شنوة صاير في برج شاكير؟ نفايات طبية خطيرة وبحر من المشاكل!    قرارات عاجلة لمجابهة انقطاعات مياه الشرب بهذه الولاية..    ديوان التونسيين بالخارج ينظم الخميس 7 اوت الندوة الاقليمية الثالثة لاصيلي ولايات ولايات القصرين و سليانة القيروان و سوسة والمنستير و المهدية    تصوير الصغار في المهرجانات؟ راهو القانون ما يسمحش ... تبع التفاصيل    عبد السلام ضيف الله: أحمد الجوادي بطل ما لقاش بش يخلّص نزل اقامته بسغافورة    فيديو -حسام بن عزوز :''الموسم السياحي يسير في الطريق الصحيح و هناك ارتفاع إيجابي في الأرقام ''    تأجيل محاكمة طفل يدرس بالمعهد النموذجي بعد استقطابه من تنظيم إرهابي عبر مواقع التواصل    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    عاجل: الكاف يرفع جوائز الشان ل10 ملايين دولار وفما فرصة للتوانسة!    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    خزندار: القبض على عنصر إجرامي خطير متورط في عمليات سطو وسرقة    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    عاجل: مناظرة جديدة لانتداب جنود متطوعين بجيش البحر... التفاصيل والتواريخ!    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عاجل: تسقيف أسعار البطاطا والسمك يدخل حيّز التنفيذ    الصولد الصيفي يبدا نهار 7: فرصة للشراء ومشاكل في التطبيق!    تونس تحرز المرتبة الثالثة في النسخة الأولى من الألعاب الإفريقية المدرسية بالجزائر ب141 ميدالية    شبهة تلاعب بالتوجيه الجامعي: النيابة العمومية تتعهد بالملف والفرقة المركزية للعوينة تتولى التحقيق    وزير السياحة يعاين جهود دعم النظافة بجزيرة جربة ويتفقد موقعا مبرمجا لاقامة مدينة سياحية ببن قردان    نشطاء إسرائيليون يعرقلون دخول المساعدات إلى غزة    ترامب: الغواصتان النوويتان اللتان أمرت بنشرهما تتموضعان في "المكان المناسب"    بشرى سارة: درجات الحرارة أقل من المعدلات العادية خلال العشرية الأولى من شهر أوت..#خبر_عاجل    عاجل/من بينهم امرأة حامل : غرق 4 أشخاص بشواطئ بنزرت خلال 24 ساعة..    عاجل/ مقتل فنانة خنقا في عملية سطو على منزلها…    مهرجان الحمامات الدولي 2025: "روبين بينيت" تغني للحب والأمل في عرض ينادي بإنسانية الإنسان    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    أول رد لحماس على طلب نتنياهو بشأن "غذاء" الرهائن..#خبر_عاجل    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    حكايات تونسية ...«الماء إلّي ماشي للسدرة.. الزيتونة أولى بيه»    القناوية... فوائد مذهلة في ثمرة بسيطة... اكتشفها    بنزرت الجنوبية.. حاول انقاذ إمرأة من الغرق فَتُوُفّيَ معها    إعفاء كاتب عام بلدية مكثر    مصب «الرحمة» المراقب بمنزل بوزلفة .. 130 عاملا يحتجون وهذه مطالبهم    وسط تحذيرات من ضربة مفاجئة جديدة.. إيران ترفض وقف تخصيب اليورانيوم    أيام قرطاج السينمائية تكرّم الراحل زياد الرّحباني في دورتها المقبلة    العهد مع جمهور الحمامات ...صابر الرباعي... يصنع الحدث    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    يحدث في منظومة الربيع الصهيو أمريكي    الجوادي بطل العالم في 800 و1500 متر سباحة ... ميلاد أسطورة جديدة    كأس أفريقيا للمحليين... حلم الجزائر في 2025    فيما «البقلاوة» تثور على التحكيم ...