الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتب، والشعر أساسا، قاداني الى السجن أكثر من السياسة
لأول مرة عمار منصور يتكلم: *أحد الجلادين كان ينتشي بالغناء وهو يعذّبنا
نشر في الشعب يوم 17 - 04 - 2010

من كان ينتظر أن يتكلم عمار منصور في يوم ما عن تجربته السجنية وتجربته الشعرية وموقفه من أدب السجون في تونس بشقيه، أدب المسؤولين السياسيين، وأدب الرفاق، رفاق حركة آفاق، رفاق سجن 9 افريل...
كنت دائما أراه متوغلا في صمته وتأمله، ولم أكن أنتظر كغيري ربّما أن يتحدث إليّ في أكثر من جلسة واحدة لولا إصرار أحمد حاذق العرف. فكان هذا الحوار الذي بين أيديكم.
❊ من مساوئ الذاكرة الجمعية انها تتجاهل او تتناسى من يساهمون في صنع التاريخ في صمت... أنت كنت واحدا ممن ناضل في صمت ويبدو أنك تمرّ في صمت ايضا؟
نحن لا نتخاصم على »تركة« تاريخية. أنا لا أتحدث عادة عن السجن في علاقاتي الشخصية والمهنية ولذلك فالكثير من الناس يستغربون دخولي السجن. أعتقد ان التجربة او المحنة التي مررت بها لم أخضها من باب الطموح الشخصي الضيق، وإنما من باب القناعات الفكرية والوجودية بالاساس وبدرجة أقل سياسية. لذلك أعتقد، ولا أدّعي، أن ما قمت به ليس (مزية) على هذه البلاد أو على أي شخص كان، وانما أعتبرها محاولة بسيطة لإرضاء ضميري الحائر الى درجة العذاب والذي لا يزال كذلك الى الآن، معذب من عديد القضايا الوجودية سواء محلية أو قومية أو أممية وأعتقد أنها تشكل بؤرة التوتر في حياتي الى اليوم، ولربما على هذا الاساس، فإن تجربتي السجنية، وكذلك الاشعار التي كتبتها وأنا داخل السجن لم يطّلع على بعض جوانبها بل لم يسمع بها كثير من الاصدقاء والزملاء الا فيما شذّ وندر الى درجة ان بعض الناس يستغربون تمام الاستغراب اذا ذكر بعضهم ان فلانا شاعر أو كان سجينا سابقا.
كأنني دفنت نفسي بنفسي أو كأني خرجت من سجن لأدخل الى آخر. أمقت الافتعال والتصنّع وقد أكون مخطئا في هذا وقد يعود ذلك الى حكم سلبي مطلق على تجربتي من ألفها الى يائها ولكنه في الحقيقة يشكل احتراما فعليا لتلك التجربة.
❊ ولكن كل المناضلين او لنقل جلهم خاضوا تجاربهم ايضا انطلاقا من قناعاتهم، كما انهم يحترمون تجاربهم فعليا دون تصنع او تكلف؟
اذا كان الامر كذلك مع كل السجناء السياسيين السابقين دون استثناء فهذا أمر مشرف لهم ومشرف للوطن.
❊ طيب، لنعد الى قابس وما قبل قابس؟
انها عودة »الى الوراء« زمانيا لأكثر من نصف قرن (1955) حينما كانت الحركة الوطنية في تونس والعالم العربي في أوج فعلها التحرري أذكر أنني (ولم أكن قد إلتحقت بعدُ بالمدرسة الابتدائية بقرية المنصورة) استمعت ذات صباح الى ضوضاء رهيبة وعلمت فيما بعد أنها مظاهرة ضد الاستعمار الفرنسي فلم أشعر الا وانا أختطف من أميّ أداة حادة كانت تستخدمها في نسج الصوف وقفزت من سطح الدار وخرجت لألتحق بجموع المتظاهرين.
