إنّ ما يميّز العمل البلدي في بلدتنا وربّما في بلدان أخرى هو عدم التواصل بين المجالس المتعاقبة فلكلّ موقفه إزاء ذلك المشكل أو تلك المسألة، وكلّ ذلك يندرج فيما أصبح يعرف اليوم في الخطاب السياسي بأنّ أي مجلس إنّما هو " سيّد نفسه ". خذ مثلا صيرورة منتزه بئر بلحسن عبر التاريخ أي منذ نشأته على يد الرئيس الأوّل مصطفى الحجيّج عام 1958 فمن فضاء للعائلات أصبح ناديا مغلقا، ثمّ فتح أثناء مدّة تولينا أمام الأطفال وأوليائهم في إطار مدينة أثّثها باعث خاص ثمّ انقلب عند مغادرتنا دفّة الأمور إلى مأوى أقفاص قردة... وكذلك الشأن بالنسبة إلى مقام عمّار المعروفي فبعد أن أزيلت الزاوية العتيقة وتحوّل الفضاء إلى مساحة خضراء يتوسطّها قبّة تأوي جثمان الوليّ المجاهد وهو الأمر الذي حافظنا عليه، ثمّ جاء من بعدنا من اقتلع الأخضر وكثّف البنيان حتى أضحى المكان عبارة عن كتلة من الإسمنت المسلح تشبه ما ينبعث في بلدان الغرب بUn banker . ولقد بلغ مساحة إدمان بعض المجالس بالبناء و"التشييد" حدّه في السوق المركزيّة حيث عمد إلى قطع الأشجار الباسقة وسط الساحة التي تفتح عليها دكاكين الخضر والغلال وتثبيت بناية مكانها تفصل بين جناحي السوق وضعت على ذمّة أعوان المراقبة حتّى أنّ أحد شيوخ الصحافة من معارفي بادرني ذات يوم وهو يحاول المرور بين جنبات هذه البناية " لماذا غيّروا "سليخة" السّوق؟ فلم أنطق ببنت شفة جرّاء واجب التحفّظ ولكن في القلب وجع... ومن مظاهر عدم الاستمراريّة بل وحتّى نقض الالتزامات والعهود مسألة تتعلّق بصحّة المتساكنين وبيئتهم. المسلخ البلدي يعود إحداثه إلى فترة الاستعمار، ولقد سمّيت كافة المنطقة المحيطة باسمه الإفرنجي "البطوار". وقد اختير موقعه في شمال القرية أي عند التقاء السبل التي تصل أريانة بجعفر وسكرة والتي تميّز بعض أهلها بالعناية بتربية الماشية. وبالطبع كان المسلخ إلى حدود الاستقلال وبالنظر للعدد المحتشم آنذاك للسكّان حوالي سبعة آلاف نسمة عام 1957، كافيا لمجابهة الطلب، ولكن سرعان ما تغيّر الوضع بفعل "الانفلات" السكاني الذي شهدته أريانة بصفة تكاد تكون فريدة في بلدان البحر المتوسّط نموّ بنسبة قاربت العشرة بالمائة. فضاق المسلخ خاصّة بعد أن التصق به سوق الجملة ومأوى الحجوزات وبالخصوص المستودع البلدي وأصبح الفضاء الذي يتحرّك فيه الجزّارة منعدم المواصفات البيئية اعتبارا لكثافة الماشية المقبلة على الذبح والسلخ. تجاه هاته الوضعية ومثيلاتها في إقليم تونس، فكّرت الجهات المختصّة في دعوة البلديات المنضوية تحت لواء الإقليم لتطلب من أعوان مسالخها الالتحاق بالمسلخ الكبير بجهة الوردية والذي كان يعتبر من أحدث المسالخ وأكبرها في إفريقيا، فاستجاب المجلس الذي كان يترأسه سلفي الدكتور المنصف درغوث وتمّ بموجب قرار بلدي إنهاء العمل بالبطوار. ولمّا آلت إلينا المسؤولية سعى الجزّارون المحليّون إلى حملنا على التراجع عن ذلكم القرار بدعوى التعوّد على الفضاء المحلي، وبالطبع لم نحد عن مقرّرات المجلس المتخلي خاصّة أنّ البلدية أضحت تتحصل على موارد ذات بال بفعل الحوكمة التي كان يسيّرها مسلخ تونس، ومن حسن الصدف أنّ المسؤول الأوّل عنه هو المنعّم الشاذلي الفرياني وهو من أعضاء المجلس البلدي الأوائل (من سنة 1957 إلى سنة 1963). بفضل إزالة المسلخ أمكن لنا التفكير في استغلال كلّ الفضاء المتميّز المستطيل في زاوية شارع الطيب المهيري وشارع الاستقلال، وأكثر من ذلك شرعنا في التفاوض مع مالك الأرض التي توجد في عمق المستودع والتي تمسح قرابة الهكتار، ولقد كلفنا مكتب للدراسات لتصوّر مشروع ذي بال في كامل الفضاء بما فيه مقر الحماية المدنيّة الذي أعرناه إياه بصفة وقتيّة. قضت الدراسة على إعداد فضاء رحب لتجمّع الناس Forum قبالة القصر الجديد للبلدية باعتبار أنّ قصر بن عيّاد إنما اقتصرت النيّة على المكوث فيه لفترة انتقالية نظرا لعدم ملاءمته للتوظيف الإداري. ولقد قدمت بنفسي صحبة المهندس المعماري محمد صالح شقير إلى الرئيس بورقيبة المجسّم عندما شاركت لآخر مرّة عام 1984 بالمنستير في احتفالات عيد الميلاد. وما إن غادرنا قصر بن عياد في شهر ماي من سنة 1985 حتى تجاوب المجلس الذي خلفنا للطلب المعروض منذ سنة 1980 في إعادة فتح المسلخ و... فعادت الدماء ... إلى مجاريها ... وفاضت فوق سكة المترو، وهو ما وثقته عدسة التلفزة الوطنية وعرضته على المشاهدين في إحدى برامجها ، وحسنا فعلت إذ أنّ الأمر لم يطل وانتهى العمل داخل المسلخ عندما أنشئ مسلخ برج الغولة.