وهذا نص الحوار.. *** كيف تري السيناريو الأقرب الذي سيكون عليه المشهد السياسي والحزبي بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي؟ من المتوقع أن يكون المشهد الحزبي بعد الانتخابات مشكلا من قبل أربعة أو خمسة أحزاب كبري، وقاعدة هامة من المستقلين، بل لا أستبعد أن تكون تركيبة المجلس مناصفة بين الأحزاب والمستقلين. وستكون الكلمة الأولي والأخيرة في أشغاله للوفاق. وسيعمل تحت ضغط الوقت والشارع، وبالتالي لا محيد عن الوفاق. وأرجح أنه سيتم الاستفادة من تجربة هيئة حماية الثورة، التي فشلت في تحقيق أهدافها بسبب تغليب مصالح فئوية أو حزبية، والتي عادت بالمضرة على هذه الفئة وعلى الهيئة ككل. *** وبماذا تفسر تراجع ظاهرة الاستقطاب الإيديولوجي؟ الاستقطاب الإيديولوجي لن يكون له مكان في تونسالجديدة، لأنه من مخلفات الماضي، وفي تونس كما في العالم لم يعد للايدولوجيا ذلك الحضور والتوهج، وهذا ما يجب أن تدركه الأحزاب اليوم، التي نلاحظ أنه تراجع دورها مؤخرا. لقد عوضت البرامج الواقعية والبراغماتية كل الايدولوجيات والعقائد و الأفكار الكبري التي كانت تهيمن في السابق. *** وكيف تري حضور الإسلاميين في المشهد السياسي الذي هو في طور التشكل؟ سيكون لهم حضور، لن يتجاوز نسبة بين 25 و30 بالمائة، وهي نسبة محترمة وهامة. *** هل هم قادرون على حكم تونس؟ لا أعتقد ذلك، وأري وبصفة جازمة أنه ليس بإمكان أي حزب الآن، بما في ذلك النهضة، القدرة على حكم تونس بمفرده. *** ما هي الخطوات المطلوبة للمرور إلى المصالحة، وإعادة الثقة بين مختلف مكونات المجتمع، بعد ثورة 14 جانفي، التي أحدثت هزة كبيرة في بنية المجتمع والدولة في تونس؟ من الحقائق المتعارف عنها، أنه بعد كل ثورة لابد من تصفية الحساب مع الماضي، ثم المرور بعد ذلك إلى البناء. و تصفية "تركة" الماضي، تمر حتما عبر ما يعرف بالعدالة الانتقالية. وهذا مسار ضروري لكل تحول ديمقراطي جذري وحقيقي. وهو ما تم في تجارب عديدة في العالم. والعدالة الانتقالية هي في أبسط تعريفاتها مزيج بين العدالة القضائية والبرغماتية السياسية. والهدف منها معرفة الحقيقة، من خلال الكشف عن الانتهاكات والتجاوزات التي حصلت أثناء فترة الاستبداد، ومحاسبة المسئولين على ذلك، وكذلك الاعتراف بحقوق الضحايا والتعويض لهم، وبعدها يمكن المرور إلى المصالحة، بعد أن تكون مختلف الأطراف متهيئة نفسيا و واقيا. *** وعادة ما هي الفترة الزمنية التي يجب توفرها لانجاز هذا المسار التصالحي؟ من خلال العودة إلى التجارب التاريخية، فان مثل هذا المسار يتم بين 3 و5 سنوات، ولكن ليس هناك قاعدة أو قانون، على اعتبار وأن لكل بلد خصوصياته. فلا يمكن بأي حال من الأحوال، وتحت أي تأويل أو شعار، أن يقع التغاضي على الانتهاكات والجرائم، وآلام الضحايا. وفي نفس الوقت لا يمكن أن نحاسب كل كل المذنبين أو المتورطين، نظرا لتورط الآلاف. وهذا ما يتطلب العمل على تقسيم الانتهاكات التي حصلت إلى صنفين: انتهاكات جسيمة أو خطيرة مثل التعذيب والقتل وسرقة المال العام... وهذه لابد من التشدد في من قام بها. ونوع ثان من القضايا أو الانتهاكات يمكن الاكتفاء بخطايا مالية وتعويضات أو مصادرة وطلب الاعتذار. *** ما هي العوامل الواجب توفرها لإنجاح العدالة الانتقالية ؟ إنجاح مسار العدالة الانتقالية يفترض وجود سلطة شرعية منتخبة من قبل الشعب، وبالتالي يمكن لها أن تفاوض باسم الضحايا. كما أن العدالة الانتقالية تقتضي أيضا ضرورة تنظم هؤلاء الضحايا ضمن جمعيات وهيئات أو لجان للتحقيق وأخري للتعويض، منظمات أهلية تتولي مهام التكلم باسم المظلومين. وفي وضع تونس الحالي، والبلاد تتهيأ لتنظيم استحقاق انتخابي هام، المجلس الوطني التأسيسي، وفي ظل غياب سلطة شرعية، لكن مع ذلك على الحكومة الوقتية أن تشرع في وضع لبنات وأسس لعدالة انتقالية. من ذلك إصدار مرسوم يتم بمقتضاه بعث لجنة وطنية مستقلة للحقيقة والعدالة و الإنصاف. تتكون من شخصيات وطنية تمثل المجتمع المدني وخبراء في القانون وسياسيين كما يمكن الاستئناس بتجارب أخري مثل المغرب وجنوب إفريقيا. ومن شأن هذه الخطوات أن تمكننا من ربح الوقت وبعث رسالة إلى المجتمع وعائلات الضحايا تطمئنهم على تمسك السلطة بتحقيق العدالة ورفع المظالم. *** لكن، لنا تجارب غير مشجعة مع اللجان، والتي بعثت بعد الثورة، إذ يتهمها البعض بالمساهمة في تعطيل المحاسبة؟ مثل هذا الرأي فيه الكثير من القسوة، فبرغم الأخطاء فان هذه اللجان قد قامت بانجاز العديد من المكاسب والانجازات. مع العلم وأن هناك عوامل يمكن أن تشجع على تكوين هذه اللجنة، التي ستساعد على وضع أسس تحقيق العدالة الانتقالية، باعتبارها ستكون لجنة خبراء وليس لها أي صبغة تقريرية. *** علمنا أنك تقدمت بمقترح للوزير الأول المؤقت حول هذا الموضوع، فكيف كان تفاعله مع المقترح؟ لمست عنده بعض التردد في، لكنه استمع مني لعرض حول دور الهيئة المقترحة، وخاصة أنه على الحكومة الحالية العمل من أجل وضع مسار العدالة الانتقالية على السكة. مع العلم أننا بصدد إعداد وثيقة في الغرض، وينتظر أن تكون تحت مسمي " الهيئة المستقلة للحقيقة والإنصاف والمصالحة" *** قام المحامون بدور طلائعي في الثورة، ومع ذلك فان هناك انتقادات وجهت إلى هذا التنظيم المهني، الذي ارتبط تاريخيا بصورة نمطية ايجابية لدي التونسيين. ما تعليقكم؟ المحاماة تنظيم مهني ينشط في تونس منذ أكثر من قرن و20 سنة في تونس، وانتمت له أجيال وأفرز شخصيات وطنية، كانت لها مساهمة فاعلة في معركة تحير البلاد، أو في الدفاع لاحقا عن الحريات وحقوق الإنسان والرأي بعد الاستقلال. كما كان للمحامين دور مهم في الثورة التونسية، وخاصة فيما يتصل بتأطير وحماية المحتجين أثناء الثورة، ويواصلون القيام بدور أساسي الآن في هذه المرحلة الانتقالية التي تعيشها بلادنا. وخاصة في الملفات ذات الصبغة القانونية والحقوقية، وهذا ما يمكن أن يفسر لماذا تصدر المحامون المشهد بعد الثورة. ولكن هذا لا ينفي وجود بعض التجاوزات من قبل البعض، وهم أقلية لا يمكن بأي صورة من الصور أن تؤثر على مكانة قطاع المحاماة ودوره في المجتمع. *** يتهم القضاء بالفساد وبأنه يقف وراء الأزمة السياسية الأخيرة التي دخلت فيها البلاد. فأي دور للمؤسسة القضائية في المرحلة الانتقالية؟ لا يمكن للمؤسسة القضائية حتي لو كانت مستقلة بصفة تامة ونهائية، أن تقوم بتصفية كل ملفات الفساد وتركة النظام السابق. وهذا بسبب تعاظم حجم الانتهاكات والفساد، التي تتجاوز بكثير الإمكانيات المادية والبشرية الموضوعة على ذمة المؤسسة القضائية. كما أن السلطة القضائية ما زالت تشكوا من رواسب الماضي والتي لا تعود إلى فترة بنعلي فقط، بل هي سابقة لها. فهناك رواسب عديدة ساهمت في إحالة القضاة إلى مجرد موظفين لدي السلطة التنفيذية. وما أريد التأكيد عليه أن إصلاح هذه المؤسسة يتطلب الكثير من الوقت والشجاعة. *** يعني أنك تنفي أية مسؤولية للحكومة الحالية؟ هناك بعض الإصلاحات كان يمكن القيام بها من قبل الحكومة الحالية، من مثل محاسبة المعروفين من المتورطين في الفساد أو على الأقل إبعادهم. كما أن القضاة يتحملون البعض من المسؤولية، فعليهم أن يبدوا وحدة وتضامن أكثر فيما بينهم، فلا يمكن إصلاح المؤسسة بدون مساهمة قوية ومؤثرة من قبل القضاة.