الترجي يحرز «السوبر»    واقعة قبلة الساحل تنتهي بودّ: اتصال هاتفي يُنهي الخلاف بين راغب علامة والنقابة    منظمة الصحة العالمية تدعو إلى إدماج الرضاعة الطبيعية ضمن الاستراتيجيات الصحية الوطنية وإلى حظر بدائل حليب الأم    لماذا يجب أن ننتبه لكمية السكر في طعامنا اليومي؟    هكذا سيكون الطقس هذه الليلة    سيدي بوزيد: تضرر المحاصيل الزراعية بسبب تساقط البرد    اعادة انتخاب عارف بلخيرية رئيسا جديدا للجامعة التونسية للرقبي للمدة النيابية 2025-2028    بطولة العالم للسباحة: الأمريكية ليديكي تفوز بذهبية 800 م حرة    عودة فنية مُفعمة بالحبّ والتصفيق: وليد التونسي يُلهب مسرح أوذنة الأثري بصوته وحنينه إلى جمهوره    تقية: صادرات قطاع الصناعات التقليدية خلال سنة 2024 تجاوزت 160 مليون دينار    وزارة السياحة تحدث لجنة لتشخيص واقع القطاع السياحي بجرجيس    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    نانسي عجرم تُشعل ركح قرطاج في سهرة أمام شبابيك مغلقة    الملك تشارلز يعرض مروحية الملكة إليزابيث للبيع    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحدّث فيه عن نماذج من نضالات الشباب التونسي في ستينيات وسبعينات القرن الماضي
نشر في السياسية يوم 23 - 04 - 2010

حديث ممتع أجراه الزميل ناجي الخشناوي في جريدة "الشعب" لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل
عمار منصور يتكلم: أدب السجون لا يكون إلا من أدب التحرّر والحرية
عمّار منصور ...من كان ينتظر أن يتكلم عمار منصور في يوم ما عن تجربته السجنية وتجربته الشعرية وموقفه من أدب السجون في تونس بشقيه، أدب المسؤولين السياسيين، وأدب الرفاق، رفاق حركة آفاق، رفاق سجن 9 افريل ...
كنت دائما أراه متوغلا في صمته وتأمله، ولم أكن أنتظر كغيري ربّما أن يتحدث إليّ في أكثر من جلسة واحدة لولا إصرار أحمد حاذق العرف . فكان هذا الحوار الذي بين أيديكم .
من مساوئ الذاكرة الجمعية أنها تتجاهل أو تتناسى من يساهمون في صنع التاريخ في صمت ... أنت كنت واحدا ممن ناضل في صمت ويبدو أنك تمرّ في صمت أيضا؟
نحن لا نتخاصم على "تركة" تاريخية. أنا لا أتحدث عادة عن السجن في علاقاتي الشخصية والمهنية ولذلك فالكثير من الناس يستغربون دخولي السجن. أعتقد أن التجربة أو المحنة التي مررت بها لم أخضها من باب الطموح الشخصي الضيق، وإنما من باب القناعات الفكرية والوجودية بالأساس وبدرجة أقل سياسية. لذلك أعتقد، ولا أدّعي، أن ما قمت به ليس (مزية) على هذه البلاد أو على أي شخص كان، وإنما أعتبرها محاولة بسيطة لإرضاء ضميري الحائر إلى درجة العذاب والذي لا يزال كذلك إلى الآن، معذب من عديد القضايا الوجودية سواء محلية أو قومية أو أممية وأعتقد أنها تشكل بؤرة التوتر في حياتي إلى اليوم، ولربما على هذا الأساس، فإن تجربتي السجنية، وكذلك الاشعار التي كتبتها وأنا داخل السجن لم يطّلع على بعض جوانبها بل لم يسمع بها كثير من الأصدقاء والزملاء إلا فيما شذّ وندر إلى درجة أن بعض الناس يستغربون تمام الاستغراب إذا ذكر بعضهم أن فلانا شاعر أو كان سجينا سابقا.
كأنني دفنت نفسي بنفسي أو كأني خرجت من سجن لأدخل إلى آخر. أمقت الافتعال والتصنّع وقد أكون مخطئا في هذا وقد يعود ذلك إلى حكم سلبي مطلق على تجربتي من ألفها إلى يائها ولكنه في الحقيقة يشكل احتراما فعليا لتلك التجربة.
ولكن كل المناضلين أو لنقل جلهم خاضوا تجاربهم أيضا انطلاقا من قناعاتهم، كما أنهم يحترمون تجاربهم فعليا دون تصنع أو تكلف؟
إذا كان الأمر كذلك مع كل السجناء السياسيين السابقين دون استثناء فهذا أمر مشرف لهم ومشرف للوطن.