لقد نشأت في مناخ وطني متحرك خاصة وان أبي نفسه محمد بن منصور قد كان من أول مؤسسي شعبة الأعراض بالجنوب التونسي والتي كانت لها علاقة وثيقة بالمقاومين مثل بلقاسم البازمي والساسي الأسود والطاهر الأسود والحبيب شقرة.
أذكر أن والدي كان يعطيني سلة لأجلب له الفلفل من بستاننا لأعطيه للفلاڤة خلسة. عندما إلتحقت بالتعليم الابتدائي تشبعت بالأناشيد الوطنية التونسية والعربية، وهناك قصائد أحفظ منها الكثير الى الآن للشابي وحليم دموس وحافظ ابراهيم واحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي...
في مرحلة الثانوي بالمعهد المختلط بقابس (62 / 63) تعرفت على عدد كبير من التلاميذ من مختلف ولايات الجنوب أذكر منهم سجناء سياسيين فيما بعد مثل عمار الزمزمي ونور الدين بعبورة وبولبابة بوعبيد، أما محمد معالي فكان زميلي من فترة التعليم الابتدائي وتعرفت ايضا على التلميذ أحمد حاذق العرف الذي أضحكنا كثيرا على شخصية (شلُكْة) وهو قيّمٌ عام.
هذه الفترة كانت أخصب فترة من حيث المطالعة فقد كنا نتداول الكتب أكثر من تداول الجوعى للخبز. في ظرف ثلاث سنوات قرأنا مئات الكتب.
❊ الى أي الاتجاهات أخذتك الكتب؟
حملتني الأفكار الى نثر نقاط الاستفهام وطرح الأسئلة وتوليد الأسئلة من الأسئلة. في تلك الفترة اطلعت تقريبا على المدونة الأدبية والنقدية العربية بالخصوص من الجاهلية حتى مجلة آداب لسهيل ادريس ثم دخلت عالم الادب الفرنسي.
❊ وأيضا حملتك الى ظلمة السجون؟
يمكن أن يكون ذلك صحيحا بنسبة كبيرة، فجدتي رحمها الله سمعت أنني نشرت قصيدة في احدى الجرائد اليومية فلم تفرح بل حزنت وتوقعت مصيرا غير سار لحفيدها عمّار، ولعل هذا ما جعل عمار يرثيها في قصيدة مطولة عندما أدركتها الموت وهو في السجن.
وكان قد بعث لها في احدى رسائله سلاما لكنه لم يصل (بلّغتكُ السلام فلم يصل).
في خضم عالم القراءات وفورة الحركات التحررية الوطنية في كافة أنحاء العالم وخاصة بعد هزيمة 67 اتصلنا بالفكر الماركسي عن طريق نصوص مبرمجة في كتب الفلسفة أولا ثم عن طريق مترجمات مشرقية لكلاسيكيات الماركسية، وفي تلك الفترة، وأنا بين البورقيبة والناصرية واليوسفية والماركسية انتقلت الى الجامعة التونسية والتحقت بكلية الآداب والعلوم الانسانية (9 افريل) بعدما تحصلت على شهادة الباكالوريا في الفلسفة والآداب الأصلية.
في الكلية درست الآداب العربية، وفي شوارع العاصمة انفتحت الآفاق رحبة.
كنت أتصوّر قبل الالتحاق بالكلية ان صفة طالب تعني بالضرورة صفة ثائر، ومن البداية تعرفت على عدد كبير من الطلبة سرعان ما تجاوبنا معا لتشابه مراجعنا وقراءاتنا وخلفياتنا الفكرية وطموحاتنا.
في تلك الفترة تعرفت على »الشيخ« الهاشمي الطرودي وكان شابا ذكيا وحركيا ومن خلاله تعرفت على الرفيق محمد بن جنات الذي كان يتقد حماسا ويتمتع بنوع من الكاريزماتية والنجاعة العملية، ثم أصبحت أسكن معهما في نهج أحمد التليلي.
منذ سنتي الأولى كنت عضوا في اتحاد الطلبة وكنت ايضا في التنظيم السري (انذاك) لحركة آفاق بعد ان حسمت أمري من اختلاط البورقيبة واليوسفية والناصرية والماركسية لصالح الأخيرة.
