تفيض الكلمات أحيانا لتنطلق من شغاف أو من حنجرة أو من الأحشاء كلها... أنت لا تعلم لم ولا كيف. كلّ ما تعلمه أنكّ لن تشف قبل كتابتها ونحتها. ولن يرتاح بال. ولا يحلّ بجفنيك غير الأرق. تسترق غفوة فلا تأتي. وتلجأ إلى حبة مخدرة فتخاصم الكلمات تلك الحبّة لتتقيأها وتعود إلى أرقك... وتحاول أن تمشي ليلا وتفتح أزرار القنوات التلفزية منتقلا بين هذه وتلك فلا يهدأ لك خاطر، ولا يستقرّ بك المسير إلى أحضان بعض الراحة.. لأنّ الكلمات شعرا أو نثرا أو حتى مجرّد رسالة بسيطة تريد تبليغها إلى صاحب الشأن، أقوى شأنا وأجلّ خطرا وأجدى بالإفراز من أيّ خنجر أو أيّ غصن زيتون تحمله... ولأنّ الأمر كذلك، فإنّ المعاناة التي يتكبّدها الكاتب هي معاناة حقيقية... حتى وإن تدفقت الكلمات أحيانا بيسر.. كجلمود الصخر يحطّ من علياء الجبال. أو ماء زلال ينحدر من أعالي التلال. هذه المعاناة هي التي تشفي علل الكاتب الخفية. ويحلّ أمر نشر هذه الكتابة أو لا يحلّ. وهي معاناة أخرى لكنّها من فصيل آخر. لا دخل لها بمعاناة الكتابة والالتزام المفروض على يدك التي تخطّ الكلمات. ويحلّ كذلك أمر قراءة النص المكتوب أو عدم قراءته أمام جمهور مدعو للاستماع والتعليق أو من دونه... ويحلّ أمر استقدامك شخصيا أو بين زمرة من الكتاب حتى تتمّ تهنئتك وشكرك ومدحك وأمر استحقاقك من دونه لجائزة ما.... لكني شخصيا في مسيرة كتاباتي المتعددة، لم أول كل هذا شأنا ولا الإدارة المعنية بهذه الاستحقاقات بحثت كثيرا عن تكريم من يستحق التكريم... فالجوائز عادة ما توزع لغير مستحقيها. تمنح لمن تجنّد أكثر لدعوة النقاد على موائده الجامعية أو الركحية أو مآدب الجلسات أو السفرات أو الدعوات من خارج البلاد، إلى غير ذلك... وليس لمن تكبّد أكثر معاناة نص جميل. أو إبداع يليق. كلّ هذا أصبح معروفا. وحتى التسويق أضحى تجارة. الدافع أكثر هو من يتسمّر أكثر بالمصدح ويعتلي كرسي المنابر التلفزية في زمن الرداءة وكريه الرائحة ينبعث من هذه الشاشة... وقد ذكر لي كاتب جزائري مرموق أنّه مكبّل بديون نشره كتبه على نفقته فاندهشت أولا ثم عدت إلى صوابي ومنطق يكره المنطق وقوانين تفسد القوانين ولا تحترمها. فهمت معاناته وسرّها. والذي زاد الطين بلة هو أمر آخر أكثر تقيّحا وتعفنا تتناطر منه الشظايا والحطامات الفاسدة في المشهد.. هو عندما يعتلي منصة الشعر من لا يميّز فاعلا من مفعول به... وأنا أعلم ذلك جيّدا.. عشته شخصيا... لذلك أنطق به وأكتبه.. وليعذرني من توجه إليه سهامي، فإن كان قرأ مقدمة هذا النص فقد يكون فهم أنني إنسان عاجز تماما عن عدم الكتابة وأن هذه الأسطر أفرزت من قريحة لم استطع كبح جماحها ولا استطعت الصمت البليغ أحيانا... أعلم كل ذلك... وحين قرأت نصّ الشاعرة أماني الزعيبي أيقنت كذلك أنّه بغير الإمكان الإضافة لما نشرت ونشر ما نشرت حرفيا: هام وخطير: من قضايا الفساد الشعري منذ مدة لابأس بها وأنا أتابع الأمر بشغف شديد، ليس فضولا فحسب وإنما لأني من الغيورين جدا على الشعر وأعتقد أن هذا من حقي . والشك طريق لليقين بالتعبير الديكارتي. أتجنب الحديث عن أمور كهذه ولا تستهويني تفاصيلها لأنها تثير اشمئزازي. على كل هناك شاعرة أحتفظ باسمها للتاريخ ولشخصي، أعرفها جيدا وأعرف كتاباتها وأعرف قدرتها على الفهم والكتابة وبتواضع شديد أعرف مليا أن إمكاناتها لا تتجاوز كتابة بعض الجمل البسيطة. تابعت ما فعلته هذه المدة بدقة شديدة وقرأت ديوانها وتابعت مشاركتها الباهرة في محافل شعرية عربيا ووطنيا وتعرّفها علىالعديد من أقطاب الشعر في العالم العربي. كل هذا تحقّق في مدة وجيزة جدا، حيث أنها لم تكن معروفة في مجال الكتابة ولم تصعد السلم درجة درجة بل اعتمدت على طرق خفية ومشبوهة لتحقيق كل هذا في وقت وجيز جدا. لاحظت الهوة العميقة بين تصوّرها للشعر ونصوصها ولو قرأت لها تدوينة على الفايس بوك، ستفهم الفرق لوحدك. فنصوصها قريبة جدا في الأسلوب وفي التشكيل وفي المواضيع وفي وقت التنزيل على الفايس بوك من أسلوب وطريقة شاعر آخر.. يا إلهي ما هذه الصدف الكبيرة وما هذا التأثر الباهر.. ربما هناك "جبريل" شعري نحن لا نعرفه ينقل لها هذه القصائد. المهمّ هي الآن بصدد إعداد ديوان آخر، وقد أصبحت هذه المرأة تحضر في المحافل الشعرية الكبرى وتكرم ويكتب عنها دراسات في هذه المدة الوجيزة بقدرة "جبريلها" الشعري طبعا..! المهم إن حبل الكذب قصير، وسيفضحها جهلها يوما ما، فلا يمكن أن نكون شعراء بالقوة دون تعب بالسطوة والغلبة. وكما قال المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخ الجهالة في الشقاوة ينعم. وينتهي نص الشاعرة أماني... وتحلّ أسفله كلّ التعليقات المؤيّدة لما كتبت... ويحلّ تعليق صامت مرتجف خائف مشلول فلا يكتب فيه حرف واحد.. لكنّ أغلب الناس قرأوه جيّدا... لا أعلم كيف... ولا أعلم كيف علّق من أعارها نصوصه وكلماته.. وقريحته وموهبته وجبريله... كيف به لا يعلّق طويلا طويلا..؟ فيعجب بالنص المنحوت بيد أماني لكن ما من كلمة تضاف.. حتى لا تحلّ حكة المناكب بالجرب أو الجرباء... وتلك قضية أخرى. أمر آخر لا بدّ من إضافته... هذا الذي يتعمّد نشر قصائد أو كتابات لغيره، هل فكّر في أن حبل الكذب قصير كما قالت أماني وأنّه بمجرّد أن نسأله عن خياله الشعري أو صوره الشعرية أو البحور أو القوافي أو العلل أو غير ذلك سوف يتعطّل لسانه... فهلا كان من الأفضل أن يقي نفسه شرّ البلايا! لكن السؤال الأهمّ هو الدرس الذي نرسله لأبنائنا حين نزوّر كتاباتنا... فهل نلومهم إن هم زوّروا أو دلّسوا أوراق امتحان ما؟ هل نعتب عليهم إن هم نقلوا لنا نصوصا من الشيخ غوغل؟ أو من ويكيبيديا؟ أتساءل أخيرا ما الأقسى في أمر المعاناة.. هل هي معاناة من يُكتشف تزويره أم معاناة من يُختلس منه نصّه. أو من هو قدّم نصّه لغيره بمقابل؟