ويستطرد محدّثك، فيجعل من نفسه طبيبا حاذقا بأدواء المجتمع ودوائه، ويشخص الداء ويصف له الدواء، في الرجوع الى أحكام الدين، وآداب الاسلام وتقاليد المجتمع التونسي في البيت والشارع، والمدرسة وفي الاسرة الصغيرة والمجتمع الكبير وفي كل مظاهر حياتنا واساليب عيشنا. فإذا ما انفض مجلسك، وانتهى حديثه معك وقام كل الى ما قدر له، وخرج الى زحمة الدنيا وميدان العمل، وجدته مرتكبا لما كان ينقده، آتيا من الرذائل ما كان يشكو منه، ويتألم من أجله ويتباكى لحصوله حتى صارت أقوالنا وأعمالنا نقيضين، واتسعت الهوة بينهما اتساعا كبيرا، واصبحنا نتكلم بلسان الملائكة ونعمل بروح الشياطين. نشكو من تبرج المرأة وخلاعتها وخروجها على كل مألوف في الاديان والتقاليد وتبجحها والخروج عن طبيعتها ورسالتها. فهل هذه المرأة الا أمنا أو أختنا أو بنتنا التي يستطيع كل منا بحكم قوامته الاسلامية عليها أن يصلح ما من شأنها، ويردها عن اتباع الشياطين الذين يغرونها بمعسول القول وخادع الكلام. ثم يشكو من الجيل الجديد الذي خرج على كريم التقاليد، واتبع كل شيطان مريد وراح يسير وراء شهواته وأهوائه، واصبح يهتم بأغنيات الماجنين والماجنات أكثر من اهتمامه بمعرفة أحكام الاسلام والاستماع لحديث الدين. فمن هم هؤلاء الذين يكونون هذا الجيل؟ أليسوا هم أولادنا من بنات وبنين، جعلهم الله أمانة في أيدينا واسترعانا عليهم وكل راع مسؤول. ثم نشكو ونشكو.. حتى أصبحنا نشكو في كل مجلس، ومن كل جانب وحتى صارت الشكوى نشيدا حزينا نردده في بدء كل حديث وغايته وفي مطلع كل نهار ونهايته. يا هؤلاء.. رويدكم رويدكم. ومهلا مهلا. ممن تشكون؟ أتشكون انفسكم الى غيركم؟ ليشك كل نفسه الى نفسه، وليحتكم الى ضميره الديني، وليحاسب نفسه على ما قدم وما أخر، وليبدأ بها في معركة الاصلاح. فإذا ما أصلحها كان له أن يسهم في اصلاح غيره بل انه إذا اصلح نفسه فقد أصلح غيره.. بالاسوة الحسنة، والقدوة الصالحة والسيرة العطرة، والتأثير النفسي والايحاء الصادق. ليجفف كل منكم دمعه الكاذب، وليغلق فمه، وينفتح قلبه وليحسن عمله وليعلم انه لبنة في هذا المجتمع اذا حسن معدنها ادت واجبها وحفظت البناء وزادته تماسكا، وإذا كانت هشة لينة اضطرب البناء وسقط. ايها الشاكون المتباكون: لقد اتخمنا بكثرة الكلام، وطال انتظارنا لدور العمل، فأجعلوا من أنفسكم وأعمالكم صورة حيّة لما تنادون به من مبادئ، وما تهدفون اليه من أغراض ونتائج، وحدثوا الناس بأفعالكم قبل أقوالكم وأعلموا، ان الدعوة التي لا يؤمن بها صاحبها ولا يعمل بها في ذات نفسه مردودة عليه وغير مقبولة منه. ولن يبلغ كلام صاحبها من سامعه أو قارئه أكثر من أن يدخل في أذن ليخرج من الاخرى. روضوا انفسكم على الاخلاق الفاضلة وخذوها بالآداب الاسلامية وعودوها الطاعة حتى تكون نموذجا ناطقا وضوءا هادئا، لمن يقتدي بكم من أبناء واتباع ولا تجعلوا من حياتكم معرضا للمتناقضات. لسان يقول وعمل يكذب يدعو بعضهم الى حماية الفضيلة وهو الجاني عليها ويطلب اصلاح ابواب الناس وقد انخلع بابه ورتق أثوابهم. هذا رسولنا وإمامنا محمد بن عبد الله قد وصل الى غايته وبلغ هدفه وحقق بمعجزته الكبرى في إخراج الناس من ظلمات الكفر والجهل الى نور الايمان والعلم بالقدوة العملية والعمل الصالح في السرّ والعلن كان عليه الصلاة والسلام يبلغ رسالة ربّه ويتلو من آيات الله وحكمه ويدعو الى مكارم الاخلاق التي بعث ليتممها ثم هو قبل ذلك قدوة صالحة ومثل أعلى: في سيرته المثلى وعمله الكريم في جهاده وتضحيته وعدله ورحمته وأمانته وصدقه وعطفه وبره ونصرته للحق وعدائه للباطل وشدته على المنافقين والموائين الذين اذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون لنقرأ جميعا قول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون». ثم قوله جلا وعلا: «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في صلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد». ثم لنستمع الى الأجنف بن قيس اذ يقول: «لا خير في قول إلا بفعل ولا في مال إلا بجود ولا في صدق الا بوفاء ولا في فقه الا بورع ولا في صدق الا بنيّة». أيها المتباكون: كلنا حوارون فمن يهوذا؟ وكلكم يبكي فمن سرق المصحف؟ ليبدأ كل منكم بنفسه ولأبدأ بنفسي.