في تخميره من تخميراتنا في بداية أيام الاستقلال تقرر حل الاوقاف التونسية مهما كان نوعها بحجة الحداثة التي كنا مغرمين بها. لم تكن تلك الاحباس الموقوفة من أصحابها على المساجد والجوامع ومدارس سكنى طلبة العلم ومأوى الفقراء والتصدق الدائم على المسافرين والمحتاجين والغرباء من فراغ، بل كانت صدقة دائمة من اصحابها تقربا الى الله. ربما لم تكن الأوقاف العامة وقتها محل رعاية وعناية كما يجب من القائمين عليها ويشتهى، كما أن الخاصة منها كان يقصد بها تمييز الذكور من الأبناء بدون الإناث تحليلا، للإبقاء على الثروات في نفس العائلة. لكن أكثرها كان يؤدي دوره في نشر العلم وحفظ القران والاعتناء ببيوت الله ومقامات الصالحين من الرجال والنساء. قال لي ذات يوم صديقي مصطفى الفيلالي أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية، وكانت له يدا في حلها وابطالها لما كان وزيرا للفلاحة زمنها، وبعد ان عبر لي عن ندمه على ذلك، وروى لي قصة طريفة أردت إعادتها. قال لي أن الأستاذ محمود المسعدي وزير التربية القومية وقتها كان زار الولاياتالمتحدةالأمريكية بدعوة من حكومتها وتحصل على مساعدة من مؤسسة وقفية في شكل هبة قدرها مائة ألف دولار مساهمة منها في اعانة تونس على تطوير تعليمها، لكن بشرط ألا تحول الى ميزانية الدولة مطلقا. فاحتارت الحكومة التونسية وقتها وشعرت بالخطأ الذي حصل لما أغلقت باب التحبيس مطلقا، واخيرا اهتدت وقتها وأنشأت مركزا للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، ولعله ما زال قائما، وخصته بتلك المنحة تحيلا، ولكنها لم تراجع خطأها بتحوير القانون وفتحه على بعض الأعمال التي يجد فيها من أراد تحبيس ما زاد عن حاجته وحاجة ورثته ليبقى له بعد وفاته صدقة جارية. ربما رأت حكومتنا وقتها خطورة استقلالية المؤسسات بريعها مثل الزيتونة ومدارس سكنى الطلبة ومراكز الصحة والايواء، فأرادت بذلك تجفيف منابع تمويلها مطلقا. أكتب ذلك وأنا على بينة من أن أغلب الجامعات في الولاياتالأمريكية ومراكز رعاية المسنين وغيرها، وفي غيرها من البلاد الغربية الاخرى أيضا تعيش على الأوقاف، وحكوماتها تشجع على ذلك بإعفاء أصحابها من الضريبة وغيرها. لقد رأينا نحن في هذه الأيام تكاثر المؤسسات الوقفية تنشط عندنا، كمؤسسة (كنرد اديناور) الألمانية وغيرها وتساهم في الندوات الثقافية والعلمية وحتى السياسة منها تحت عين السلطة التونسية التي تتغاضى عنها، ولكنها تمنع ذلك على التونسيين الذين ينشطون تحت مسميات أخرى لا تتماشى مع أهدافها.. لذا رأيت أن أذكر بذلك حتى تسرع حكومتنا ونوابنا بفتح هذا الباب الذي سوف يخفف عليها الاعباء، خاصة ولم تعد تونس تحكم مثلما كانت سابقا.