طيب، لنعد إلى قابس وما قبل قابس؟
إنها عودة "إلى الوراء" زمانيا لأكثر من نصف قرن (1955) حينما كانت الحركة الوطنية في تونس والعالم العربي في أوج فعلها التحرري أذكر أنني (ولم أكن قد إلتحقت بعدُ بالمدرسة الابتدائية بقرية المنصورة) استمعت ذات صباح إلى ضوضاء رهيبة وعلمت فيما بعد أنها مظاهرة ضد الاستعمار الفرنسي فلم أشعر إلا وأنا أختطف من أميّ أداة حادة كانت تستخدمها في نسج الصوف وقفزت من سطح الدار وخرجت لألتحق بجموع المتظاهرين .
لقد نشأت في مناخ وطني متحرك خاصة وان أبي نفسه محمد بن منصور قد كان من أول مؤسسي شعبة الأعراض بالجنوب التونسي والتي كانت لها علاقة وثيقة بالمقاومين مثل بلقاسم البازمي والساسي الأسود والطاهر الأسود والحبيب شقرة.
أذكر أن والدي كان يعطيني سلة لأجلب له الفلفل من بستاننا لأعطيه للفلاڤة خلسة. عندما إلتحقت بالتعليم الابتدائي تشبعت بالأناشيد الوطنية التونسية والعربية، وهناك قصائد أحفظ منها الكثير الى الآن للشابي وحليم دموس وحافظ ابراهيم واحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ...
في مرحلة الثانوي بالمعهد المختلط بقابس (62 / 63) تعرفت على عدد كبير من التلاميذ من مختلف ولايات الجنوب أذكر منهم سجناء سياسيين فيما بعد مثل عمار الزمزمي ونور الدين بعبورة وبولبابة بوعبيد، أما محمد معالي فكان زميلي من فترة التعليم الابتدائي وتعرفت ايضا على التلميذ أحمد حاذق العرف الذي أضحكنا كثيرا على شخصية ( شلُكْة ) وهو قيّمٌ عام .
هذه الفترة كانت أخصب فترة من حيث المطالعة فقد كنا نتداول الكتب أكثر من تداول الجوعى للخبز . في ظرف ثلاث سنوات قرأنا مئات الكتب .
إلى أي الاتجاهات أخذتك الكتب؟
حملتني الأفكار إلى نثر نقاط الاستفهام وطرح الأسئلة وتوليد الأسئلة من الأسئلة. في تلك الفترة اطلعت تقريبا على المدونة الأدبية والنقدية العربية بالخصوص من الجاهلية حتى مجلة آداب لسهيل إدريس ثم دخلت عالم الأدب الفرنسي.
وأيضا حملتك إلى ظلمة السجون؟
يمكن أن يكون ذلك صحيحا بنسبة كبيرة، فجدتي رحمها الله سمعت أنني نشرت قصيدة في إحدى الجرائد اليومية فلم تفرح بل حزنت وتوقعت مصيرا غير سار لحفيدها عمّار، ولعل هذا ما جعل عمار يرثيها في قصيدة مطولة عندما أدركتها الموت وهو في السجن.
وكان قد بعث لها في إحدى رسائله سلاما لكنه لم يصل (بلّغتكُ السلام فلم يصل ).
في خضم عالم القراءات وفورة الحركات التحررية الوطنية في كافة أنحاء العالم وخاصة بعد هزيمة 67 اتصلنا بالفكر الماركسي عن طريق نصوص مبرمجة في كتب الفلسفة أولا ثم عن طريق مترجمات مشرقية لكلاسيكيات الماركسية، وفي تلك الفترة، وأنا بين البورقيبة والناصرية واليوسفية والماركسية انتقلت الى الجامعة التونسية والتحقت بكلية الآداب والعلوم الانسانية ( 9افريل) بعدما تحصلت على شهادة الباكالوريا في الفلسفة والآداب الأصلية .
في الكلية درست الآداب العربية، وفي شوارع العاصمة انفتحت الآفاق رحبة .
