مجدولين الورغي: عريضة سحب الثقة لا تستهدف بودربالة بل تصحيح أداء مكتب المجلس    الشرع: سوريا حققت إنجازات كبيرة خلال 11 شهرا    اليوم جلسة عامّة بالبرلمان لمناقشة ميزانية وزارتي الداخلية و العدل    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض    مجلس الشيوخ الأمريكي يصوت لصالح إنهاء الإغلاق الحكومي    ألعاب التضامن الإسلامي بالسعودية :تونس تُتوج بثلاث ميداليات برونزية في الجودو    السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    النجم الرياضي الساحلي يستنكر الهفوات التحكيمية في مواجهة النادي الرياضي البنزرتي    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار الأخضر
مصطفى القلعي(*)
نشر في الشعب يوم 20 - 02 - 2010

لقد عرف العالم الحديث نشأة علوم كثيرة منذ الثورة الكوبرنيكيّة . وبين أغلب العلوم النظريّة وبين الإيديولوجيا تنافذ واضح كثيرا وخفيّ قليلا. فالإيديولوجيا، في تعريفها الأوّل، هي علم الأفكار. والعلوم النظريّة تعمل على تصيير الأفكار أنساقا. ومتى صارت كذلك شرعت الإيديولوجيا في العمل. هذا احتمال من جملة احتمالات ممكنة حول شكل العلاقة بين العلوم النظريّة وبين الإيديولوجيا. وباقي الاحتمالات يمكن تصوّره وتصنيفه. من هذه الاحتمالات أن تنشأ الظاهرة في الطبيعة أو في المجتمع، فيرصدها العلم ويشرع في ضبطها وتكوين معرفة حولها حتى تصبح نسقا. وهذا شأن العلوم الإنسانيّة، مثلا، اللصيقة بالإيديولوجيا كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والنقد الأدبيّ والفلسفة والتاريخ.
أمّا العلاقة بين العلوم التجريبيّة وبين الإيديولوجيا فينتابها كثير من اللبس. والفكر المعاصر لم يوضّحها. ذلك أنّ السكولاستيكيّين يصرّون على أنّ للعلوم التجريبيّة صيرورتها الخاصّة المستقلّة التي بموجبها تتضافر فيما بينها وتتوارث وتتطوّر وتنمو وفق حركة المجتمع ومنزلة المعرفة فيه. وهم يرون أنّ العلوم تنشأ وتعيش في معاهد الأبحاث أو مراكز الأبحاث أين توجد القاعات البلّورية والمختبرات المعقّمة وأنواع المكروسكوب، بعيدا عن صخب الشوارع وضجيج الحانات ودخان الغرف المغلقة أين يمكن أن تينع الإيديولوجيا وتوسّع طموحاتها في دغدغة أذهان الحالمين. فالعلم، عندهم، منطلقُه وغايتُه ذاتُه لا أكثر. بمعنى أنّ العلوم التجريبيّة لا تطمح إلى أن تتحوّل، مثلا، إلى إيديولوجيا ذات غايات اجتماعيّة أو سياسيّة وإن طمحت فإنّ طبيعتها التجريبيّة المخبريّة تعطّل طموحها.
ولذلك لم تنشأ أحزاب سياسيّة في العالم تقع مرجعيّتها في العلوم الطبيعيّة أو الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا، مثلا. وهذا ما يعني أنّ العلوم التجريبيّة ظلّت علوما نخبويّة لا يمارسها ولا يطّلع عليها إلاّ المتمدرسون داخل الفضاءات التعليميّة التربويّة والجامعيّة. فهي علم يدرَّس خلافا للإيديولوجيا. فهي، متى تسلّلت من العقول إلى الصحائف ثمّ خرجت من دفّات الكتب ونزلت إلى الشارع، تحوّلت إلى تجربة للاكتساب ميدانيّا من قبل كلّ المريدين بقي أنّ هذا التمييز السكولاستيكيّ بين العلوم التجريبيّة وبين الإيديولوجيا ستبدّده الإيكولوجيا، كما سنرى.
