ربما من المرات القليلة التي يحصل فيها الانطباع لدى الكثير من أفراد الشعب من الذين استمعوا إلى الخطاب الذي توجه به السيد يوسف الشاهد رئيس الحكومة الى الرأي العام بعد تعليق العمل بوثيقة قرطاج الثانية بسبب عدم الاتفاق حول نقطة خلافية تمحورت حول تغيير الحكومة وإقالة الشاهد من عدمه حيث جاء خروج رئيس الحكومة إلى الشعب هذه المرة موفقا ومدروسا إعلاميا بكل دقة وتوجه بكلمة محبوكة جدا فيها تسلسل منطقي في الأفكار واتسمت بالهدوء في الالقاء مع الحفاظ على التوازن في المضمون و الحيز الزمني لكل محور من المحاور التي تناولها ولكنه على خلاف المرات الأخرى التي استعنا فيها إلى كلمة من مسؤول أول في الدولة جاء هذا الخطاب على هدوئه واتزانه قويا في افكاره ومركزا بكل دقة على أسباب الأزمة السياسية التي تخنق البلاد وموجها بكل وضوح في تحميل المسؤولية مباشرة إلى من كان وراءها . لم ينتظر الشاهد طويلا حتى يخرج عن صمته ليفصح عن رأيه وعما بداخله من مواقف بخصوص الأزمة السياسية التي ولدتها وثيقة قرطاج الثانية التي أريد لها أن تحل أزمة البلاد الاقتصادية و ترسم خارطة طريق جديدة للمرحلة المقبلة لتحسين الاوضاع الاجتماعية التي لم تتحسن كثيرا فإذا بها تتحول إلى سبب في أزمة سياسية لم تكن هي المعنية في المقام الأول باجتماع الفاعلين السياسيين حول صياغة وثيقة قرطاج الثانية ليصبح كل الاهتمام ليس المشكل الاقتصادي والاجتماعي وإنما المشكل السياسي المتعلق بضرورة حل الحكومة وإقالة الشاهد. في هذا الخطاب قال الشاهد الكلام الذي يجب أن يقال وخاصة عدم إخفائه أن البلاد تمر بأزمة سياسية عاصفة وأن الأداء الحكومي لم يكن مثاليا من دون أخطاء قد حصلت وأنه كان من الممكن تقديم أداء أفضل وأنه بعد تقييم لعمل الحكومة فإنه سوف يقرر تعديلات ضرورية من أجل إعطاء مزيد من النجاعة والفعالية ولكن رغم عدم الرضا التام على الأداء الحكومي فان مؤشرات مهمة قد تحققت تفيد أن الماسك بزمام السلطة يسير في الطريق الصحيحة وبأن عملا كبيرا قد بذل وأن نتائج مهمة قد تحققت أثرت إيجابا على الانتعاش الاقتصادي من تداعياته ارتفاع نسق الاستثمار والتصدير وتحسن مؤشرات السياحة بشكل نوعي وتحقيق نسبة نمو في حدود 2.5 خلال الثلاثية الأولى من هذه السنة في انتظار أن تبلغ النسبة حدود 3% وهو ما سوف ينعكس على التخفيض في نسبة البطالة. ولكن رغم هذه البوادر الهامة لعودة النمو إلى سالف عهده وعودة الاقتصاد إلى توازنه فإن الشاهد لم يخف في كلمته المشكل الرئيسي الذي يتعب الدولة و هو المالية العمومية التي تعرف صعوبات كبيرة من مؤشراتها سعر صرف الدينار ومسألة التضخم والمديونية وغلاء الأسعار . كان الشاهد في هذه الكلمة وفيا لخطه الاستراتيجي في عمل حكومته وهو أنه لكي تتحسن الأوضاع بالبلاد لا بد من القيام بثلاثة إصلاحات كبرى ضرورية قبل موفى سنة 2018 تخص الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية والتحكم في كتلة الأجور وهذه الاصلاحات تحتاج بدورها إلى مقومات ثلاث الأول الاستقرار السياسي حول هذه المسألة يشدد الشاهد على أن تغيير الحكومة أو إقالة رئيسها لن يحل المشكل بل أنه ليس هو الخيار الذي تحتاجه المصلحة الوطنية في هذا الظرف والثاني التوازن السياسي وهنا