وبعد جهد وكفاع مرير وصبر واستشهاد تخلصت تونس من الاستعمار البغيض وتولت شؤونها واسترجعت سيادتها من الحكام المستوردين من المشرق والمغرب ومن العثمانيين واخيرا الفرنسيين وختارت لنفسها نظاما جمهوريا رأته مناسبا مثلما هو مجرب في اغلب البلدان والذي يعطي للشعوب الحق في اختيار حكامه ويحاسبهم عن افعالهم وأعمالهم بواسطة جمعية وطنية تنتخب دوريا وتتجدد من حين الى حين عبر الصندوق الذي نتائجه تبقى محترمة مِن الجميع، وتلك وهي الطريقة المثلى المعتمدة في الأنظمة الديمقراطية منذ عقود وعهود وقد اعطت نتائج احسن مما كان سائدا، واعتبرها رئيس حكومة بريطانيا العظمى ونستن تشرشيل اقل الأنظمة سوءا وجربته المملكة المتحدة وما زال قائما الى اليوم. لذلك اختارت تونس ذلك النظام الديمقراطي بعدما إعتمدت في الاول النظام الرئاسي حتى الثورة التي فضلت عليه النظام البرلماني لمدة قصيرة اثناء كتابة الدستور وابدلته الى نظام برلماني معدل ودونته في الدستور وبتنا من وقتها نعيش فيه بتناقضاته ونفكر في التعديل. ومن خصائصه المهمة انتخاب رئيس الجمهورية مثلما نواب المجلس التشريعي مباشرة من الشعب ومنحه بعض السلطات التي تم افتكتها من رئيس الحكومة ومجلس نواب الشعب وذلك اقتداء بالنظام الفرنسي الذي عدله الجنرال ديقول لما باتت الحكومات فيها تتساقط بعد اشهر وحتى بعد أسابيع وكان ذلك في زمن الجمهورية الرابعة وفِي زمن تخلي فرنسا عن مستعمراتها كرها بعد خسارتها المدوية في حربها في معركة ديان بيان فو بالفياتنام ومنحها الاستقلال التام للمغرب وتونس واشتعال المقاومة في الجزائر واسقلاها التام وقبل تخليها طوعا عن بقية مستعمراتها بمجرد استفتاء دبرته وكان معلوم النتائيج مسبقا الا في غينيا التي رفضته في نطاق الوحدة الفرنسية وتعرضت الى عقوبات من فرنسا تحملتها لسنين وهي الان تنعم بالحرية والازدهار بفضل صبرها وتفانيها وحسن اختيار حكامها اخيرا ومحاسبتهم ديمقراطيىا مثلما تفعلة البلدان العريقة وهو دليل على حسن اختيارها للطريق السوي. أتصور ان هذه المقدمة وان طالت بعض الشيء كانت لازمة قبل ان اعود الى تونس اليوم والتي لم تجد طريقها الصحيح بالرغم من التجارب السابقة التي اعتمدتها بعد الاستقلال، وفِي هذه المناسبة ساقتصر على نظام الحكم الاخير فيما بعد الثورة وكان نتيجة لانتخابات 2014 وبانت مساويه في مرحلة وزارة الحبيب الصيد ويوسف الشاهد الذي جاء مباشرة بعده وبقي وضعه معلقا الان بين الاستقالة والأقالة بسحب الثقة منه والله اعلم بالمصير الذي ينظره. اولا: حكومة الحبيب الصيد جيء به من خارج منظومة الأحزاب ولم يكن مترشحا او فائزا في انتخابات مجلس نواب الشعب ولم يكن من الرغبين في التوزر والحكم كما يظهر. انه كان في بداية مشواره اطارا ساميا ومهندسا فلاحيا تولى مسؤوليات جهوية ووطنية ومثل تونس في منظمة مجلس زيت الزيتون بمدريد وعاد الى تونس بعدما انتهت مدته وكلف بمهمة في الوزارة الاولى ليقوم ببعض الدراسات زمن محمد الغنوشي وذلك انتظارا بلوغه سن التقاعد، واتت الثورة وقلبت كل الموازين فتم تكليفه بوزارة الداخلية في فترة حرجة فأنهاها بما أمكن له من خبرة ودراية معتمدا على معرفته لتلك الوزارة التي سبق له ان تحمل فيها مسؤوليات سامية ونحج في المهمة الى درجة ان الحكومة المنبثقة عن المجلس التاسيسي التي ترأسها حمادي الجبالي عن حركة النهضة الفائزة بالمرتبة الاولى في الانخابات والتي تحالفت مع حزبي المؤتمر والتكتل لتكوين اغلبية مريحة فكرت في استبقائه بالداخلية زيرا لها لكنها لم يجد ترحيبا من حليفيها فاكتفى رئسها بابقائيه مستشارا أمنيا لديه لمدة قصيرة ولم نعد نسمع به. لم تستمر حكومة حمادي الجبالي طويلا واستقالت إثر إغتيال المرحوم شكري بالعيد وحدوث فوضى وجاء بعده