الإيكولوجيا والفعل الإيديولوجيّ:
الإيكولوجيا علم من العلوم التجريبيّة. وقد أثبت تاريخ العلم أنّها انبثقت عن علم آخر هو البيولوجا(1). وقد طلع الإثنان كلاهما من العقل الألمانيّ. والفضل في اكتشافها وتسميتها يعود للبيولوجي الألمانيّ إرنست هانريش هايكال (Heinrich Haeckel, Ernst ) (1834 - (1919. ولفظ (écologie) مشتقّ من اللفظين الإغريقيّين (oikos)، التي تعني «منزل» أو «سكن»، و (logos)التي تعني «خطاب» أو «علم» ولفظ «إيكولوجيا» يعني، في نشأته الأولى، «علم المساكن» أو «علم السكن» أو شيء قريب من هذا المعنى.
لكن يبدو أنّ الإيكولوجيا لم تنسجم مع التعقيم والبياض المفرط. ولذلك سرعان ما خرجت من المختبر البيولوجيّ لتنزل إلى الشوارع. وتلتحم بها الجماهير. فقد خرجت عن ممكنات تحوّل العلم إلى إيديولوجيا التي انفتح المقال بالحديث عنها. إنّها علم عبَر من المختبر إلى الشارع دون أن يمرّ بالنسق كما كان شأن العلوم النظريّة، إذ سبق ظهورُ المناضلين البيئيّين ظهورَ المفكّرين البيئيّين ومؤسّسات الدفاع البيئيّ المدنيّ كالأحزاب السياسيّة الإيكولوجيّة والجمعيّات البيئيّة.
لقد اتّخذ الفعل الإيكولوجيّ شكلين، رسميٍّ وشعبيٍّ. تجسّد الشكل الرسميّ في عمل الحكومات المركزيّة على إنشاء وزاراتٍ وإدارات عامّة للبيئة لكنّ هذه الهياكل لم تكن نضاليّة بقدرما كانت مؤسّسات موجّهة نحو التشريع للرأسماليّة وتغطية نشاطاتها المعادية للبيئة بفعل قيامها على قانون الرّبح المعادي للقيم وللطبيعة. فهي مؤسّسات عميلة للرأسماليّة بتلويناتها المختلفة، تخدم مصالحها. وتوقَّف نشاطُها البيئيّ العموميّ على ما تعتبره «تزيينا» للمدن وعلى نشر الومضات التوعويّة في المؤسّسات الإعلاميّة الرسميّة ومن غير المنهجيّ أن يطالب أحدٌ المؤسّسات البيئيّة الرسميّة في الحكومات المركزيّة بالنضال الإيكولوجيّ. فهو ليس من مشمولاتها الإداريّة، على كلّ حال.
أمّا الشكل الشعبيّ فقد تمثّل في طلوع حركات أصدقاء الإيكولوجيا (les partisans de lécologie) في أنحاء متعدّدة من العالم باستثناء العالمين العربيّ والإفريقيّ. وقد رفعت هذه الحركات شعارات الدفاع عن البيئة ومقاومة التلويثَ. وهذه الحركات الإيكولوجيّة لم تكن متأدلجة بإيديولوجيا بعينها. ولم تكن مؤطّرة سياسيّا. وقد نشأت نشأة متزامنة في أكثر من مكان، أنشأها الفزع من هول النظام العالميّ الجديد الذي بشّرت به الرأسماليّة. وشرعت في تركيزه غصبا وقهرا على البشر أجمعين ولقد حرّك هذه الحركاتِ الوعيُ بالاعتداءات التي تعرّضت إليها الأرض والسماء بفعل التصنيع والتلويث والتسلّح.