كنت أتصوّر قبل الالتحاق بالكلية أن صفة طالب تعني بالضرورة صفة ثائر، ومن البداية تعرفت على عدد كبير من الطلبة سرعان ما تجاوبنا معا لتشابه مراجعنا وقراءاتنا وخلفياتنا الفكرية وطموحاتنا .
في تلك الفترة تعرفت على "الشيخ" الهاشمي الطرودي وكان شابا ذكيا وحركيا ومن خلاله تعرفت على الرفيق محمد بن جنات الذي كان يتقد حماسا ويتمتع بنوع من الكاريزماتية والنجاعة العملية، ثم أصبحت أسكن معهما في نهج أحمد التليلي.
منذ سنتي الأولى كنت عضوا في اتحاد الطلبة وكنت أيضا في التنظيم السري (آنذاك) لحركة آفاق بعد ان حسمت أمري من اختلاط البورقيبة واليوسفية والناصرية والماركسية لصالح الأخيرة.
عشت وساهمت من بعيد في مؤتمر قربة وحركة فيفري 72 وحركة ماي 73 .
ليلة 18 نوفمبر 1973 دخلت السجن؟
قُبض عليّ. لم أدخل طوعا إلى السجن. أُدخلت إلى سجن 9 افريل في الزنزانة رقم 6 ومنها إلى الزنزانة عدد 17 (قد تكون الزنزانة عدد 5 فعذرا على الذاكرة المهترئة) قبلها بقينا تقريبا ثلاثة أشهر في مكاتب ودهاليز وزارة الداخلية التي كان على رأسها الطاهر بلخوجة آنذاك .
أثناء الاستنطاق تعرضت كغيري من الرفاق إلى تعذيب شديد اكتسى مظاهر متعددة لعل أشنعها التعليق على طريقة "الهيلكوبتر" وهي طريقة بلغنا إنها مستوردة من أمريكا اللاتينية حيث تُربط يدا السجين وساقاه بإحكام شديد ويتم تعليقه على عمود ثابت وتوضع على فمه "كمامة" فتصير قدماه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل ويتداول عليه جلاّدان بالهراوة وهي أنواع متعددة هي الأخرى (الهراوة المطاطية والهراوة الخشبية) ومن أبرز الجلادين الذين أحتفظ الآن بأسمائهم محسن ولد الصغيرة وثان ينادونه "سكابا" وثالث اسمه نور الدين ولا أذكر لقبه ولكن أذكر جيدا انتشاءه بالتعذيب بالغناء نكاية فينا.
من بين أشكال التعذيب أيضا ضرب العضو التناسلي للسجين بعصى مطاطية مما جعلني أتبوّل الدّم سبعة أيام متتالية وانتفخت رجلاي ويداي وتقيحت، وفقدت أظافري وطيلة فترة زمنية لم أعد قادرا على الذهاب الى دورة المياه الا بمساعدة شرطيين بالزي ممن كانوا يتولون حراستنا بعد الجلادين وكان بعض هؤلاء لا يخفى تعاطفه معنا خاصة وان منهم شباب تلمذي شارك في حركة فيفري 1972 واضطر للالتحاق بسلك الأمن لأسباب قاهرة .
ظللت أكثر من شهرين لم يلمس الماء جلدي حتى أن بعض الحشرات كالقمل والبق بدأت تعشش في فُرُشِنَا وأجسادنا ويوم نُقلنا الى "دوش" السجن المدني ب 9 أفريل لم تدم حصة التطهير تلك أكثر من خمسة دقائق بحيث أن الاوساخ تحيّرت ولكنها بقيت بأجسادنا ممّا ضاعف من وسخنا وآلامنا، وكأن "الدوش" كان نوعا من أنواع التعذيب بل هو كذلك.
أشعلوا النار في شعر عانتي، عشت على "الراڤو" لمدة شهر تقريبا ومع ذلك فقد كنا صامدين أمام القمع والتعذيب داخل دهاليز وزارة الداخلية بحيث كنا نؤلف الأناشيد الثورية ونلحنها وننشدها بكل قوة ليلا نهارا مما يثير الهلع في صفوف الحراس وموظفي الداخلية الكبار ومن الأناشيد التي ألفتها وأنا في الزنزانة وأَنْشَدَهَا الكثير من الرفاق السجناء وانتشرت داخل وزارة الداخلية .
