برغم محدودية الصلاحيات التي منحها له الدستور، فان الرئيس الباجي قائد السبسي، هو المهندس الأول لمرحلة ما بعد انتخابات 2014 ، التي صعدته للرئاسة كما صعدت حزبه "نداء تونس" ليكون الحزب الحاكم. هذا ما جعل البعض يرى أننا في عهده عدنا للنظام الرئاسي، وهم في ذلك محقون على اعتبار وأن الرجل هو الماسك بادارة الشأن العام لا في قرطاج فقط بل أيضا في القصبة، فهو الذي هندس توافق مع الاسلاميين، وهو الذي اختار رئيس الحكومة الأول الحبيب الصيد وهو أيضا الذي أقاله، و هو الذي جاء بيوسف الشاهد، وفرضه لتنفيذ "وثيقة قرطاج" ورئاسة حكومة "الوحدة الوطنية"، هذه الحكومة التي تواجه بعد ثمانية اشهر أوضاعا صعبة قد تعجل برحيلها، ولا سند لها في الواقع غير الرئيس قائد السبسي. وبالتالي فان الرجل ينظر له على أنه من يتحمل أكثر من غيره المسؤولية الأخلاقية وسياسية عن مرحلة ما بعد أكتوبر 2014، خاصة فترة حكم الشاهد، و لعل هذا ما يفسر الانشغال الكبير للرجل بتفاعلات الأوضاع وكيفية ادارة الشأن العام، التي هي بحكم النتائج والأداء لا أتصور أنها محل رضا وقبول عنده، وهو -ربما – ما دفعه للإعلان عن الخروج (يوم الاربعاء) ومخاطبة التونسيين. أوضاع هشة..استقرار هش خلال جل جلسات الحوار مع الرئيس الباجي قائد السبسي، بمناسبة اعداد كتابي "الباجي قائد السبسي..المشي بين الألغام" (صدر في مارس الفارط) لاحظت لديه انشغال يصل درجة القلق الكبير حول تطورات الوضع في تونس وكذلك على مرحلة "ما بعد السبسي"، حيث أكد لي في أكثر من مناسبة على ضرورة العمل من الآن، وقبل انتهاء عهدته الرئاسية، التي قال أنه لن يجددها (هنا أستبعد أن يكون متحمسا لدعوات لمناشدة البعض للترشح مرة أخرى)، العمل من أجل توفير كل الظروف المناسبة، لتأمين حظوظ وفرص النجاح لمسار الانتقال الديمقراطي، الذي ما زال يعتبره هشا ولم يشتد عوده بعد، وأن هناك مخاطر عديدة تتهدده، يتداخل فيها الداخلي بالوضع في الإقليم، وأيضا بالتحولات الجارية في المنطقة وفي العالم. في هذا السياق، يشدد الرئيس قائد السبسي، على أن الانتقال نحو الديمقراطية، لا يتم بقرار، بل هو نتيجة مسار كامل، ولعل هذا ما يفسر حصول انتكاسات في تجارب عديدة، من ذلك مثلا ما حصل بعض الدول التي كانت تنتمي للمنظومة السوفياتية السابقة، التي عاشت ما يعرف بالثورات الملونة، لكن البعض منها عرف ردة في مساره الانتقالي، وعاد لمرحلة أكثر سلطوية من السابق. ويتابع محدثي، من موقع التجربة والتأمل في تجارب الآخرين، بأن الديمقراطية تفترض المراهنة على عنصر الزمن، فالبناء الديمقراطي يفترض المرحلية والتدرج، وهو ينضج بين 15 و 20 سنة، وخلال هذه الفترة هناك تقدم وتراجع، ونكسات وتصفية حسابات وحتى سقوط ضحايا، وبالتالي فان ما يمكن التأكيد عليه، أن الديمقراطية لا تنجز خلال أشهر. ليخلص الى القول "بأننا في تونس لا يمكن أن نشذ على هذه القاعدة، فقد مررنا بفترات من المد والجزر، وهو وضع سوف يستمر لسنوات أخري، لكن أرجوا أن يكون ذلك في اطار مناخ سلمي، وفي أجواء خالية من كل مظاهر العنف