بهذا المعنى، فإنّ الإيكولوجيا تعدّ أكثر العلوم التجريبيّة رواجا وشعبيّة عند الجماهير بعدما نجحت في فكّ أسرها من المختبر، واستجارت بالشارع ليفكّ عقال لسانها حتى تصرخ عاليا فاضحة التغوّل الرأسماليّ مندّدة بالتواطؤ الرسميّ من قبل الأنظمة السياسيّة التي ائتُمنت على رقاب الناس وعلى أرضهم وسمائهم. إنّ المناضلين الإيكولوجيّين تركوا في أحيان كثيرة ماهية العلم الإيكولوجيّ النظريّة التجريديّة. وتمسّكوا بوجهه المناضل. ألا يعني ذلك أنّ الإيكولوجيا علم تقدميّ مقاوِم غفل عنه اليسار العربيّ؟
:
قلنا إنّ الحركات الإيكولوجيّة العالميّة ليست حركات متأدلجة ومع ذلك، لا تخفى ميولاتها اليساريّة، وهو شأن أحزاب الخضر السياسيّة في العالم، الآن، باستثناء أحزاب الخضر العربيّة(2) بطبيعة الحال. فهي ليست إلى اليسار ولا إلى اليمين!! إنّها مع السلطة المركزيّة الحاكمة حيثما كانت تكون، وهي محدثة أساسا لتعطيل النضال الإيكولوجيّ ولسدّ الطريق أمام المناضلين الإيكولوجيّ الحقيقيّين. إنّ دورها تشريفاتيّ تزيينيّ تلميعيّ لصورة المشهد الديمقراطيّ المحليّ. والحسنات بأجرها.
إنّ نظرة تأمليّة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين كفيلة بأن تكشف التحوّل الذي طرأ على مفهوم اليسار في العالم. لقد عملت الرأسماليّة جاهدة، مغلّفة بغلاف الإيديولوجيا الديمقراطيّة الليبراليّة، على القضاء على اليسار، فبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين انحسر نشاط اليسار في العالم فترة من الزمن. وتراجع فعله في المجتمع على المستويات جميعها، ولكنّه لم ينته. بل تحوّل فقد مكّنه الفكر الحيّ الذي ينبني عليه من إمكانات التحوّل إلى ساحات أخرى والتلوّن بألوان نضاليّة جديدة، ولقد فتحت الرأسماليّة لليسار ميدانا ليستعيد الشباب، من حيث أرادت إبادته، بإنتاجها لفكر العولمة التنميطيّ.
اتّخذ اليسار في العالم أشكالا مختلفة في الحضور في المشهد الكونيّ، يمكن أن نرصد من بينها إثنين، الأوّل هو الشكل الاحتجاجيّ على العولمة وعلى التلويث وهو شكل تلقائيّ عفويّ شعبيّ موجّه لمواجهة الرأسماليّة، والثاني هو الشكل التنظيميّ المتمثّل في ظهور أحزاب سياسيّة معارضة للأنظمة المركزيّة القائمة في أوروبّا، لها أهداف غير إيديولوجيّة سياسيّة وإنّما رفعت شعارات الدفاع عن البيئة، والشكلان اليساريّان كان لهما أثر على الساحة الأوروبيّة، أساسا.
لقد منحت الرأسماليّةُ، غير مشكورة، اليسار رئة جديدة يتنفّس بها، فقد توسّعت القاعدة الجماهيريّة لليسار الاحتجاجيّ في أنحاء العالم كافّة، إذ صارت تجمع طلاّب الجامعات والعمّال وصغار الموظّفين وأبناء الرأسماليّين وأبناء رجال السياسة الحالمين المحميّين إضافة إلى العاطلين النوعيّين خرّيجي الجامعات والمطرودين من المؤسّسات الرأسماليّة وغيرهم من أحبّاء البيئة. ولم تجمع بين هؤلاء الإيكولوجيّين الإيديولوجيا الماركسيّة، وإنّما جمعتهم رؤيتهم الشعريّة للعالم وولعهم بالأرض التي لا أرض سواها وعشقهم للسماء التي لا سماء عداها وعدوّهم واحد: الرأسماليّة.
