قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار الأخضر
مصطفى القلعي(*)
نشر في الشعب يوم 20 - 02 - 2010

لقد عرف العالم الحديث نشأة علوم كثيرة منذ الثورة الكوبرنيكيّة . وبين أغلب العلوم النظريّة وبين الإيديولوجيا تنافذ واضح كثيرا وخفيّ قليلا. فالإيديولوجيا، في تعريفها الأوّل، هي علم الأفكار. والعلوم النظريّة تعمل على تصيير الأفكار أنساقا. ومتى صارت كذلك شرعت الإيديولوجيا في العمل. هذا احتمال من جملة احتمالات ممكنة حول شكل العلاقة بين العلوم النظريّة وبين الإيديولوجيا. وباقي الاحتمالات يمكن تصوّره وتصنيفه. من هذه الاحتمالات أن تنشأ الظاهرة في الطبيعة أو في المجتمع، فيرصدها العلم ويشرع في ضبطها وتكوين معرفة حولها حتى تصبح نسقا. وهذا شأن العلوم الإنسانيّة، مثلا، اللصيقة بالإيديولوجيا كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والنقد الأدبيّ والفلسفة والتاريخ.
أمّا العلاقة بين العلوم التجريبيّة وبين الإيديولوجيا فينتابها كثير من اللبس. والفكر المعاصر لم يوضّحها. ذلك أنّ السكولاستيكيّين يصرّون على أنّ للعلوم التجريبيّة صيرورتها الخاصّة المستقلّة التي بموجبها تتضافر فيما بينها وتتوارث وتتطوّر وتنمو وفق حركة المجتمع ومنزلة المعرفة فيه. وهم يرون أنّ العلوم تنشأ وتعيش في معاهد الأبحاث أو مراكز الأبحاث أين توجد القاعات البلّورية والمختبرات المعقّمة وأنواع المكروسكوب، بعيدا عن صخب الشوارع وضجيج الحانات ودخان الغرف المغلقة أين يمكن أن تينع الإيديولوجيا وتوسّع طموحاتها في دغدغة أذهان الحالمين. فالعلم، عندهم، منطلقُه وغايتُه ذاتُه لا أكثر. بمعنى أنّ العلوم التجريبيّة لا تطمح إلى أن تتحوّل، مثلا، إلى إيديولوجيا ذات غايات اجتماعيّة أو سياسيّة وإن طمحت فإنّ طبيعتها التجريبيّة المخبريّة تعطّل طموحها.
ولذلك لم تنشأ أحزاب سياسيّة في العالم تقع مرجعيّتها في العلوم الطبيعيّة أو الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا، مثلا. وهذا ما يعني أنّ العلوم التجريبيّة ظلّت علوما نخبويّة لا يمارسها ولا يطّلع عليها إلاّ المتمدرسون داخل الفضاءات التعليميّة التربويّة والجامعيّة. فهي علم يدرَّس خلافا للإيديولوجيا. فهي، متى تسلّلت من العقول إلى الصحائف ثمّ خرجت من دفّات الكتب ونزلت إلى الشارع، تحوّلت إلى تجربة للاكتساب ميدانيّا من قبل كلّ المريدين بقي أنّ هذا التمييز السكولاستيكيّ بين العلوم التجريبيّة وبين الإيديولوجيا ستبدّده الإيكولوجيا، كما سنرى.
الإيكولوجيا والفعل الإيديولوجيّ:
الإيكولوجيا علم من العلوم التجريبيّة. وقد أثبت تاريخ العلم أنّها انبثقت عن علم آخر هو البيولوجا(1). وقد طلع الإثنان كلاهما من العقل الألمانيّ. والفضل في اكتشافها وتسميتها يعود للبيولوجي الألمانيّ إرنست هانريش هايكال (Heinrich Haeckel, Ernst ) (1834 - (1919. ولفظ (écologie) مشتقّ من اللفظين الإغريقيّين (oikos)، التي تعني «منزل» أو «سكن»، و (logos)التي تعني «خطاب» أو «علم» ولفظ «إيكولوجيا» يعني، في نشأته الأولى، «علم المساكن» أو «علم السكن» أو شيء قريب من هذا المعنى.
لكن يبدو أنّ الإيكولوجيا لم تنسجم مع التعقيم والبياض المفرط. ولذلك سرعان ما خرجت من المختبر البيولوجيّ لتنزل إلى الشوارع. وتلتحم بها الجماهير. فقد خرجت عن ممكنات تحوّل العلم إلى إيديولوجيا التي انفتح المقال بالحديث عنها. إنّها علم عبَر من المختبر إلى الشارع دون أن يمرّ بالنسق كما كان شأن العلوم النظريّة، إذ سبق ظهورُ المناضلين البيئيّين ظهورَ المفكّرين البيئيّين ومؤسّسات الدفاع البيئيّ المدنيّ كالأحزاب السياسيّة الإيكولوجيّة والجمعيّات البيئيّة.