والتصادم الذي يتولد من الاحتقان والانقسام ولذلك حاولنا تغليب "التوافق" على التباين، وهو ما جنب بلادنا مخاطر الانقسام وضمن وحدة المجتمع واستمرار الدولة، وهي مكاسب هامة وهامة جدا ولا يمكن معرفة قيمتها، الا بالمقارنة مع ما انزلقت اليه تجارب اخرى في المنطقة". وهنا يشدّد الرئيس، على أن أهم ما جاءت به الثورة أو الجديد في المشهد السياسي التونسي ما بعد الثورة هو "الديمقراطية"، والكل يعلم مدى تحمسي لها منذ زمن حكم الرئيس الحبيب بورقيبة. وبالتالي فإنني ومن هذا المنطلق لا يمكن اعتباري محسوبا على النظام القديم، الذي لم يعد قادرا على خدمة مشروعي الجديد. وأريد أن أبين أن الديمقراطية لا تتناقض مع وجود دولة قوية تطبق القانون وتحمي النظام العام والحريات والحق في التنظم والمواطنة. و فيما يتعلق بمن يصر على أنني "رجل من الماضي"، أقول لهم فعلا أنا "رجل لي ماض". لكن السؤال المهم والجدير بالطرح هو : أي سياسة أطبق؟ هل هي سياسة من الماضي؟ بعد ستة سنوات من انطلاق ثورات "الربيع العربي"، تبدوا تونس الوحيدة التي أنجزت تحولا ديمقراطيا، حافظ على مقومات الدولة إلى حد جعل الملاحظين يتحدثون عن "استثناء تونسي. برغم ما تحقق إلى حد الآن من مكاسب، وريادية في مسار الانتقال الديمقراطي، في محيط عربي تغلب عليه مظاهر "التفكك" و"الانكسار"، فان التجربة التونسية لم تعبر إلى بر الأمان، مثلما يؤكد ذلك الرئيس الباجي قائد السبسي، في محاوراته معي، حيث ينبه الى وجود مخاطر حقيقية تتربص بهذه التجربة. عدم الإيفاء باستحقاقات الثورة يقرّ الرئيس الباجي قائد السبسي، بأنه و بعد ست سنوات من الثورة بقت الأوضاع على حالها بل ازدادت سوءا عما كانت عليه، بقت مطالب الثائرين مؤجلة، مطالبهم في العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة وفي المساواة بين الجهات وفي الحق في الشغل، وغيرها من الاستحقاقات التي رفعها الشباب الغاضب قي كل المدن التونسية، والتي فرضت على الرئيس الأسبق بن علي مغادرة البلاد، في 14 جانفي2011. ويرى الرئيس أن هذا الوضع "الستاتيكو" خلف حالة من القلق واليأس لدي شرائح واسعة من التونسيين، خاصة في المدن الداخلية والأحياء الشعبية في المدن الكبري، التي ازدادت تفقيرا وتهميشا، وتحولت الى فضاءات لانتداب الشباب والشابات للجماعات المتشددة، ما حول تونس البلد المعروف بحداثة ومدنية نظامها التربوي والاجتماعي، الى بلد مصدر للارهابيين. كما ارتفعت الجريمة المنظمة، وانخرمت شبكة أو منظومة القيم التي كانت تشد الروابط الاجتماعية، ولعل تصاعد حالات الانتحار – حتى في صفوف الأطفال – من الظواهر المستجدة والتي تبعث عن الحيرة. بعد ست سنوات بقت الأمال معلقة، كما تراجع حتى الحق في الحلم، لكن مع ذلك فان هناك وعيا صامدا بأنه لا يجب الانسياق وراء دعوات تروج لشيطنة التغيير والحنين الى اعادة انتاج ما قبل الثورة...فالتحولات الكبري في تاريخ الشعوب لا تتحقق بقرار بل هي مسار وصيرورة، ويبقي المهم هو الابقاء على روح الثورة، من خلال اليقظة المستمرة لكل ما من شأنه أن يساعد على الردة الى الوراء...