهم علما بان إعداد هذا النوع من الحصص وتقديمها يتطلب كفاءة وتحمل المشاركين فيها مسؤولية كبيرة إذ عليهم ان يقدموا المعلومة القانونية الصحيحة والدقيقة وكذلك القدرة على إتباع منهجية بيداغوجية لتبسيط المفاهيم القانونية للمشاهدين أو المستمعين، وقد لا تتوفر هذه الإمكانيات لدى الجميع.
وأخيرا فانه لا يمكن ان يتداول على تلك البرامج كل المحامين نظرا لوفرة عددهم وان إرضاء الجميع غاية لا تدرك.
إلا انه يجب التمييز بين الظهور الدوري في البرامج التلفزية أو الإذاعية وبين الظهور في بعض الأحداث كأن تطلب بعض وسائل الإعلام من محام إبداء رأيه حول جانب قانوني يتعلق بواقعة ما أو حتى أحداث سياسية بل لاحظنا ان العديد من وسائل الإعلام الغربية تستجوب محامين حول بعض القضايا التي ينوبون فيها دون ان يثير ذلك أي إشكال وهو أمر غير محظور في نظرنا شريطة عدم الكشف عن السر المهني والنيل من حرمة الحياة الخاصة وعلى كل فان مثل هذا الظهور أصبح معمولا به في الوقت الحاضر وان دور المحامي في المجتمع وعالم الأعمال ومكانته في وسائل الإعلام في تطور مطرد ولم يبق محصورا في قاعات المحاكم. ان كل هذه الإشكاليات تدعو الى التفكير جديا في تحديد ضوابط أخلاقية وقانونية لهذه المسألة شريطة التوفيق بين الحق في الإعلام وحرية التعبير وبين أخلاقيات مهنة المحاماة التي تبقى دائما حرة ومستقلة.
(*) أستاذ متميز بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ومحام لدى التعقيب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.