كتبتُ (إلى اللقاء، إلى اللقاء يا أيها الرفاق / سوف النضال يجمع شملا بعد الفراق / سنلتقي سنلتقي في جبهة النضال / في حزبنا حزب الملايين من العمال...) وهي معارضة لنشيد كنا حفظناه في التعليم الابتدائي يقول مطلعه "الى اللقاء، الى اللقاء يا أيها الإخوان"...
إذن كنت تكتب داخل زنزانتك؟
قبل الدخول الى السجن كانت لي تجارب شعرية ومحاولات عديدة انطلقت من التعليم الابتدائي ولكنها في بداية التعليم الثانوي بدأت تتبلور في اتجاه رومنطيقي صوفي وقد نالت بعض قصائدي جائزة الجمهورية على مستوى الشبيبة المدرسية في مناسبتين متتاليتين أذكر منهما قصيد »ثورة مجنون« ونشرت عدة قصائد في الصحف (جريدة الصباح، مجلة فكر) ثم لما إلتحقت بالجامعة وتحديدا كلية الآداب والعلوم الانسانية 9 افريل في السنة الدراسية 69 / 70 تعرفت على العديد من الشعراء الطلبة مثل المرحوم الطاهر الهمامي والمنصف الوهايبي والطيب الرياحي وبدأنا نتصل بكثير من النقاد والشعراء المعروفين الذين بدأوا يؤسسون لما يسمى بالطليعة الأدبية مثل ابراهيم بن مراد ومحمد الصالح بين عمر والحبيب الزناد وسمير العيادي وأحمد مختار الهادي فضلا عن أحمد حاذق العرف وشاعر اخر نسيت اسمه كان يشتغل في الحرس الوطني!!! (عذرا تذكرت اسمه، خالد التومي ).
وقد تزامنت هذه الموجة "الطليعة" مع انهيار نظام أو سياسة التعاضد مع أحمد بن صالح فبقدر ما كنا مستائين من سياسة احمد بن صالح التجميعية المفرطة وغير المبنية على وعي الفلاحين، كنا نتعاطف معه وحرصنا على حضور محاكمته باعتبار انه لم يكن المسؤول الاول عن تلك السياسة الفاشلة، وفي خضم تلك الأحداث كتبت أنا والمنصف الوهايبي أول قصائد جماعية بمجلة »فكر« والملاحظ هنا أن هذه المجلة تفتحت في تلك الفترة بالذات على الطليعة ونشرت الكثير من النصوص الجريئة، كما كتبنا مجموعة قصائد جماعية ايضا سنة 1970.
أذكر مقطعا من قصيدة كتبتها دفاعا عن بن صالح باعتباره مظلوما أقول فيها : ( حياتكم أفيون / وفكركم عاطل / فحكمّوا المجنون / وحاكموا العاقل ....
وأذكر مقطعا آخر يعبّر عن تبرّم الناس من الوعود التي لم تتحقق الا من خلال أبواق الدعاية: (عُوّدتُ بالخضوع / عُوّدتُ بالقناعة / عُوّدتُ أن أرتقب الموعد ألف ساعة / وكنت حينما أجوع / أقتاتُ من برامج الاذاعة).
هذا قبل السجن، ولعل هذه الأشعار والأفكار هي التي أفضت بي الى السجن.
أنا سألتك عن الكتابة داخل الزنزانة؟
في البداية مُنعت عنا الاقلام والأوراق والكتب ورغم ذلك كتبت برماد السجائر على أوراق علب الدخان ومختلف أنواع الأوراق الاخرى ومن ذلك قصيدة وقد ضاعت عنوانها »قائمة الممنوعات« أقول فيها (ممنوع ممنوع... الحاكم يحكم والشعب قطيع... مكتوب بالحبر... مكتوب بالطين على كل جبين... يدق بناقوس الانذار... كلما التقى اثنان... وكلما تحركت شفتان) هذه القصيدة كان يقرؤها الرفيق نور الدين بن خضر رحمه الله وهو ملقى على بطنه في أوج الشتاء بصوت مرتفع وجهوري ليبلغها إلى باقي سجناء السجن المدني عبر الفجوة التحتية لباب الزنزانة (صوته إلى الآن يرن في أذني ).