عشت وساهمت من بعيد في مؤتمر قربة وحركة فيفري 72 وحركة ماي 73.
❊ ليلة 18 نوفمبر 1973 دخلت السجن؟
قُبض عليّ. لم أدخل طوعا الى السجن. أُدخلت الى سجن 9 افريل في الزنزانة رقم 6 ومنها الى الزنزانة عدد 17 (قد تكون الزنزانة عدد 5 فعذرا على الذاكرة المهترئة) قبلها بقينا تقريبا ثلاثة أشهر في مكاتب ودهاليز وزارة الداخلية التي كان على رأسها الطاهر بلخوجة آنذاك.
أثناء الاستنطاق تعرضت كغيري من الرفاق الى تعذيب شديد اكتسى مظاهر متعددة لعل أشنعها التعليق على طريقة »الهيلكوبتر« وهي طريقة بلغنا انها مستوردة من امريكا اللاتينية حيث تُربط يدا السجين وساقاه بإحكام شديد ويتم تعليقه على عمود ثابت وتوضع على فمه »كمامة« فتصير قدماه الى أعلى ورأسه الى أسفل ويتداول عليه جلاّدان بالهراوة وهي أنواع متعددة هي الأخرى (الهراوة المطاطية والهراوة الخشبية) ومن أبرز الجلادين الذين أحتفظ الآن بأسمائهم محسن ولد الصغيرة وثان ينادونه »سكابا« وثالث اسمه نور الدين ولا أذكر لقبه ولكن أذكر جيدا انتشاءه بالتعذيب بالغناء نكاية فينا.
من بين أشكال التعذيب ايضا ضرب العضو التناسلي للسجين بعصى مطاطية مما جعلني أتبوّل الدّم سبعة أيام متتالية وانتفخت رجلاي ويداي وتقيحت، وفقدت أظافري وطيلة فترة زمنية لم أعد قادرا على الذهاب الى دورة المياه الا بمساعدة شرطيين بالزي ممن كانوا يتولون حراستنا بعد الجلادين وكان بعض هؤلاء لا يخفى تعاطفه معنا خاصة وان منهم شباب تلمذي شارك في حركة فيفري 1972 واضطر للالتحاق بسلك الأمن لأسباب قاهرة.
ظللت اكثر من شهرين لم يلمس الماء جلدي حتى ان بعض الحشرات كالقمل والبق بدأت تعشش في فُرُشِنَا وأجسادنا ويوم نُقلنا الى »دوش« السجن المدني ب 9 أفريل لم تدم حصة التطهير تلك اكثر من خمسة دقائق بحيث ان الاوساخ تحيّرت ولكنها بقيت بأجسادنا ممّا ضاعف من وسخنا وآلامنا، وكأن »الدوش« كان نوعا من أنواع التعذيب بل هو كذلك.
أشعلوا النار في شعر عانتي، عشت على »الراڤو« لمدة شهر تقريبا ومع ذلك فقد كنا صامدين امام القمع والتعذيب داخل دهاليز وزارة الداخلية بحيث كنا نؤلف الأناشيد الثورية ونلحنها وننشدها بكل قوة ليلا نهارا مما يثير الهلع في صفوف الحراس وموظفي الداخلية الكبار ومن الأناشيد التي ألفتها وأنا في الزنزانة وأَنْشَدَهَا الكثير من الرفاق السجناء وانتشرت داخل وزارة الداخلية.
كتبتُ (الى اللقاء، الى اللقاء يا أيها الرفاق / سوف النضال يجمع شملا بعد الفراق / سنلتقي سنلتقي في جبهة النضال / في حزبنا حزب الملايين من العمال...) وهي معارضة لنشيد كنا حفظناه في التعليم الابتدائي يقول مطلعه »الى اللقاء، الى اللقاء يا أيها الإخوان«...
