يتأكد يوما بعد يوم أن إحدى أهم العقبات التي تحول دون تجاوز الأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها البلاد، أن هذه الأزمة هي في جزء كبير منها أزمة ثقة بين الفرقاء السياسيين، وخاصة بين «الترويكا» الحاكمة، وأساسا حزب حركة النهضة، وطيف من المعارضة وأساسا الجبهة الشعبية. وما يعكس عمق غياب الثقة بين هذين الطرفين هو أن ما عطل الانطلاق في الحوار على قاعدة خارطة الطريق التي تقدمت بها المنظمات الراعية للحوار لتجاوز هذه الأزمة حتى الآن، هو أن هذه المبادرة اصطدمت بمخاوف من هذا الطرف أو ذاك لانعدام ثقته في الطرف المقابل. تلك هي المعضلة الحقيقية مهما حاول هذا الطرف أو ذاك تغليفها بتفسيرات وبعناوين أخرى... وواضح جدا أن جوهر هذه المعضلة هو أن لا ثقة لطرف في الطرف الآخر. فمن جهة تخشى المعارضة أنه في حالة الاتفاق على إنهاء المهام التأسيسية للمجلس التأسيسي قبل إعلان الحكومة الحالية عن استقالتها وفتح ملف التشكيلة الحكومية الجديدة، أن تتنصل الجهة المقابلة من تعهداتها وتعمد إلى المماطلة في استكمال بقية المهام. وفي الجهة المقابلة فإن «الترويكا» وأساسا النهضة تخشى ألا تحترم المعارضة التزاماتها في حالة استقالة الحكومة قبل إنهاء المهام التأسيسية، لأجل ذلك يشبه البعض ما يجري بحكاية البيضة والدجاجة... وبالحلقة المفرغة التي سنبقى جميعا ندور في فلكها إلى ما لا نهاية له في حال تواصل الأمور على ما هي عليه. تشبث كل طرف بموقفه يفسر ولو جزئيا أن المفاوضات الأخيرة حول خارطة طريق الرباعي الراعي للحوار، تحولت أحيانا إلى ما يشبه عملية البيع والشراء حول عدد الأيام والأسابيع التي يجب أن تعلن خلالها الحكومة الحالية عن استقالتها، أو بالنسبة للفترة التي يجب أن ينهي فيها المجلس التأسيسي أعماله، وأي من المسألتين يجب حسمها أولا. غياب الثقة بين الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة ليس أمرا جديدا. وكان السبب الرئيسي في فشل مبادرات سابقة للحوار. بل إن ما جرى في الأيام الأخيرة هو أن الطرفين لم يدخرا جهدا لتغذية مناخ انعدام الثقة بشتى السبل والوسائل ليبلغ حدا يصعب معه تجاوز المأزق الراهن ما لم يقع تراجع من هذا الطرف أو ذاك أو كلا الطرفين معا. وأكثر من ذلك فقد تحولت مواقف الأحزاب وردود فعلها على ما يجري من تطورات في الأيام الأخيرة إلى دروس تطبيقية في فن المناورة السياسية والتشكيك في الخصم وإرباكه. وتجلى ذلك أيضا في حالة اليقظة القصوى التي تسلح بها كل طرف سواء لدى صياغته لمواقفه، أو عند قراءته لمواقف الأطراف المقابلة. وهذا ما يفسر أن بعض المواقف من مبادرة الرباعي لم تأت واضحة بالقدر المطلوب وفهمت على أكثر من معنى. وأن بعض البيانات أمست على شكل وأصبحت على شكل آخر. قد يقول البعض إن غياب ثقة السياسيين بعضهم في بعض أمر عادي وموجود في كل بلدان العالم، حتى الديمقراطية منها. وأنه لا يمكن المراهنة على التوصل إلى توافقات مصيرية وتاريخية قادرة على الصمود، اعتمادا فقط على الثقة بين الخصوم السياسيين. وهذا صحيح في الديمقراطيات العريقة التي تديرها مؤسسات بنيت على مدى عقود من الزمن. ولكنه لا يستقيم في البلدان التي تعيش عملية انتقال ديمقراطي، حيث لا بد من التوافق والأخذ بعين الاعتبار لبعض الخصوصيات. لذلك ليس هناك من حل آخر أمام كل المعنيين بالأزمة الحالية سوى المراهنة على قدر ولو يسير من الثقة بعضهم في بعض ... وجزء من الضمانات التي ستساعد على تجاوز هذه الأزمة، لا يمكن أن تتضمنه الوثائق مهما كانت واضحة ودقيقة. بل يستند في جانب منه على توفر الثقة، وعلى مدى التزام كل طرف باحترام التعهدات التي سيقطعها على نفسه حتى وإن لم تكن مكتوبة وموقعة. كل الذين تابعوا المشاورات الأخيرة حول خارطة طريق الرباعي الراعي للحوار يدركون هذا جيدا. ويعرفون أن أي وثيقة مهما كان وضوحها ومهما كانت الضمانات التي ستقدمها لن يكون بإمكانها الوصول بالبلاد إلى بر الأمان . لذلك واهم من يعتقد أننا سنتجاوز هذه الأزمة في غياب عامل الثقة لأنه في هذه الحالة سيبقى هناك دوما مجال للمناورة وللتعطيل ولربح الوقت..