كيف كانت تصلكم الكتب؟ وهل تذكر بعض العناوين التي قرأتها داخل زنزانتك؟
أثناء مرحلة كاملة في السجن المدني بدأنا نناضل نضالا مريرا من اجل المطالبة بالكتب والأقلام والأوراق، خضنا إضرابات جوع من أجل الحق في المراسلة والكتابة والقراءة وبعد عدة إضرابات جوع تمكنّا من حق الكتابة لأفراد عائلاتنا لكن الكتب لم يسمح لنا بها إلا بعد إضرابات جوع عسيرة ومضنية، ولم نتحصل على الكتب إلا بعدما تم نقلنا إلى برج الرومي .
وقد زوّدنا الرفاق من خارج السجن ومن خارج البلاد أيضا بعناوين محترمة من الكتب في مجالات متعددة تتراوح بين التسلية مثل الروايات البوليسية والروايات العالمية بل أمهات الروايات العالمية من الروسية إلى الألمانية والأنڤليزية والفرنسية والعربية وروائع الشعر العالمي فضلا عن الكتب السياسية وتحديدا الماركسية منها، بما فيها رأس المال لكارل ماركس وديالكتيك الطبيعة لأنجلز .
والكتابة داخل الزنزانة؟
منذ بداياتي الشعرية الأولى، وأنا فتى اقترن، الشعر عندي بالمعاناة والحياة بحيث إنني كنت ومازلت أعجز تمام العجز عن الفصل بين القول والفعل .
فالشعر عندي ليس مجرّد معالجة لسانية أو استهاميّة للوجود وإنما كان مغامرة أخوضها بقولي ووجداني وفعلي ولذلك فقد كنت متأثرا بالشعراء الفرسان والمتصوفين حتى البطولات الإنسانية المثالية التي كثيرا ما كان يسخر منها بعض النقاد "الموضوعيين" بل وحتى الأساطير والرموز ... كنت أتمثلها واقعا لا ينفصل عن الجسد ولعل هذا ما حدا بي الى مواصلة الكتابة في السجن باعتبارها فعل مقاومة وإيمان وصدق وقصائدي التي كتبتها على أوراق السجائر ولا أقصد أوراق علبة السجائر بل لفافة السيجارة، كنت أحرم نفسي من لذة التدخين وأتلف التبغ لأغنم ورقة السيجارة وأصيرها ورقة كتابة قابلة للتهريب خارج السجن... وتمكنت بهذه الطريقة من "تهريب" مجموعتين شعريتين إحداهما بعنوان "إلى تونس" بفضل المرحوم نور الدين بن خذر وقد استرجعتها حالما خرجت من السجن أما الثانية فقد هُربت الى باريس بفضل المرحوم أحمد بن عثمان وقد استرجعتها مؤخرا بفضل زوجته سيمون للوش وانا الآن بصدد الاعداد لنشر هذه القصائد في كتاب واحد سيكون حسب اعتقادي معبرا فعلا عن عمار منصور في عمر الشابي . ببساطة لأنني لن أغير فاصلة واحدة فيما كتبته داخل السجن وعمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين وسأنشر الكتاب بتاريخه وخطه .
لماذا كل هذا الاصرار على عدم تغيير أية فاصلة ممّا كتبت رغم أنك الآن خارج السجن وعمرك تجاوز الستين؟
القضية ليست قضية عمر، وانما هي مسألة وعي. وأنا شخصيا أستنكر وأمقت الوعي المابعدي أي ذاك المبني على منطق تبريري كأن أقحم أو أفرض وعي رجل الستين أو السبعين على فورة ذاك الشباب الذي ما زال يتحسس طريقه وهو في العشرينات...
هل هو أنا أم أنا هو؟! أبدا لا أدري ولكن كل ما أحب وكل ما أغار عليه هو ذلك الكائن الذي قد يكون أنا وقد يكون الآخر، ليس من ملكي الشخصي وانما يعكس وعيا محددا في قترة تاريخية محددة لا سبيل الى تزويقها أو التلاعب بها.
أنا أغار على ذلك الشخص الذي كنته وإذا ما زوقته أو جمّلته أو خنته فمعنى ذلك أنني اعتديتُ على كرامته كذات متصلة بي ومنفصلة عني في ذات الوقت .