لقد نشأت في أطراف متباعدة من العالم نشاطات شبابيّة تضمّ شبابا من طبقات مختلفة وانتماءات متنوّعة للاحتجاج على الشكل الرأسماليّ العولميّ باعتباره خطرا كونيّا يهدّد التنوّع الطبيعيّ للثقافات والحضارات والشعوب، ولم تنجُ قمّة من قمم الدول المسمّاة كبرى أو اجتماع من اجتماعات البنك الدوليّ أو منظّمة التجارة العالميّة ولا حتى قمّة المناخ الأخيرة في كوبنهاغن، من مظاهر الاحتجاج والتنديد والفضح... سهرات طويلة باردة قضّاها المحتجّون في العراء متنازلين عن دفء البيوت، شتاء، وعن برودة المكيّفات، صيفا لإدانة مفسدي الكون وشتمهم.
لابدّ أن نسجّل الشكل المدنيّ لهذه الحركات الاحتجاجيّة ذات الميولات اليساريّة، فهي حركات يساريّة بالميل والهوى وباشتراكها في معاداة الرأسماليّة رغم اختلاف الطبقات والمنازل الاجتماعيّة ولكنّها، مع ذلك، لم تحمل السلاح ولم تتحوّل إلى حركات مسلّحة، كما كان شأن الحركات اليساريّة في العالم من قبل. لقد نفذ اليسار الجديد داخل عمق الأنظمة الليبراليّة، الوجه الإيديولوجيّ للرأسماليّة، وتحرّك داخلها مستفيدا من شعاراتها المردّدة لحقّ الأفراد في التنظّم والاحتجاج السلميّ، لكنّ هذا الشكل الاحتجاجيّ السلميّ نجح في أحيان كثيرة في شلّ حركة النشاط الرأسماليّ وفي إيلام الأنظمة الرأسماليّة التي أحسّت بأنّها ضُربت بيدها... بشعاراتها نفسها ومن قبل أولادها أنفسهم.
اليسار الأوروبّي لم يترك الساحة السياسيّة تماما لليبراليّين ولا لليمين. ولقد كانت الساحة الإيكولوجيّة ميدانا مهمّا للنضال اليساريّ، فقد انضمّ دانييل كوهين بنديت (1945)، أحد قادة تحرّكات ماي 68 الطلابيّة اليساريّة في فرنسا، إلى حزب الخضر الألمانيّ، وانتخب من ضمنهم في البرلمان الأوروبيّ سنة 1994. ثمّ عاد بنديت إلى حزب الخضر الفرنسيّ، وقاد قائمته إلى البرلمان الأوروبيّ في ماي 1999 وخاض من هناك معارك شرسة ضدّ الانتهاكات البيئيّة الرأسماليّة وضدّ محاولات الحكومات الأوروبيّة إخفاء قضايا النفايات النوويّة التي تدسّها في أعماق المحيطات وفي رحاب الصحارى الجليديّة والرمليّة.
كما شهدت الانتخابات البرلمانيّة الفرنسيّة لسنة 1997 تحالفا تاريخيّا بين الخضر الفرنسيّين وبين الحزبين الاشتراكيّ والشيوعيّ، ولقد فاز الخضر بستّة مقاعد في البرلمان الفرنسيّ وتولّت الناطقة بلسان الحزب دومينيك فواني (1958) حقيبة وزارة البيئة والتهيئة الترابيّة في حكومة ليونال جوسبان الأمين العام للحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ، حينها. هذا التحالف بين الخضر الفرنسيّين وبين الاشتراكيّين والشيوعيّين أحد الأدلّة على الميولات اليساريّة للفعل الإيكولوجيّ.
