ظهر جليا وواضحا ، أن النظام البرلماني الذي تم اعتماده كارثي على جميع المستويات ، ولا يتلاءم مع البيئة السياسية الناشئة ، لذلك فإن مهمة السلط الحاكمة صعبة جدا مما ساهم في استفحال الأزمات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية بشكل مكثف حتى أصبحت خزينة الدولة في حالة عجز غير مسبوق. هي وضعية أزمة بكل ما في هذا المصطلح من مخاطر آنية ومستقبلية مهددة للوطن والشعب ، وهو ما يفرض وجود حكومة مستقرة ومدعومة بقوة لمواجهتها ومعالجتها لكن ما يحدث عكس ما هو مطلوب تماما، إذ تكثفت عمليات التحريض حتى إتسعت رقعة الإحتجاجات بشكل خطير، فمن حق كل مواطن التظاهر والإحتجاج بطرق سلمية تكفلها القوانين ، دفاعا عن مكاسبه ومطالبه بما يراه ضرورة من ضروريات تأمين عيشه وصيانة كرامته ، وفي هذا السلوك تجسيم للحرية وممارسة للديمقراطية ، ولكن ليس من حقه تحويل إحتجاجاته إلى عنف وتخريب و0عتداءات على الأملاك الخاصة والعامة وحرائق تأتي على الأخضر واليابس و0ستهداف لرجال الأمن وتعطيل الإنتاج والتسبب في إغلاق مقرات العمل وهروب المستثمرين، لأن هذا السلوك الفوضوي المنفلت يتعارض ، جملة وتفصيلا، مع قيم ومبادئ وشروط و0لتزامات الحرية والديمقراطية بل يسرع عودة الديكتاتورية أو ما شابهها إلى درجة تصبح فيها مبررات هذه العودة "مقبولة" شعبيا . وقد إنزلقت العديد امن الديمقراطيات العريقة في مثل هذه المنحدرات عندما أصبح أمن البلاد القومي في خطر. في خضم هذه الأوضاع المتوترة لا يمكن لأي حكومة أن تنجح في تنفيذ برامجها الإصلاحية ، بل مآلها السقوط في الإرتباك والتردد و0رتكاب الأخطاء التقديرية. وقد تصبح مهمتها مستحيلة تماما إذا ماوجدت أمامها، كما هو الحال في بلادنا، براكين من الغضب تغذي لهيبها أطراف سياسية و0جتماعية مختلفة ، وهي أطراف، ذات أجندات داخلية وخارجية مشبوهة وتعمل سرا وجهرا على إرباك أي حكومة يتم تشكيلها بهدف إسقاطها لتعود البلاد إلى مربع الفوضى العارمة والإنفلات الشامل . كان لا بد من التحرك، وتم تشكيل حكومة " وحدة وطنية" حسب الوصف الذي أسند إليها رسميا، وبمشاركة أكثر ما يمكن من الأحزاب والتيارات والمنظمات، وهو ما أثار حفيظة الكثير من الأطراف الملتزمة بأجنداتها الداخلية والخارجية المفضوحة والتي أكدت في أكثر من مناسبة أنها تهزأ بالوطن والشعب ومصالحهما. لا شك ان الحكومات الديمقراطية أو ما شابهها محكوم عليها بمصارعة التيارات الهدامة ، وهو قدر حكومتنا الحالية بالرغم من أن البلاد لم تعد تتحمل المزيد من الصراعات ، بل هي بحاجة أكيدة وماسة إلى ما يشبه الوفاق الذي يمكن من تجاوز المعوقات الإجرائية دون المس من دستوريتها. الآن تدخل البلاد مفترق طرق، فإما أن نلتزم بما تفرضه أحكام الوفاق الوطني ونوفر الظروف الملائمة لحكومة الوحدة الوطنية حتى تبدأ عملية الإنقاذ الحقيقي قبل فوات الأوان ،وإلا أن ننتهج مسالك الفوضى والتحر يض والعرقلة لإدخال البلاد في نفق مظلم لا خروج منه. لا شك أن المعضلة الأساسية تكمن في هذا النظام البرلماني الأعرج الذي أوقع التونسيين في الأزمات، وهذا الدستور الذي أعده مجلس وطني تأسيسي إختلط فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، لكن الظرف العصيب الذي تمر به البلاد يحتم تجاوز هذه العراقيل والتأقلم الإيجابي معها في انتظار تغيير وتعديل ما يتوجب تغييره وتعديله على ضوء التجارب التي مررنا بها. اليوم تجتاز ديمقراطيتنا الناشئة إمتحانا جديدا، فإن كسبته سيتواصل المسار ل0جتياز إمتحانات عديدة أخرى ، وإن خسرته فكل شيء سيسقط ويضيع ، وتلك طامة كبرى.