يغفل " الثورجيون " الذين غمروا الساحة ، خلال ما يقرب عن سبع سنوات ، بضجيجهم الذي لا يهدأ ، عن حقيقة ساطعة مفادها أن جنوحهم إلى إستقطاب الإنتهازيين و" قلابي الفبستة " والعائدين من أنفاق الماضي الملوث بدنس ممارساتهم الوضيعة ، يساهم في تشكيل النواة الأولى للثورة المضادة ، كما حدث في الكثير من الأمكنة والأزمنة ، وخاصة في ألمانيا وإيطاليا مع بداية سنة 1848 عندما تحالف الثوار مع أصحاب الأجندات الإنتهازية والمصلحيةالإنتفاعية لمواجهة الجماهير الشعبية المحبطة والمصابة بخيبة أمل . لا شك أن كل ثورة معرضة لثورة مضادة هدفها إستباق الأحداث وصيانة المصالح والمكاسب على حساب الشعارات والقيم التي أغرت الشعب ورفعت من سقف أحلامه وطموحاته . من هذا المنظور يعتبر التوظيف الممنهج لرموز النظام السابق الذين تنكروا لماضيهم و0رتموا في أحضان من كانوا بالأمس القريب خصومهم ، مظهرا من مظاهر الثورة المضادة بتآمر مفضوح ممن ينسبون أنفسهم لما يسمى بالثورة ، وهم الذين ينطبق عليهم وصف رجيس ديبريه " خونة المستقبل " . إن وقائع الثورات عبر التاريخ مليئة بالعبر التي يجهلها الثورجيون الجدد ويعجزون عن إستيعابها والإستفادة منها . في هذا الإطار تحديدا تتنزل محاولات إستقطاب العديد من المسؤولين التجمعيين السابقين من قبل بعض الأطراف السياسية النافذة ، و0ستغلال مواقفهم وتصريحاتهم " الإنقلابية " على ماضيهم و0نتمائهم للحزب والنظام السابقين ، وقد شجعت هذه المحاولات المعنيين بالأمر إ على الهروب إلى الأمام وتكثيف التصريحات الإستفزازية والمزايدة على الثورجيين أنفسهم ، فبعد تصريحاتهم التي إعتذروا فيها للإسلاميين عن "الظلم " الذي قالوا أنه لحقهم في العهد السابق، وتأكيدهم على وجود تقارب بين الدساترة والنهضويين، ثم إعترافهم بتدليس الحزب والنظام للإنتخابات ، أصبحوا ، أخيرا ، منظرين للفكر الثوري الإصلاحي ويروجون لمقارباتهم هذه في وسائل الإعلام المحسوبة على الإسلاميين التي فتحت لهم أحضانها . قد أثارت هذه التصريحات والمواقف ردود فعل عنيفة جدا من الأغلبية الساحقة من الدساترة والبورقيبيين والتجمعيين ، وصلت إلى حد إصدار الحركة الدستورية بيانا شديد اللهجة تستنكر فيها تصريحاتهم ب0سم الدساترة دون أن يكلفهم بذلك أحد، وأكدت الحركة أن تلك التصريحات لا علاقة لها بموقف الدساترة . ومن بين هؤلاء ، وعلى سبيل المثال وليس الحصر نذكر محمد الغرياني آخر أمين عام للتجمع الدستوري المنحل بتواطؤ من العديد من قيادييه ، فمازال محمد الغرياني مصرا على التمسك بصفته " التجمعية " و0ستغلالها في ركوب سروج التشويه المتعمد للنظام السابق الذي كان أحد صناع قراراته ، وقد وصف منتقدوه والمنددون بتصريحاته، هذه التحركات بالإنتهازية ومحاولة للتقرب من حركة النهضة وقيادييها على حساب الدساترة، وذهب البعض الآخر إلى اعتبار مساعي الغرياني "مؤامرة" متفق عليها بينه وبين بعض الأطراف التي أزعجتها عودة الدساترة إلى الساحة من جديد وأربكتها محاولات توحيد العائلة الدستورية ويلعب محمد الغرياني دور المغذي للبروباغاندا المشوهة للدساترة ونضالهم وإنجازاتهم في بناء الدولة الحديثة بعد أن أصبح الخوف من الدساترة الحقيقيين وعودتهم هاجسا مسيطرا على جانب هام من الساحة السياسية حتى في صلب بعض الأحزاب التي يتباهى قادتها بتبنيهم للمرجعية الدستورية والبورقيبية ويعمل البعض على تذكية هذا الهاجس وإضرام لهيبه بشكل إستفزازي للتموقع في ساحة الثورجيين ، وهو ما يوحي ببداية تشكل " ثورة مضادة " تجمع خصوم الأمس وأصحاب المصالح .