لقد اتّخذ الفعل الإيكولوجيّ شكلين، رسميٍّ وشعبيٍّ. تجسّد الشكل الرسميّ في عمل الحكومات المركزيّة على إنشاء وزاراتٍ وإدارات عامّة للبيئة لكنّ هذه الهياكل لم تكن نضاليّة بقدرما كانت مؤسّسات موجّهة نحو التشريع للرأسماليّة وتغطية نشاطاتها المعادية للبيئة بفعل قيامها على قانون الرّبح المعادي للقيم وللطبيعة. فهي مؤسّسات عميلة للرأسماليّة بتلويناتها المختلفة، تخدم مصالحها. وتوقَّف نشاطُها البيئيّ العموميّ على ما تعتبره «تزيينا» للمدن وعلى نشر الومضات التوعويّة في المؤسّسات الإعلاميّة الرسميّة ومن غير المنهجيّ أن يطالب أحدٌ المؤسّسات البيئيّة الرسميّة في الحكومات المركزيّة بالنضال الإيكولوجيّ. فهو ليس من مشمولاتها الإداريّة، على كلّ حال.
أمّا الشكل الشعبيّ فقد تمثّل في طلوع حركات أصدقاء الإيكولوجيا (les partisans de lécologie) في أنحاء متعدّدة من العالم باستثناء العالمين العربيّ والإفريقيّ. وقد رفعت هذه الحركات شعارات الدفاع عن البيئة ومقاومة التلويثَ. وهذه الحركات الإيكولوجيّة لم تكن متأدلجة بإيديولوجيا بعينها. ولم تكن مؤطّرة سياسيّا. وقد نشأت نشأة متزامنة في أكثر من مكان، أنشأها الفزع من هول النظام العالميّ الجديد الذي بشّرت به الرأسماليّة. وشرعت في تركيزه غصبا وقهرا على البشر أجمعين ولقد حرّك هذه الحركاتِ الوعيُ بالاعتداءات التي تعرّضت إليها الأرض والسماء بفعل التصنيع والتلويث والتسلّح.
بهذا المعنى، فإنّ الإيكولوجيا تعدّ أكثر العلوم التجريبيّة رواجا وشعبيّة عند الجماهير بعدما نجحت في فكّ أسرها من المختبر، واستجارت بالشارع ليفكّ عقال لسانها حتى تصرخ عاليا فاضحة التغوّل الرأسماليّ مندّدة بالتواطؤ الرسميّ من قبل الأنظمة السياسيّة التي ائتُمنت على رقاب الناس وعلى أرضهم وسمائهم. إنّ المناضلين الإيكولوجيّين تركوا في أحيان كثيرة ماهية العلم الإيكولوجيّ النظريّة التجريديّة. وتمسّكوا بوجهه المناضل. ألا يعني ذلك أنّ الإيكولوجيا علم تقدميّ مقاوِم غفل عنه اليسار العربيّ؟
:
قلنا إنّ الحركات الإيكولوجيّة العالميّة ليست حركات متأدلجة ومع ذلك، لا تخفى ميولاتها اليساريّة، وهو شأن أحزاب الخضر السياسيّة في العالم، الآن، باستثناء أحزاب الخضر العربيّة(2) بطبيعة الحال. فهي ليست إلى اليسار ولا إلى اليمين!! إنّها مع السلطة المركزيّة الحاكمة حيثما كانت تكون، وهي محدثة أساسا لتعطيل النضال الإيكولوجيّ ولسدّ الطريق أمام المناضلين الإيكولوجيّ الحقيقيّين. إنّ دورها تشريفاتيّ تزيينيّ تلميعيّ لصورة المشهد الديمقراطيّ المحليّ. والحسنات بأجرها.
إنّ نظرة تأمليّة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين كفيلة بأن تكشف التحوّل الذي طرأ على مفهوم اليسار في العالم. لقد عملت الرأسماليّة جاهدة، مغلّفة بغلاف الإيديولوجيا الديمقراطيّة الليبراليّة، على القضاء على اليسار، فبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين انحسر نشاط اليسار في العالم فترة من الزمن. وتراجع فعله في المجتمع على المستويات جميعها، ولكنّه لم ينته. بل تحوّل فقد مكّنه الفكر الحيّ الذي ينبني عليه من إمكانات التحوّل إلى ساحات أخرى والتلوّن بألوان نضاليّة جديدة، ولقد فتحت الرأسماليّة لليسار ميدانا ليستعيد الشباب، من حيث أرادت إبادته، بإنتاجها لفكر العولمة التنميطيّ.
اتّخذ اليسار في العالم أشكالا مختلفة في الحضور في المشهد الكونيّ، يمكن أن نرصد من بينها إثنين، الأوّل هو الشكل الاحتجاجيّ على العولمة وعلى التلويث وهو شكل تلقائيّ عفويّ شعبيّ موجّه لمواجهة الرأسماليّة، والثاني هو الشكل التنظيميّ المتمثّل في ظهور أحزاب سياسيّة معارضة للأنظمة المركزيّة القائمة في أوروبّا، لها أهداف غير إيديولوجيّة سياسيّة وإنّما رفعت شعارات الدفاع عن البيئة، والشكلان اليساريّان كان لهما أثر على الساحة الأوروبيّة، أساسا.
لقد منحت الرأسماليّةُ، غير مشكورة، اليسار رئة جديدة يتنفّس بها، فقد توسّعت القاعدة الجماهيريّة لليسار الاحتجاجيّ في أنحاء العالم كافّة، إذ صارت تجمع طلاّب الجامعات والعمّال وصغار الموظّفين وأبناء الرأسماليّين وأبناء رجال السياسة الحالمين المحميّين إضافة إلى العاطلين النوعيّين خرّيجي الجامعات والمطرودين من المؤسّسات الرأسماليّة وغيرهم من أحبّاء البيئة. ولم تجمع بين هؤلاء الإيكولوجيّين الإيديولوجيا الماركسيّة، وإنّما جمعتهم رؤيتهم الشعريّة للعالم وولعهم بالأرض التي لا أرض سواها وعشقهم للسماء التي لا سماء عداها وعدوّهم واحد: الرأسماليّة.
لقد نشأت في أطراف متباعدة من العالم نشاطات شبابيّة تضمّ شبابا من طبقات مختلفة وانتماءات متنوّعة للاحتجاج على الشكل الرأسماليّ العولميّ باعتباره خطرا كونيّا يهدّد التنوّع الطبيعيّ للثقافات والحضارات والشعوب، ولم تنجُ قمّة من قمم الدول المسمّاة كبرى أو اجتماع من اجتماعات البنك الدوليّ أو منظّمة التجارة العالميّة ولا حتى قمّة المناخ الأخيرة في كوبنهاغن، من مظاهر الاحتجاج والتنديد والفضح... سهرات طويلة باردة قضّاها المحتجّون في العراء متنازلين عن دفء البيوت، شتاء، وعن برودة المكيّفات، صيفا لإدانة مفسدي الكون وشتمهم.
لابدّ أن نسجّل الشكل المدنيّ لهذه الحركات الاحتجاجيّة ذات الميولات اليساريّة، فهي حركات يساريّة بالميل والهوى وباشتراكها في معاداة الرأسماليّة رغم اختلاف الطبقات والمنازل الاجتماعيّة ولكنّها، مع ذلك، لم تحمل السلاح ولم تتحوّل إلى حركات مسلّحة، كما كان شأن الحركات اليساريّة في العالم من قبل. لقد نفذ اليسار الجديد داخل عمق الأنظمة الليبراليّة، الوجه الإيديولوجيّ للرأسماليّة، وتحرّك داخلها مستفيدا من شعاراتها المردّدة لحقّ الأفراد في التنظّم والاحتجاج السلميّ، لكنّ هذا الشكل الاحتجاجيّ السلميّ نجح في أحيان كثيرة في شلّ حركة النشاط الرأسماليّ وفي إيلام الأنظمة الرأسماليّة التي أحسّت بأنّها ضُربت بيدها... بشعاراتها نفسها ومن قبل أولادها أنفسهم.
اليسار الأوروبّي لم يترك الساحة السياسيّة تماما لليبراليّين ولا لليمين. ولقد كانت الساحة الإيكولوجيّة ميدانا مهمّا للنضال اليساريّ، فقد انضمّ دانييل كوهين بنديت (1945)، أحد قادة تحرّكات ماي 68 الطلابيّة اليساريّة في فرنسا، إلى حزب الخضر الألمانيّ، وانتخب من ضمنهم في البرلمان الأوروبيّ سنة 1994. ثمّ عاد بنديت إلى حزب الخضر الفرنسيّ، وقاد قائمته إلى البرلمان الأوروبيّ في ماي 1999 وخاض من هناك معارك شرسة ضدّ الانتهاكات البيئيّة الرأسماليّة وضدّ محاولات الحكومات الأوروبيّة إخفاء قضايا النفايات النوويّة التي تدسّها في أعماق المحيطات وفي رحاب الصحارى الجليديّة والرمليّة.