❊ إذن كنت تكتب داخل زنزانتك؟
قبل الدخول الى السجن كانت لي تجارب شعرية ومحاولات عديدة انطلقت من التعليم الابتدائي ولكنها في بداية التعليم الثانوي بدأت تتبلور في اتجاه رومنطيقي صوفي وقد نالت بعض قصائدي جائزة الجمهورية على مستوى الشبيبة المدرسية في مناسبتين متتاليتين أذكر منهما قصيد »ثورة مجنون« ونشرت عدة قصائد في الصحف (جريدة الصباح، مجلة فكر) ثم لما إلتحقت بالجامعة وتحديدا كلية الآداب والعلوم الانسانية 9 افريل في السنة الدراسية 69 / 70 تعرفت على العديد من الشعراء الطلبة مثل المرحوم الطاهر الهمامي والمنصف الوهايبي والطيب الرياحي وبدأنا نتصل بكثير من النقاد والشعراء المعروفين الذين بدأوا يؤسسون لما يسمى بالطليعة الأدبية مثل ابراهيم بن مراد ومحمد الصالح بين عمر والحبيب الزناد وسمير العيادي وأحمد مختار الهادي فضلا عن أحمد حاذق العرف وشاعر اخر نسيت اسمه كان يشتغل في الحرس الوطني!!! (عذرا تذكرت اسمه، خالد التومي).
وقد تزامنت هذه الموجة »الطليعة« مع انهيار نظام أو سياسة التعاضد مع أحمد بن صالح فبقدر ما كنا مستائين من سياسة احمد بن صالح التجميعية المفرطة وغير المبنية على وعي الفلاحين، كنا نتعاطف معه وحرصنا على حضور محاكمته باعتبار انه لم يكن المسؤول الاول عن تلك السياسة الفاشلة، وفي خضم تلك الأحداث كتبت أنا والمنصف الوهايبي أول قصائد جماعية بمجلة »فكر« والملاحظ هنا أن هذه المجلة تفتحت في تلك الفترة بالذات على الطليعة ونشرت الكثير من النصوص الجريئة، كما كتبنا مجموعة قصائد جماعية ايضا سنة 1970.
أذكر مقطعا من قصيدة كتبتها دفاعا عن بن صالح باعتباره مظلوما أقول فيها: (حياتكم أفيون / وفكركم عاطل / فحكمّوا المجنون / وحاكموا العاقل...).
وأذكر مقطعا آخر يعبّر عن تبرّم الناس من الوعود التي لم تتحقق الا من خلال أبواق الدعاية: (عُوّدتُ بالخضوع / عُوّدتُ بالقناعة / عُوّدتُ أن أرتقب الموعد ألف ساعة / وكنت حينما أجوع / أقتاتُ من برامج الاذاعة).
هذا قبل السجن، ولعل هذه الأشعار والأفكار هي التي أفضت بي الى السجن.
❊ أنا سألتك عن الكتابة داخل الزنزانة؟
في البداية مُنعت عنا الاقلام والأوراق والكتب ورغم ذلك كتبت برماد السجائر على أوراق علب الدخان ومختلف أنواع الأوراق الاخرى ومن ذلك قصيدة وقد ضاعت عنوانها »قائمة الممنوعات« أقول فيها (ممنوع ممنوع... الحاكم يحكم والشعب قطيع... مكتوب بالحبر... مكتوب بالطين على كل جبين... يدق بناقوس الانذار... كلما التقى اثنان... وكلما تحركت شفتان) هذه القصيدة كان يقرؤها الرفيق نور الدين بن خضر رحمه الله وهو ملقى على بطنه في أوج الشتاء بصوت مرتفع وجهوري ليبلغها الى باقي سجناء السجن المدني عبر الفجوة التحتية لباب الزنزانة (صوته الى الآن يرن في أذني).
❊ كيف كانت تصلكم الكتب؟ وهل تذكر بعض العناوين التي قرأتها داخل زنزانتك؟
اثناء مرحلة كاملة في السجن المدني بدأنا نناضل نضالا مريرا من اجل المطالبة بالكتب والأقلام والأوراق، خضنا اضرابات جوع من أجل الحق في المراسلة والكتابة والقراءة وبعد عدة اضرابات جوع تمكنّا من حق الكتابة لأفراد عائلاتنا لكن الكتب لم يسمح لنا بها الا بعد اضرابات جوع عسيرة ومضنية، ولم نتحصل على الكتب الا بعدما تم نقلنا الى برج الرومي.