هل تعني بالوعي الما بعدي كتابة مذكرات ما بعد السجن؟
مذكرات ما بعد السجن... لم تكتب في السجن... وان كانت لها علاقة بالسجن... ذلك أن المذكرات التي تُكتب آو تدوّن بعد مرور الاختبار أو التجربة بسنوات عديدة (قد تتجاوز عشرات السنين) وبعد انتقال صاحبها من تجربة إلى تجربة قد تكون مناقضة للأولى... وهذا يؤدي حتما إلى تلبيس وتلفيق وترقيع وتشويه التجربة الأولى... بحيث يعمد البعض إلى تطويع وعي مضى لشروط وعي حاليّ... فيُغفل أشياء ويهمل أحداث ويُجمّل ما يريد تجميله ولو كان قبيحا... إلى غير ذلك من المخاتلات النفسية كأن يخون الإنسان نفسه، أو يخون وعيه وأقول يخون لأنه عاجز عن التجاوز الحقيقي...
وهذا المسار إذا ما إنسقنا فيه سنكون في قلب العبث .
لكن إذا كان النص المكتوب في السجن ( بحشيشه وريشه ) هو المنشور الآن فلا سبيل إلى المغالطة والتحذلق أو التقبيح .
ذلك هو أنا مثلما كنت ماضيا ... فهل معنى ذلك أن ذلك الماضي هو أنا حاضرا وتلك مسألة أخرى ...
التجربة السجنية قد تكون دافعا لكتابة أدب السجون ويكون جيدا وإنساني ولكنه ينبغي أن لا يُحسب تماما من أدب السجون ...
أدب السجون أدبٌ مدّمرٌ وليس أدب بلاغة ومجاز وشعارات... وإذا أردنا التعمم... فإن الأدب هو أدب سجون أو لا يكون لأن كل أديب يبحث عن حرية ما... والكلمة دائما تريد ان تتحرّر من سجن ما... من وضع ما...
وأعتقد أن الكتابة فعل تحرّر وهي كذلك ولا ينبغي تقديس كل ما كُتب في السجن أو كل ما كُتب عن السجن خارج السجن، فليس كل من دخل السجن أديب ولا كل أديب دخل السجن ...
ولكن الهاجس التوثيقي والجانب التأريخي مهم؟
طبعا التجارب السجنية بصفة عامة ليست بالضرورة تجارب إبداعية أدبية وإنما هي وثائق في تاريخ مجتمع... تعبر عن صراع سياسي ما في مرحلة ما... عن وعي حضاري معين... المهم أن يعي كلٌ دورهُ.. ولا سبيل الى الخلط بين مستويات متباعدة...
ألهذا لم تدوّن مذكراتك السجنية على غرار البعض من رفاقك؟
مذكراتي السجنية هي تلك القصائد التي كتبتها في السجن فقط، أما مذكراتي ما بعد السجن فهي مسألة اخرى تهم وعيي اليوم تاريخيا وحضاريا وفلسفيا... أي أنها تشكل مقارباتي الحالية لمجمل القضايا التي نعيشها وطنيا واقليميا وعالميا...
ولكن اليوم، وعلى الأقل في تونس، أدب السجون بات يُمثل عنصرا مهما في المدونة المكتوبة؟
أدب السجون، أو غيره، ينبغي أن يكون أدبا قبل أن يكون أي شيء آخر.
فإذا كان أدبا قبلناهُ وقرأناه وبجلناهُ، أما أن يكون مجرّد مذكرات ما بعديّة أو مزايداتٌ تبريرية فهذا أمرٌ يتجاوزنا ( لاحظ كثرة المذكرات وخاصة من المسؤولين السياسيين السابقين ...).
أما عن رفاقي الذين إكتووا بنفس النار التي اكتويتُ بها فمازالوا في البداية... وإن الكتب التي أصدروها مازالت تُعدُ على قيد الأصابع (جلبار نقاش، فتحي بالحاج يحي، محمد صالح فليس في انتظار آخرين كثر...) فما أنجز لدينا من آثار قليلة لم يُشكل بعد أدب سجون... فأدب السجون في نهاية الأمر لا يكون إلا من أدب التحرّر والحرية، وهذا ما نحن في أشد الحاجة إليه.
نشر هذا الحديث في جريدة الشعب بقلم الزميل المتألق دوما ناجي الخشناوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.