كما شهدت الانتخابات البرلمانيّة الفرنسيّة لسنة 1997 تحالفا تاريخيّا بين الخضر الفرنسيّين وبين الحزبين الاشتراكيّ والشيوعيّ، ولقد فاز الخضر بستّة مقاعد في البرلمان الفرنسيّ وتولّت الناطقة بلسان الحزب دومينيك فواني (1958) حقيبة وزارة البيئة والتهيئة الترابيّة في حكومة ليونال جوسبان الأمين العام للحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ، حينها. هذا التحالف بين الخضر الفرنسيّين وبين الاشتراكيّين والشيوعيّين أحد الأدلّة على الميولات اليساريّة للفعل الإيكولوجيّ.
لقد شهدت أوروبّا نشأة أحزاب الخضر ذات الميولات اليساريّة في دول كثيرة منها كالمملكة المتّحدة (1973) وألمانيا وبلجيكيا (1980) والبرتغال وجمهوريّة إيرلندا والسويد (1981) والدنمارك واللكسمبورغ وهولندا (1983) وفرنسا (1984) وإسبانيا (1985) والنمسا (1986) وفنلندا وإيطاليا (1987) وأحدث المواليد الإيكولوجيّين الأوروبيّين كان حزب الخضر اليونانيّ سنة (1989)، ثمّ حزب الخضر الروسيّ سنة (1991).
فاليسار في أوروبّا وفي بعض المناطق الأخرى من العالم قد اخضرّ، واخضراره لم يغيّر جوهره باعتباره يتأسّس على فكر إنسانيّ حالم بالقيم العليا والمثل الكبرى. فاخضراره لم يلغ احمراره، وإنّما وسّع قاعدته الجماهيريّة بفضل تزايد أعداء الرأسماليّة في العالم وأمدّه بطاقات ثوريّة جديدة، وصار قادرا على إيلام الرأسماليّة باحتجاجاته وإضراباته وموسيقاه وفنونه ونجح في إقراف الأنظمة الليبراليّة داخل فضاءاتها البرلمانيّة بنقاشاته وجدله واستفزازاته.
الوضع العربيّ مختلف. فالوعي الإيكولوجيّ الرسميّ موجود إذ ترصّعت الحكومات العربيّة بوزارات للبيئة والوعي الإيكولوجيّ الجماهيريّ يتزايد لاسيّما في صفوف طلاّب الجامعات وأبناء الطبقات الوسطى وحتى الطبقات المرفّهة لكنّ اليسار العربيّ تأخّر، كعادته، عن حركة المجتمع، وتغافل عن الوعيين الرسميّ والشعبيّ. بل تكبّر على الفعل الإيكولوجيّ الأخضر، وأصرّ على احمراره.
اليسار العربيّ أمره غريب!! يقبل بأن يلعب لعبة الخسران، فيتنظّم في أحزاب شيوعيّة أو عمّاليّة أو اشتراكيّة نخبويّة محدودة القاعدة ضعيفة مكشوفة مخترقة من الداخل، ويرضى بالحصّة المقسومة ويتلقّى المكاسب هباتٍ ويستنكف من الاخضرار ويتعالى على النضال الإيكولوجيّ، فيُترك على تعاليه الموهوم، ويتمّ توفير ما يكفيه من الدهن الأحمر، أمّا الفعل الإيكولوجيّ المعارض فإنّه خانة لابدّ أن تُملأَ وبما أنّ اليسار العربيّ لاهٍ عن الطبيعة والبيئة والأرض والسماء ومن عليهما وما بينهما، فقد تولّت جهات أخرى ليبراليّة وحتى رأسماليّة (!!) المهمّة وملأت الفراغ السياسيّ الإيكولوجيّ، وعطّلت النضال الإيكولوجيّ في الساحات العربيّة فيما اليسار العربيّ يتبادل التهاني بمناسبة افتتاح حانة جديدة في شارع مضيء لمدينة متوسّطية كبيرة.
(*) كاتب من تونس: [email protected]
(1) توسّعتُ في الحديث عن نشأة الإيكولوجيا في مقال منشور بمجلّة الأوان الإلكترونيّة بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، عنوانه «البيئة والإيديولوجيا». ثمّ أضفت إليه مقالين في المشغل الإيكولوجيّ ذاته تناوَلا جوانب أخرى منه منشورين، أيضا، في الأوان، الأوّل عنوانه «الإيكولوجيا والديمقراطيّة» نشر في 9 كنون الأوّل/ ديسمبر 2009، والثاني عنوانه «عطالة الإيكولوجيا السياسيّة في المجتمعات العربيّة» منشور في 29 كانون الأوّل/ ديسمبر 2009.
(2) ثلاثة مجتمعات عربيّة نشأت فيها أحزاب الخضر هي المجتمع المصريّ واللبنانيّ والتونسيّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.