من ينظر بعمق في أصل وأسس العبادات كلها يجد أن هناك حقيقة مهمة وهي أن كل عبادة شرعها الله لها أسرار، وهذه الأسرار والمعاني يربي بها الله عز وجل عباده ويطوعهم ويدعوهم الى مسالك خير وطاعة وتمرس على ما يحبه لهم ويجعل سعادتهم تبدأ بمدى التزامهم بهذه المبادىء وشقاوتهم تبدأ عند تمردهم على هذه العبادات. وعبادة الله تبدأ بقضية اساسية وهي النية، فأول حديث في صحيح البخاري: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل أمريء ما نوى" ثم صدق التوجه وعمق الإيمان وحسن السلوك والتسليم لله عز وجل ظاهرا وباطنا. ومن هنا فإن كل عبادة مفروضة أو مندوبة لها ما وراءها من أسرار وقيم تربوية ونفسية وتشريعية فردية كانت أو اجتماعية وهي ممتدة على مدى الأزمان والأماكن. وإذا ما تناولنا أسرار الصوم في حديثنا هذا سنجد أن الصوم من أوضح هذه العبادات إثرا في تربية الفرد والمجتمع وتقويم وإصلاح النفس البشرية والضمير والوجدان العام والخاص. فإذا كانت العقيدة وهى فرض الفرائض ورأس الإيمان تدفعك إلى المحراب عابدا لتقيم شعائر الله التي تربى الوحدة في الوجهة والترابط في الجماعة والأخوة في الصف.. والتوازى في الحركة والسكون والطاعة والإلتزام بالأمر متابعة للإمام، والتزاما بحركة الصف حتى تتحقق طهارة الباطن بعد أن دخلت إلى الصلاة بالوضوء الذي هو طهارة الظاهر فإن الصوم إذا تأملنا أسراره سنجده:فريضة دينية، وحكمة طبية، ورياضة نفسية، وتربية روحية.. وسنجد شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ليعيد صياغة الإنسانية روحاً وضميرا ونفسا وبدنا فيردها إلى فطرتها السوية ويغسل عنها أدران القرون، وشوائب السلوك وانحراف الإعتقاد وفرقة الأطماع وتعالى الأجناس والأعراق وجموح النوازع وتدني الغرائز يصوغها هذا القرآن من جديد بتشريعة القويم وعدله الخالص من الأهواء، وآدابه التي تهدى إلى سعادة البشر أينما كانوا وكيفما كانوا. إذا كان رمضان شهر القرآن هذا الذي صاغ بإعجاز من العالة ملوكا ومن الجاهلين حكماء وعلماء ومن الضعاف رجالا أقوياء وقوادا أذكياء وحملة لكلمة السماء إلى كل الأرجاء فإن رمضان بما ياتينا به كل عام من فريضة الصوم العظيمة، إنما يجدد سنويا ضمير الفرد ووجدان الجماعة ويعيد شحنها بطاقات ظاهرة وباطنة مادية ومعنوية، ويغذيها عن طريق الصيام الذي هو لون من الحرمان بما يكفيها لعام كامل كوقود دافع يعينها على سعيها نحو الكمال ويجعلها قادرة من جديد على إثراء الحياة وحمل الأمانة وتبليغ الرسالة الإلهية إلى الكافة دعوة وسلوكا، ويحفزها إلى مراقى الحضارة والوعى بقدرها وحقها وواجباتها بوصفها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وما أروع ما كتب شوقي الشاعر عن هذه الفريضة العظيمة حيث يقول عن الصوم: حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخضوع لله وخشوع