في خطوة فهمت منها على أنها مواصلة لحرب الدولة على الفساد التي بدأت فيها حكومة يوسف الشاهد منذ فترة بإيقاف مجموعة من الأشخاص الذين تعلقت بهم شبهات فساد وعرفوا بكونهم رموز التجارة الموازية والتهريب وبارونات الكونترا الماسكين بالاقتصاد التحتي الذي بات يهدد الاقتصاد الوطني في مفاصله الحيوية، أصدر رئيس الحكومة قرارا مهما يقضي بمنح كل جمعيات المجتمع المدني أجلا مدته شهرا واحدا لتقديم كشف دقيق عن حساباتها للجهات الرسمية والإعلام عن الجهات الأجنبية الداعمة لهذه الجمعيات وقيمة المبالغ المالية المتحصل عليها من الخارج إن وجدت. فهل يكون هذا القرار خطوة في الاتجاه الصحيح لتوضيح وضعية الكثير من الجمعيات التي تأسست بعد 14 جانفي 2011 والتي لا تزال إلى اليوم تنشط من دون أن تعلم عن مصادر تمويلها ؟ وهل تكون هذه الخطوة التي أقدم عليها الشاهد تسمح بالكشف عن حقيقة الكثير من هذه الجمعيات التي لا يعلم عن خلفيات نشاطها أي شيء خاصة تلك التي تتلقى تمويلا ودعما ماديا من الخارج ولها ارتباطات بدول وسفارات أجنبية ؟ وهل يسمح هذا القرار بفتح ملف الجمعيات كاملا وتسليط الضوء على الجمعيات التي لم يسلط عليها الضوء بتاتا وهنا نقصد الجمعيات التي لها ارتباطات بأحزاب سياسية وجمعيات في الخارج ذات التوجهات الفكرية العلمانية والتي تحوم حولها شبهات لخدمة أجندات أجنبية ذلك أن الحديث إلى حد اليوم قد اقتصر على الجمعيات ذات الطابع الخيري أو ذات الطابع الدعوي الديني في حين هناك الكثير من الجمعيات الأخرى المرتبطة بجهات غربية وتتلقى دعما ماليا سخيا لتنفيذ برامجها وسياساتها في تونس وهو ملف لم يفتح بعد ولا نعلم عنه شيئا. وتجدر الملاحظة هنا إلى أنى القرار الذي اتخذه رئيس الحكومة المتعلق بالكشف عن مصادر تمويل الجمعيات لا يستهدف تأسيس الجمعيات ولا يرمي إلى التضييق على نشاطها ذلك أن فكرة المجتمع المدني هي فكرة تأسست على تمكين المكون الجمعياتي من عضد جهد الدولة وإسنادها في العمل الاجتماعي، فالدولة الحديثة تحتاج إلى نسيج من الجمعيات المتعدد الاختصاصات لمساعدتها في إدارتها للشأن العام ولتغطية المجالات التي لا تقدر الدولة أن تصل إليها فمن هذا المنطلق فإن وجود هذه الجمعيات ضروري وحيوي لتطوير المجتمع ومساعد الدولة على انجاز أعمالها الاجتماعية ولكن هذا النسيج الكبير من الجمعيات يحتاج أن يدار وفق معايير النزاهة والشفافية والوضوح حتى لا يقع الانحراف وتحصل المنعرجات . وتنفيذا لهذه القواعد في تسيير الجمعيات وحتى يكون عملها سليما، فإنه من الضروري أن يكون لدى هذه الجمعيات كشف حسابات واضح ودقيق.. ومن الضروري كذلك أن تعلم عن مصادر تمويلها حتى لا تربط بها شبهات تبييض للأموال واستعمال الأموال لإغراض غير الغرض الذي تأسست من أجله وغير ذلك من الانحرافات التي قد تقع. وللتذكير فان عدد جمعيات المجتمع المدني في تونس و التي تحصلت على تراخيص وتنشط وفق القانون يبلغ وفق احصائية تعود إلى سنة 2015 قرابة 18 ألف جمعية موزعة إلى 119 جمعية أجنبية و 2262 جمعية خيرية و 300 جمعية حقوقية و 3032 جمعية ثقافية وفنية ومئات من الجمعيات الدينية المصنفة ضمن خانة الجمعيات الثقافية وأن أكثر من 8 ألاف من الرقم الجملي تأسس بعد 14 جانفي 2011. كما أضح تقرير صادر عن دائرة المحاسبات أن 1500 جمعية فقط قامت بإيداع تقارير مالية عن مداخليها ومصاريفها بدائرة المحاسبات بعنوان سنة 2014 ولا نعلم اليوم أي جديد بخصوص هذه التصاريح . هذا وقد أفاد مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق والجمعيات في تقرير سابق أن 8 آلاف جمعية فقط لها معرف جبائي حسب إحصائية وزارة المالية في حين أن بقية الجمعيات الأخرى ليست لها ملفات مالية أو جبائية وأن الآلاف من الجمعيات تنشط دون أن تكون للسلطات أية معطيات حول مواردها المالية ولا حول أوجه التصرف في هذه الموارد. وفي تصريح سابق قالت القاضية بدائرة المحاسبات فضيلة قرقوري إن الدولة وهياكلها العمومية المختلفة لا تملك معطيات كاملة حول عدد الجمعيات التي تسند لها أموال عمومية ولا حجم تلك الأموال عموما فما بالك بتلك التي لا تتمتع بتمويل عمومي. أمام هذا الوضع الغامض والملتبس وأمام خطورة الدور الذي تلعبه هذه الجمعيات في المجتمع وأمام ما يشاع عن وجود شبهات فساد في عمل هذه الجمعيات في علاقة بمصادر تمويلها وفي علاقة بطريقة تصرفها في مواردها وفي الأهداف المرسومة في نشاطها وفي الانحراف بها نحو غايات وأهداف أخرى البعض منها يصل إلى تمويل الإرهاب وخدمة أجندات إرهابية والبعض الآخر له علاقة بالولاء لجهات أجنبية تكون عادة الجهة الممولة وفي خدمة استراتيجيات قد تمثل تهديدا للأمن القوميى وتهديدا لثقافة وهوية البلاد، خاصة تلك الجمعيات المرتبطة بسفارات دول أجنبية عربية كانت أم غربية. أمام هذا الوضع وحتى يتوقف التسيب فإن مثل قرار الحكومة الأخير يكون ضروريا لتوضح الصورة والوقوف على مصادر التمويل ومآل النفقات وأوجه التصرف في الأموال المتحصل عليها وهي خطوة نعتقد أنها في الاتجاه الصحيح حتى تزال كل الشبهات حول نشاط هذه الجمعيات ومصادر تمويلها وحتى نعيد لهذا النشاط المدني إلى غاياته الأولى وأهدافه الأساسية وهي خدمة البلاد ومساعدة الدولة في مهامها وبرامجها الاجتماعية . فالخطر في الأخير ليس في التمويل ومصدره وإنما الخطر في اخفاء مصدر التمويل ومأتاه وعدم الكشف عن حسابات ومصاريف النشاط بكل دقة ووضوح.