فالتأسيس مهمة شاقة وليس في مأمن من الانتكاسات التي تقودها قوي ترفض التغيير وتعاديه لأنه في النقيض مع مصالحها. مجتمع قلق .. مؤسسات قلقة إن السمة الغالبة على المشهد التونسي بعد ستة سنوات من الثورة، هي وجود حالة قلق تكاد تكون عامة وشاملة، أحزاب قلقة، مسجد قلق، منظمات قلقة... قلق يتغذي من غياب رؤية واضحة لادارة البلاد ومواجهة مشاكلها التي أصبحت مستعصية، وتهدد وحدة المجتمع واستمرار كيان الدولة. الى جانب الارهاب الذي أربك الوضع وفرض على التونسيين التعايش معه، دون أن ننسي أنه ضرب النشاط الاقتصادي ما جعل نسبة النمو تتدحرج الى أقل من واحد بالمائة ، الأمر الذي أدخل البلاد في أتون أزمة اجتماعية تعد بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الأخضر واليابس، وتمثل خطرا محدقا يهدد مسار الانتقال الديمقراطي المتواصل إلى حد الآن، برغم أنه يبقي مسارا هشا ومهدد بالانتكاس. بعد ست سنوات من الثورة، تمر تونس بفترة هامة ومفصلية، إذ أنه وبرغم النجاح السياسي، المتمثل في كتابة دستور وانجاز استحقاقات انتخابية ديمقراطية، فإنها ما زالت تعيش وضع يتصف بالهش ويمكن أن ينزلق نحو الفوضى. وذلك مرده تنامي الخطر الارهابي، وجود تخوفات من عودة الاستقطاب والانقسام ما قد يؤدي الى نسف "التوافقات" و "التسويات" القائمة، خاصة في ظل تواصل حالة الانقسام التي يعيشها حزب "نداء تونس" الذي يحكم البلاد، هذا فضلا عن تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، التي قد تدخل البلاد في احتجاجات طويلة تكون مقدمة للانزلاق نحو الفوضى. هذا الى جانب تواصل خطر تهميش الشباب، الذين عبروا عن رفضهم الانخراط في المشهد الحالي، من خلال مقاطعة الأحزاب السياسية، برز ذلك من خلال مقاطعة واسعة للانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، وهي إشارة الى غضبهم على الطبقة السياسية الحالية، واعتبارها لا تعبّر عن مشاغلهم. وفي هذا السياق، ننبّه إلى خطر بقاء الفئة الشبابية، التي تمثل ثلثي السكان، خارج الأطر التقليدية للتأطير الاجتماعي والسياسي، خصوصا في ظل تزايد حجم البطالة، خاصة في صفوف حاملي الشهادات العليا، ما جعل قطاع واسع منهم يتوجه نحو الجماعات المتشددة.وهو وضع مرشح للتعمق أكثر في ظل حصول تفقير كبير لشرائح من المجتمع، وتراجع في حجم ودور الطبقة الوسطى التي هي العمود الفقري للاستقرار، و هذا يشكل في الواقع مشهد مخيف ينذر بتفجر حركات احتجاجية ستكون أيضا في علاقة وثيقة بالإصلاحات الاقتصادية المتوقعة، التي يتوق أن تزيد في تهميش الفئات الفقيرة. هذا ما سيجعل تونس مقبلة في المرحلة القادمة على مواجهة تحديات كبيرة لإعادة نفوذ الدولة، ومواجهة الاحتجاجات التي قد تربك الاستقرار وتشتت خاصة عمل الجيش والأمن، في حربهما على الإرهاب. خصوصا وأن الواقع بين أن هذه الاحتجاجات تتغذى من ظاهرة "التمرد" على القانون ومؤسسات الدولة التي انتشرت خلال السنوات التي تلت الثورة، برغم تأكيد الخطاب الرسمي على ضرورة استعادة "هيبة الدولة".