لرئاسة الحكومة علي العريض الذي كان مثل سابقه من حركة النهضة وتكررت اعمال العنف في زمانه واغتيل المرحوم محمد البراهمي وتكتلت المعارضة بأحزابها القديم والجديد وعطلت اعمال المجلس واجبرت الحكومة على الاستقالة بعد المصادقة على الدستور الجديد وتم الاتفاق على تكوين حكومة تقنوراط غير متحزبة لتقوم بتسيير الاعمال وتنظيم انتخابات تشريعية فاز فيها النداء بالمركز الاول الذي يعطيه الدستور الحق في تشكيل الحكومة وعرضها للتصويت، فقام ذلك الحزب بتحسين اغلبيته بتحالف محتشم مع حركة النهضة الفائزة بالمرتبة الثانية وبعض الأحزاب الاخرى وظهر وقتها إسم الحبيب الصيد من جديد ليكلف بتشكيل اول حكومة تعرض على مجلس النواب لمنحها ثقته بناء على برنامج تقدمت به وفازت باغلبية مريحة وتجددت تلك الثقة في الأثناء بمناسبة التصويت على عدة قوانين. كان ذلك اول استثناء للقاعدة يقع في تونس الثورة وهو الحكم بطريقة المناولة ولم تتعود عليه أنظمة الحكم البرلماني المعتمدة على الأحزاب والتي تسعى للفوز بالحكم نتيجة لما تفرزه الصناديق، وجرت العادة ان يتولى زعيم الحزب الفائز رئاسة الحكومة لينفذ وهو من يختار فريقه لتنفيذ البرنامج الذي انتخب على اساسه وفاز به واقنع ناخبيه، وبالمقابل سيحاسبه المجلس عليه بتجديد الثقة فيه او بحجبها عنه اذا حاد او فشل فيما وعد به. لكننا في تونس خالفنا كل التقاليد وأتينا بقاعدة جديدة في الحكم بالمناولة كما سبق وقلت وذلك للإفلات من الحساب وضياع الحقيقة ولعلها ستعمم هذه النظرية دوليا لاننا اعتمدناها للمرة الثانية مع يوسف الشاهد بعد سقوط حكومة الصيد الذي راودناه على الاستقالة ولكنه عاند وذهب لمجلس نواب الشعب وهو للنتيجة عالما وسحبت منه الثقة بسعي من الأحزاب التي أتت به. واتت بحكومة يوسف الشاهد وبنفس الطريقة وكان مسنودا من حزبه النداء لمدة قبل ان ينقلب عليه.
ثانيا حكومة يوسف الشاهد: تم اقتراح يوسف الشاهد من طرف رئيس الجمهورية اثر حوار سُمي بوثيقة قرطاج التي اعتمدت لتقييم اعمال حكومة الصيد وكانت سببا في اقالة بالرغم من انها كانت لتكوين حزام يستند في كانوا يقولون، وتجددت تلك المبادرة مرة ثانية بنية تدارس الوضع المالي والاقتصادي الذي تدهور اكثر في زمن الحكومة الثانية هذه وأختلفت المشاركون فيها في النقطة الاخيرة هي مصير حكومة الشاهد الذي لم يكن حاضرا واشتد خلافهم وتزعم النداء واتحاد الشغل مجموعة المصرين على إبدالها بحكومة اخرى تقوم بتنفيذ الاجراءات الموجعة التي اتفقوا على تطبيقها في المرحلة النهائية من مرحلة حكمهم وقبل انتخابات 2019 التي لم تعد بعيدة وأسلحت حالة المالية واقتصاد البلد وخافهم الرأي حزب حركة النهضة الذي يرى الإبقاء على الشاهد وإجراء تحوير معمق في الوزراء وبقيت القضية معلقة بعدما قرر رئيس الجمهورية تعليب تلك المبادرة الثانية أيضا. ولهذه الأسباب ولغيرهااشتد الخلاف وظهر للعلن بين يوسف الشاهد والمدير التنفيذي للنداء وبات بالتلاسن وانتصبت بعض الموائد التلفزية والمواقع الاجتماعية في شحذ السيوف وأخذت الحكومة في أخذ القرارات المستعجلة بإقالة من تراهم سببا في الخلاف ومنهم وزير الداخلية بعد غرق لمركب يقل عددا من الخارقين مات منهم اكثر من ثمانين شابا وشابة وأحدث ذلك أزمة مستفحلة عطلت المسيرة وشنجت الرأي العام وهو من اصله متشنجا بسبب البطالة وغلاء الأسعار وتدهور الدينار وتباطؤ النمو وثقل الجباية وسوء تؤزيعها والتهرب منها واستمرار التجارة الموازية وكثرة التداين بفوائض مرتفعة ونزول الترقيم لتونس واتهامها بتبييض الأموال وكل ذلك اثر في سير الحكومة التي لم تقدر على مجابهتها. ونحن في انتظار انتهاء شهر رمضان وعلى أبواب العيد ننتظر المآل وما ستستقر عليه الأحوال ولا أحد يعرف تونس الى اين سائرة.