كم كانت العامّة من غير أهل السياسة تأمل أن يكون الحديث اليوم أو حتى بعد قليل عن بداية تحقيق هدف رئيسي نادت به الثورة وهو التوزيع العادل للثروات بين الجهات والعباد من أقصى الشمال إلى جنوب البلاد. غير أنّ طبقتنا السياسية تفنّنت كعادتها في تجميل الفشل وتوزيع الخيبات المتتالية بالعدل والقسطاس على المواطنين. تعليق الحوار بين الفرقاء وإن كان محاولة أخيرة من الرباعي للوصول إلى توافقات ترضي الجميع، فإنّ مجرّد حصوله هو فشل واضح تجتهد المنظمات الراعية لتأجيل إعلانه في انتظار حَلْحَلَةٍ قد تأتي في اللحظات الأخيرة. ويبدو أنّ قياس الفشل والنجاح بقي حكرا على الفريقيْن المختلفيْن، فالسلطة مثلا تحسب فشلها أو نجاحها بعدد النقاط التي كسبتها تكتيكيا على المعارضة، وهذه الأخيرة لها نفس المنطق. لقد تناسى كلاهما أنّ مفهوم الفشل والنجاح قياسه بالأساس تحقيق تطلّعات العامّة لا ما تحقق بينهما من ضربات تحت«الحزام». لنترك حوار الطرشان قليلا ونفتح الأسئلة الحارقة الحقيقية التي تؤكد عدم رغبة الطرفيْن وأساسا السلطة، في المرور من المرحلة الانتقالية إلى الدائمة إلا بشروط ليس أقلّها ضمان سير النتائج في صالحها من الآن ممّا يجعل المسار الانتخابي القادم على بهرجه القانوني والمؤسساتي، شكليّا وفاقدا للشفافيّة حتى إنْ قالت الصناديق كلمتها. في هذا الإطار فقط، يمكن فهم تمسّك السلطة بمن ترشحه لرئاسة الحكومة، فهي لا ترغب في شخصية قد تُقْدِم على مراجعة التعيينات التي تهاطلت تباعا حسب نشريات الرائد الرسمي. ما يُحْسَبُ للسلطة هو نجاحها في تعويم فشلها بأنْ عَمَّمَتْهُ على الجميع سياسيين ونخبة مثقفة ومواطنين!. مَن اتّخذ قرارات إستراتيجية تهم خاصة الأمن الاقتصادي وترهنه لعقود؟ مع أنّ السلطة انتقالية فحسب لكنها حوّلت نفسها دون تفويض من أحد إلى سلطة دائمة وفي ذلك ربما مراهنَة منها على أنها ستواصل الحُكم وستختارها الصناديق المقبلة!. كذلك المسؤولية السياسية لأحداثٍ كنا نخال أننا ملَقَّحون ضدها، اغتيالات سياسية، إرهاب ضدّ الأمنيين والعسكر، أسلحة تتجوّل بسلاسة بين الأرياف والمدن، هرسلة الإعلاميين والمثقّفين وغيرها، لمن المسؤولية؟، في كل الدّيمقراطيات طبعا هذا إنْ كنا حقا نعيش أجواءها!، السلطة القائمة هي التي يقع تحميلها النصيب الأكبر من مسؤولية هذا الانفلات. إنّ التخفّي وراء «علكة» شرعية الصناديق لم يعد مبدئيا مثل الأوّل، فانطلاقا من 23 أكتوبر 2012، تحوّلت إلى شرعيّة توافقية رغبت فيها «الترويكا» وقبلتها وباركتها المعارضة درءا لشبح الفراغ المؤسساتي. وأيّ اختلاف حين يصبح جوهريا كما يحدث الآن، يعني نهاية الشرعية التوافقية كما انتهت من قبلها الشرعية «الصندوقية» ليصبح الجلوس بين الفرقاء أمرا حتميا لتحديد قواعدَ جديدة تتماشى مع هذه المرحلة التي فقدت فيها لا السلطة فقط بل كذلك المعارضة شرعيتهما التأسيسية والتوافقية والأخلاقية بعد أنْ تأخّرت الاستحقاقات الحقيقية للثورة إلى آخر الصف!. بالنسبة للمعارضة، يبدو الأمر مشابها مع اختلاف في التفاصيل، أولا اختيارها عدم المشاركة في حكومة ائتلاف وطني واسع دعت إليها النهضة مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، يُعتَبَر قصورا عن فهم طبيعة مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق التي كانت تفترض تسييرا توافقيا لكن يبدو أنها لم تكن مستعدة لتحمّل مثل هذه المسؤولية لصعوبتها والاكتفاء بالموقع الاحتجاجي المريح. ثانيا، عدم رسوّها على إستراتيجية واضحة، إمّا القطيعة الكاملة مع السلطة بوضوح وتحمّل نتائج ذلك أو الجلوس معها بعقلية ترسّخ الثقة الحقيقية بين الطرفين حتى لا تبقى النهضة أساسا مرتابة من الأهداف الخفية للمعارضة. هذه الأخيرة بعدم وضوح إستراتيجيتها جنت على نفسها وزادت في ارتياب السلطة منها: فلا هي قبلت أن تكون قوة قائدة بعد أن رفضتها منذ البداية، ولا أن تكون مُعَدِّلَة باعتبارها طرفا في النزاع وحتى بقاؤها كقوّة ضاغطة فشلت في استثماره فعادت إلى التأسيسي دون ضمانات ملموسة. لقد أصبح اختيار رئيس الحكومة مدعاة لصراع آخر هامشي وكم كان حريا بالطرفين أن يكون التنافس بالبرامج والأفكار ولكن يبدو أننا ب«فَضْلِهما»نعيش اليوم وقائع التوزيع العادل للفشل!.