وقد زوّدنا الرفاق من خارج السجن ومن خارج البلاد أيضا بعناوين محترمة من الكتب في مجالات متعددة تتراوح بين التسلية مثل الروايات البوليسية والروايات العالمية بل أمهات الروايات العالمية من الروسية الى الألمانية والأنڤليزية والفرنسية والعربية وروائع الشعر العالمي فضلا عن الكتب السياسية وتحديدا الماركسية منها، بما فيها رأس المال لكارل ماركس وديالكتيك الطبيعة لأنجلز.
❊ والكتابة داخل الزنزانة؟
منذ بداياتي الشعرية الاولى، وأنا فتى اقترن، الشعر عندي بالمعاناة والحياة بحيث انني كنت ومازلت أعجز تمام العجز عن الفصل بين القول والفعل.
فالشعر عندي ليس مجرّد معالجة لسانية أو استهاميّة للوجود وانما كان مغامرة أخوضها بقولي ووجداني وفعلي ولذلك فقد كنت متأثرا بالشعراء الفرسان والمتصوفين حتى البطولات الانسانية المثالية التي كثيرا ما كان يسخر منها بعض النقاد »الموضوعيين« بل وحتى الأساطير والرموز... كنت أتمثلها واقعا لا ينفصل عن الجسد ولعل هذا ما حدا بي الى مواصلة الكتابة في السجن باعتبارها فعل مقاومة وايمان وصدق...
وقصائدي التي كتبتها على أوراق السجائر ولا أقصد أوراق علبة السجائر بل لفافة السيجارة، كنت أحرم نفسي من لذة التدخين وأتلف التبغ لأغنم ورقة السيجارة وأصيرها ورقة كتابة قابلة للتهريب خارج السجن... وتمكنت بهذه الطريقة من »تهريب« مجموعتين شعريتين احداهما بعنوان »الى تونس« بفضل المرحوم نور الدين بن خذر وقد استرجعتها حالما خرجت من السجن اما الثانية فقد هُربت الى باريس بفضل المرحوم أحمد بن عثمان وقد استرجعتها مؤخرا بفضل زوجته سيمون للوش وانا الآن بصدد الاعداد لنشر هذه القصائد في كتاب واحد سيكون حسب اعتقادي معبرا فعلا عن عمار منصور في عمر الشابي. ببساطة لأنني لن أغير فاصلة واحدة فيما كتبته داخل السجن وعمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين وسأنشر الكتاب بتاريخه وخطه.
❊ لماذا كل هذا الاصرار على عدم تغيير أية فاصلة ممّا كتبت رغم أنك الآن خارج السجن وعمرك تجاوز الستين؟
القضية ليست قضية عمر، وانما هي مسألة وعي. وأنا شخصيا أستنكر وأمقت الوعي المابعدي أي ذاك المبني على منطق تبريري كأن أقحم أو أفرض وعي رجل الستين أو السبعين على فورة ذاك الشباب الذي ما زال يتحسس طريقه وهو في العشرينات...
هل هو أنا أم أنا هو؟! أبدا لا أدري ولكن كل ما أحب وكل ما أغار عليه هو ذلك الكائن الذي قد يكون أنا وقد يكون الآخر، ليس من ملكي الشخصي وانما يعكس وعيا محددا في قترة تاريخية محددة لا سبيل الى تزويقها أو التلاعب بها.
أنا أغار على ذلك الشخص الذي كنته واذا ما زوقته أو جمّلته أو خنته فمعنى ذلك أنني اعتديتُ على كرامته كذات متصلة بي ومنفصلة عني في ذات الوقت.