لقد شهدت أوروبّا نشأة أحزاب الخضر ذات الميولات اليساريّة في دول كثيرة منها كالمملكة المتّحدة (1973) وألمانيا وبلجيكيا (1980) والبرتغال وجمهوريّة إيرلندا والسويد (1981) والدنمارك واللكسمبورغ وهولندا (1983) وفرنسا (1984) وإسبانيا (1985) والنمسا (1986) وفنلندا وإيطاليا (1987) وأحدث المواليد الإيكولوجيّين الأوروبيّين كان حزب الخضر اليونانيّ سنة (1989)، ثمّ حزب الخضر الروسيّ سنة (1991).
فاليسار في أوروبّا وفي بعض المناطق الأخرى من العالم قد اخضرّ، واخضراره لم يغيّر جوهره باعتباره يتأسّس على فكر إنسانيّ حالم بالقيم العليا والمثل الكبرى. فاخضراره لم يلغ احمراره، وإنّما وسّع قاعدته الجماهيريّة بفضل تزايد أعداء الرأسماليّة في العالم وأمدّه بطاقات ثوريّة جديدة، وصار قادرا على إيلام الرأسماليّة باحتجاجاته وإضراباته وموسيقاه وفنونه ونجح في إقراف الأنظمة الليبراليّة داخل فضاءاتها البرلمانيّة بنقاشاته وجدله واستفزازاته.
الوضع العربيّ مختلف. فالوعي الإيكولوجيّ الرسميّ موجود إذ ترصّعت الحكومات العربيّة بوزارات للبيئة والوعي الإيكولوجيّ الجماهيريّ يتزايد لاسيّما في صفوف طلاّب الجامعات وأبناء الطبقات الوسطى وحتى الطبقات المرفّهة لكنّ اليسار العربيّ تأخّر، كعادته، عن حركة المجتمع، وتغافل عن الوعيين الرسميّ والشعبيّ. بل تكبّر على الفعل الإيكولوجيّ الأخضر، وأصرّ على احمراره.
اليسار العربيّ أمره غريب!! يقبل بأن يلعب لعبة الخسران، فيتنظّم في أحزاب شيوعيّة أو عمّاليّة أو اشتراكيّة نخبويّة محدودة القاعدة ضعيفة مكشوفة مخترقة من الداخل، ويرضى بالحصّة المقسومة ويتلقّى المكاسب هباتٍ ويستنكف من الاخضرار ويتعالى على النضال الإيكولوجيّ، فيُترك على تعاليه الموهوم، ويتمّ توفير ما يكفيه من الدهن الأحمر، أمّا الفعل الإيكولوجيّ المعارض فإنّه خانة لابدّ أن تُملأَ وبما أنّ اليسار العربيّ لاهٍ عن الطبيعة والبيئة والأرض والسماء ومن عليهما وما بينهما، فقد تولّت جهات أخرى ليبراليّة وحتى رأسماليّة (!!) المهمّة وملأت الفراغ السياسيّ الإيكولوجيّ، وعطّلت النضال الإيكولوجيّ في الساحات العربيّة فيما اليسار العربيّ يتبادل التهاني بمناسبة افتتاح حانة جديدة في شارع مضيء لمدينة متوسّطية كبيرة.
(*) كاتب من تونس: [email protected]
(1) توسّعتُ في الحديث عن نشأة الإيكولوجيا في مقال منشور بمجلّة الأوان الإلكترونيّة بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، عنوانه «البيئة والإيديولوجيا». ثمّ أضفت إليه مقالين في المشغل الإيكولوجيّ ذاته تناوَلا جوانب أخرى منه منشورين، أيضا، في الأوان، الأوّل عنوانه «الإيكولوجيا والديمقراطيّة» نشر في 9 كنون الأوّل/ ديسمبر 2009، والثاني عنوانه «عطالة الإيكولوجيا السياسيّة في المجتمعات العربيّة» منشور في 29 كانون الأوّل/ ديسمبر 2009.
(2) ثلاثة مجتمعات عربيّة نشأت فيها أحزاب الخضر هي المجتمع المصريّ واللبنانيّ والتونسيّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.