بدا جليا وواضحا أن أصل الأزمة الخانقة التي تعيش الساحة السياسية على إيقاعها المرير ، هي ، إنعدام الكفاءة والتجربة الضروريتين لدى أغلب المسؤولين ، سواء على رأس الوزارات أو في بقية مراكز القرار العليا . فليس من الممكن أن تقوم بالتغييرات والإصلاحات اللازمة في ظل غياب الكفاءات القادرة على إنجازاها . وبالرغم من أن الأزمة في البلاد قد بلغت ذروتها المأساوية فإن العديد من الماسكين بزمام الأمور مازالوا مصرين على رفض عودة الكفاءات الوطنية إلى سالف نشاطتها وإضافاتها . فلو تم الإستنجاد بهذه الكفاءات لما سقطت الحكومات السبع المتتالية خلال سبع سنوات في تلك الأخطاء الفادحة ، كالتعيينات « الزبائنية» والمعالجة الخاطئة للأزمات المستفحلة ، و مهادنة المنحرفين والإرهابيين بذريعة صيانة حقوق الإنسان ، والفشل في مكافحة التحيل والتهريب غيرها من المسائل التي تقض مضاجع المواطنين . كان الرئيس الفرنسي الراحل ، الجنرال ديغول ، يقول لوزراء حكوماته المتعاقبة طيلة ولايته الرئاسية : «إن قيمتكم تتجلى في قيمة المستشارين المحيطين بكم « !!! وتفيد سجلات التاريخ أن السلطان العثماني محمد الفاتح ، الذي إقتحم القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ، إسطمبول اليوم، وضمها إلى بلاد الإسلام ، كان حريصا شديد الحرص على عرض كل القرارات التي يعتزم إتخاذها على مستشاريه ، ويناقشها معهم فردا فردا ، ثم جماعيا ، حتى قيل انه « كان ينفذ ولا يقرر «. بهذا الأسلوب المرتكز على مبدإ الإستشارة في الحكم هزم الأمبراطوريةالبيزنطية وآستولى على عاصمتها القسطنطينية وأسر إمبراطورها عماناويل الثاني صاحب القولة الحاقدة ، التي مازال الصليبيون يرددونها: « الإسلام دين عنف « . وعندما إغتر السلطان العثماني الآخر سليمان القانوني بنجاحاته الباهرة ، تخلص من مستشاريه الأكفاء واحدا تلو الآخر ، ثم انفرد بآتخاذ القرارات الحاسمة في السلم والحرب ، فتحطمت جيوشه الجرارة على أسوار مدينة فيينا النمساوية ، وكان عجزه عن اقتحامها بداية نهايته . وفي تاريخنا الوطني المعاصر أكد العديد من وزراء الزعيم الحبيب بورقيبة ان هذا الأخير كان رجل حوار ويحسن جيدا الإستماع إلى وزرائه ومستشاريه في الفترة التي كان متمكنا خلالها بزمام الأمور وتحديدا منذ توليه الحكم وحتى سنة 1970، تاريخ بداية تدهور صحته . هذا السلوك الإستشاري كان سر نجاحة في اتخاذ القرارات الصائبة ، خلال مرحلة تأسيس الدولة المدنية الحديثة . أردت الإستئناس بهذين المثالين للتأكيد على أهمية الإستنجاد بأصحاب التجربة والكفاءة والإختصاص في تسيير شؤون البلاد ، ولا أحد مهما علا شأنه قادر على الإلمام بكل المشاكل وحلها بمفرده على مستوى آخر بدا وكأن كل قضايانا وأزماتنا ومشاكلنا الأمنية والإقتصادية والإجتماعية قد إندثرت وآضمحلت ، ولم نعد نهتم بأثقالها وأوزارها وتداعياتها ومخاطرها ، لتنصب كل إهتماماتنا على المسألة السياسية بكل ما فيها من مقايضات ومزايدات ومناورات ولعب بأعصاب الناس وضحك على ذقونهم . لقد أمعن السياسيون ، خلال الأسابيع الأخيرة ، في النزول بخطابهم إلى حضيض الإسفاف والوضاعة وقلة الحياء وسوء الأدب ، أجل لقد إنحدر أغلبهم إلى خنادق الرغبات الإنتهازية والمقاصد الدنيئة ، وكشفوا عن قواميسهم السياسية الغارقة في مستنقعات الشعبوية المقرفة . إن ما سمعناه وشاهدناه في المنابر الإعلامية ، السمعية -البصرية بالخصوص ،، يدعو إلى الحيرة البالغة والشك والقلق الكبيرين ، فمثل هذه التصرفات تصعد إيقاع الإحتقان والمشاحنات وتزرع بذور الشقاق بين أبناء الشعب الواحد ، وتدنس ، تبعا لذلك ، كل الأهداف التي طالب الشعب بتحقيقها ولم يتحقق منها إلا النزر القليل خلال السنوات الست التي مرت إلى حد الآن . نحن الآن بحاجة أكيدة وماسة إلى تصحيح مناهج الفكر السياسي السائد ، وتجذير قيم ومبادئ السلوك القويم في تسيير شؤون الشعب ، وبالتالي تشريك كل الطاقات والكفاءات القادرة على الإفادة وآنتشال البلاد من المأزق التي تردت فيه . لا شك أن المهمة أصبحت عسيرة ، بعد تفاقم الأزمات ، ولكن لا بد من هبة وعي حقيقية ومباشرة عملية الإنقاذ. إن إقصاء الكفاءت من المساهمة في تسيير دواليب الدولة وهياكلها ، لأسباب إجتثاتية لم تعد تقنع أحدا حتى الذين دأبوا على اعتمادها والترويج لها ، من جهة ، والسقوط في متاهات المزايدات السياسوية المبتذلة من جهة أخرى ، هما من أهم أسباب فشل الدول وآنهيار المجتمعات . لقد ساهم هذا الوضع المتردي في إيجاد بيئة ملائمة للغضب والإحتجاج والتمرد وآنتهاج مسالك العنف والإرهاب ، ومكن أصحاب المخططات التخريبية من هامش كبير للتحرك على جميع الأصعدة وآختراق القطاعات الحساسة لبث سمومهم ، كالتربية والثقافة والإعلام وكل ما يتصل بالتنشئة والتكوين في أوساط اليافعين والشبان ، لآستقطاب الغاضبين والمحبطين والمهمشين منهم ، ومصادرة عقولهم وجرهم إلى بؤر الإرهاب . إن الصراعات المضطرمة في الساحة السياسية الموبوءة بالعنتريات والحسابات المصلحية والأجندات الداخلية والخارجية المشبوهة ، كافية وزيادة لتعطيل مؤسسات الدولة وإغراق البلاد في أزمات إستغلها الإرهابيون لتصعيد مخاطرهم وضرب الوطن في صميم رموزه وقطاعاته الحيوية ، كان من المفروض أن تكون المخاطر المحدقة بالبلاد مبعث روح من التضامن بين كل التونسيين ، ومنطلق مصالحة وطنية شاملة تعيد الحقوق إلى أصحابها وتفتح أبواب المساهمة الفاعلة في الاصلاح والإنقاذ أمام كل القوى الحية والكفاءات الوطنية .لكن الكثيرين من الذين ركبوا سروج الأحداث يرفضون ذلك ويدفعون إلى مزيد تأزيم الأوضاع لأنهم لا يستطيعون التموقع إلا في مياه