❊ هل تعني بالوعي المابعدي كتابة مذكرات ما بعد السجن؟
مذكرات ما بعد السجن... لم تكتب في السجن... وان كانت لها علاقة بالسجن... ذلك ان المذكرات التي تُكتب او تدوّن بعد مرور الاختبار او التجربة بسنوات عديدة (قد تتجاوز عشرات السنين) وبعد انتقال صاحبها من تجربة الى تجربة قد تكون مناقضة للأولى... وهذا يؤدي حتما الى تلبيس وتلفيق وترقيع وتشويه التجربة الاولى... بحيث يعمد البعض الى تطويع وعي مضى لشروط وعي حاليّ... فيُغفل أشياء ويهمل احداث ويُجمّل ما يريد تجميله ولو كان قبيحا... الى غير ذلك من المخاتلات النفسية كأن يخون الانسان نفسه، أو يخون وعيه وأقول يخون لأنه عاجز عن التجاوز الحقيقي...
وهذا المسار اذا ما إنسقنا فيه سنكون في قلب العبث.
لكن اذا كان النص المكتوب في السجن (بحشيشه وريشه) هو المنشور الآن فلا سبيل الى المغالطة والتحذلق أو التقبيح.
ذلك هو أنا مثلما كنت ماضيا... فهل معنى ذلك ان ذلك الماضي هو أنا حاضرا وتلك مسألة أخرى...
التجربة السجنية قد تكون دافعا لكتابة أدب السجون ويكون جيدا وانساني ولكنه ينبغي ان لا يُحسب تماما من أدب السجون...
أدب السجون أدبٌ مدّمرٌ وليس أدب بلاغة ومجاز وشعارات... واذا أردنا التعمم... فإن الأدب هو أدب سجون أو لا يكون لأن كل أديب يبحث عن حرية ما... والكلمة دائما تريد ان تتحرّر من سجن ما... من وضع ما...
وأعتقد ان الكتابة فعل تحرّر وهي كذلك ولا ينبغي تقديس كل ما كُتب في السجن أو كل ما كُتب عن السجن خارج السجن، فليس كل من دخل السجن أديب ولا كل أديب دخل السجن...
❊ ولكن الهاجس التوثيقي والجانب التأريخي مهم؟
طبعا التجارب السجنية بصفة عامة ليست بالضرورة تجارب ابداعية أدبية وانما هي وثائق في تاريخ مجتمع... تعبر عن صراع سياسي ما في مرحلة ما... عن وعي حضاري معين... المهم ان يعي كلٌ دورهُ.. ولا سبيل الى الخلط بين مستويات متباعدة...
❊ ألهذا لم تدوّن مذكراتك السجنية على غرار البعض من رفاقك؟
مذكراتي السجنية هي تلك القصائد التي كتبتها في السجن فقط، أما مذكراتي ما بعد السجن فهي مسألة اخرى تهم وعيي اليوم تاريخيا وحضاريا وفلسفيا... أي أنها تشكل مقارباتي الحالية لمجمل القضايا التي نعيشها وطنيا واقليميا وعالميا...
❊ ولكن اليوم، وعلى الأقل في تونس، أدب السجون بات يُمثل عنصرا مهما في المدونة المكتوبة؟
أدب السجون، أو غيره، ينبغي أن يكون أدبا قبل أن يكون أي شيء آخر.
فإذا كان أدبا قبلناهُ وقرأناه وبجلناهُ، أما أن يكون مجرّد مذكرات ما بعديّة أو مزايداتٌ تبريرية فهذا أمرٌ يتجاوزنا (لاحظ كثرة المذكرات وخاصة من المسؤولين السياسيين السابقين...).
أما عن رفاقي الذين إكتووا بنفس النار التي اكتويتُ بها فمازالوا في البداية... وإن الكتب التي أصدروها مازالت تُعدُ على قيد الأصابع (جلبار نقاش، فتحي بالحاج يحي، محمد صالح فليس في انتظار اخرين كثر...) فما أنجز لدينا من آثار قليلة لم يُشكل بعد أدب سجون... فأدب السجون في نهاية الامر لا يكون الا من أدب التحرّر والحرية، وهذا ما نحن في أشد الحاجة إليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.