يؤكد على مسألة التوافق الضروري بين مختلف العائلات السياسية حول الاصلاحات الكبرى التي يتوقف عليها مواصلة المؤسسات المالية العالمية والجهات الخارجية دعمها لتونس ماليا ومساعدتها على الخروج على الأسواق العالمية للاقتراض وهو الأمر الذي سوف تلجا إليه الحكومة قريبا . والثالث موضوع الإصلاحات الكبرى الذي اتضح اليوم أنها تحتاج نقاشا معمقا وهو الأمر الذي سوف يقوم به في الأيام القادمة من خلال دعوة كل الأطراف الاجتماعية لوضع اللمسات الأخيرة لمجلس الحوار الاجتماعي بوضع كل القضايا الحارقة والمصيرية على طاولة النقاش للتوصل إلى حلول جماعية يمكن من خلالها أن نتجاوز الوضع السيئ المتراكم منذ سنوات . الجديد في حديث الشاهد إلى الشعب التونسي بالإضافة الى مصارحته الواضحة حول دقة الوضع الاقتصادي وحرج المالية العمومية هو حديثه عن الصعوبات التي تعرض لها في محاربة الفساد والضغوطات التي مورست عليه حتى تتوقف حربه على الفاسدين وهي كلها عراقيل عطلت العمل الحكومي وأضعفت أداءه وأربكت كل المسار الاصلاحي وفي هذا السياق فقد حمل حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لحركة نداء تونس كامل المسؤولية في هذه الأزمة السياسية التي تعرفها البلاد من خلال نقل الأزمة الحالكة التي يعرفها الحزب إلى مؤسسات الدولة والتأثير فيها لقد حمله هو والمجموعة التي تعمل معه مسؤولية تدمير حركة النداء وإضعافه وتسببه في خروج الكثير من الشرفاء منه وتكبده هزائم متتالية بداء بتراجع الكتلة في البرلمان مرورا بخسارة انتخابات ألمانيا وانتهاء بخسارة الانتخابات البلدية وتراجع اشعاعه ما يمكن قوله بعد الاستماع إلى خطاب يوسف الشاهد هو أن خروجه إلى الرأي العام كان مدروسا على مستوى الشكل والمضمون حاول من خلاله كسب تعاطف الناس وتأييدهم له خاصة فيما يتعلق بمسألة إقالته في هذا الظرف الذي حققت فيه حكومته نتائج مشجعة في إشارة إلى أن مسألة الإقالة وراءها أغراض شخصية وحسابات خاصة يقف وراءها حافظ قائد السبسي المتسبب الرئيسي في الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد ولم يكن طلب إقالته مبني على تقييم موضوعي للأداء الحكومي. ما يمكن قوله هو أن خطاب الشاهد كان خطابا ذكيا حاول من خلاله كسب معركة التأييد الشعبي فما كان ينقص الشاهد في مواجهة التيار الداعم لتنحيته ورحيل حكومته هو السند الحزبي الذي يفتقده لذلك أراد تكوين حزام سياسي آخر يكون أكثر قوة ودعما من خلال دعوته كامل الساحة السياسة ومكونات المجتمع المدني وعموم الشعب التونسي إلى تحمل المسؤولية والوقوف معه والالتفاف حوله مشروعه حتى تواصل الحكومة مهامها وحتى يواصل هو أهدافه إلى موفى سنة 2019 ودعوة الجميع إلى الاتحاد حول هذا المشروع الذي يدافع عنه من أجل تونس أفضل ، تونس جديدة تقوم على تلازم الديمقراطية مع الحرية . فهل ينجح الشاهد في تكوين حزام قوي حوله ويضمن إسناد خارج نطاق الأحزاب السياسية يحصنه من تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض القوي داخل حركة نداء تونس الراغبة في الإطاحة به ؟ وهل يقف الشعب التونسي هذه المرة مع رئيس الحكومة ويعدل كفة بقاء الشاهد على رأس الحكومة على كفة رحيله ؟ أم أن ما قام به الشاهد هو أخر محاولة له قبل الإقالة ؟