خلفت «المعركة» الأخيرة حول الأسماء القادرة على تحمل مسؤولية رئاسة الحكومة المقبلة خسائر فادحة على أكثر من مستوى. فهذه المعركة كانت أول امتحان جدي في خارطة الطريق التي طرحتها المنظمات الوطنية الأربع الراعية للحوار الوطني، وقد سقط الجميع في هذا الامتحان، وتأجلت باقي الامتحانات التي تظل بدورها غير هينة ولا يسيرة.. كان واضحا أن كل سطر في خارطة طريق الرباعي يمكن أن يمثل مأزقا، ما لم تتوفر الإرادة الضرورية من كل الأطراف لتجاوز الأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها البلاد .. وقد أكد السقوط المدوي في الامتحان الأول هذه الحقيقة .. حيث تشبث كل طرف بمواقفه، لتتعطل مسيرة الحوار عند أول منعطف... ولا أحد يدري اليوم إن كان قطار الحوار توقف نهائيا أم أنه سيعود ، حين يعود الرشد إلى الفاعلين الرئيسيين على الساحة السياسية. لقد علقت أغلبية الشعب التونسي آمالا واسعة على هذا الحوار.. وجاءت خيبة الأمل بحجم هذه الآمال التي لم يتحقق منها أي شيء .. بل إن البعض يرى أن الأمور ازدادت سوءا بالنظر إلى ما جدّ في المجلس الوطني التأسيسي حيث انقسم النواب من جديد، مما يوحي ببروز عقبات جديدة أمام المسار التأسيسي، فضلا عن العقبات التي يواجهها المسار الحكومي. يشعر التونسيون اليوم بمرارة كبرى، بسبب عدم توافق الفرقاء السياسيين، ويحمّلون المسؤولية الأولى في ذلك للطبقة السياسية التي غلبت مرة أخرى مصالحها الحزبية وحساباتها الآنية عن المصلحة الوطنية ،.. فمعركة الأسماء الأخيرة التي اصطدم بها الحوار الوطني لم تكن مجرد اختلاف حول قدرة المرشحين على الاضطلاع بمهام رئاسة الحكومة... كانت معركة سياسية مدارها الحقيقي تموقع الأحزاب في الفترة المقبلة، ولم يكن هم العديد من المشاركين في الحوار إنقاذ البلاد من خطر الإرهاب وتدني أحوال الاقتصاد وهي أولويات المواطن التونسي العادي البسيط . والمؤسف أكثر أن هذه المعركة نزلت أحيانا إلى مستويات لا تليق، سواء داخل قاعة الحوار أو خارجه... وتحولت بعض فصولها إلى تهجم وإساءة وتجريح واستهزاء ببعض المرشحين لمنصب رئيس الحكومة بأسلوب رديء لا يشرّف أي تونسي. واليوم، وبرغم التصريحات والتطمينات، واستماتة البعض على رفض الحديث عن فشل للحوار بل عن مجرد تعليق لفعالياته، فالأرجح أن الحوار الوطني لن يعود قريبا جدا.. إذ لا شيء يوحي بأن الأقطاب السياسية بصدد مراجعة مواقفها وخياراتها، أو أنها مستعدة للتنازل عن خياراتها الأولى. وقد بدا جليا خلال جلسات الحوار أن الشيء الوحيد الذي قرأت له بعض الأطراف حسابا هو ألا تبدو أمام الرأي العام أنها المتسببة في فشله أو في تعليقه .. لذلك تعددت المناورات ومحاولات ربح الوقت، والتصريحات، والتصريحات المضادة، لنجد أنفسنا بعد ساعات طويلة ومملة أحيانا من الأخذ والرد وحتى المشاحنات في النقطة الصفر.. لقد كان ترميم العلاقة السيئة بين الأحزاب الحاكمة والأحزاب المعارضة أحد أهداف هذا الحوار.. ولكن يبدو أن النتائج جاءت عكسية تماما..وأن الأمر سيتواصل على هذا النحو، لتزداد هذه العلاقة سوءا على سوء. وحتى إن تغيرت الأسماء المرشحة لترؤس الحكومة الجديدة خلال الأيام المقبلة، فإننا سنجد أنفسنا من جديد إزاء نفس المأزق.. فقد بدا جليا أن «الترويكا» الحاكمة سوف ترفض أي مرشح تدعمه المعارضة، كما أن المعارضة سترفض أي اسم سيقترحه الائتلاف الحاكم، وأن لهذا الطرف أو لذاك شكوك «أبدية» في اختيارات الطرف المقابل،. إن المطروح اليوم على رعاة الحوار ألا يستعجلوا عودته فضلا عن وجوب تغيير شروط «اللعبة» وطريقة العمل... وخاصة إنضاج شروط نجاح الحوار قبل جمع الأحزاب حول طاولة المشاورات من جديد.. حتى وإن أدى الأمر بتكفل الرباعي بطرح أسماء جديدة لمنصب رئاسة الحكومة والاتفاق على واحد منها من خلال حوار غير مباشر قبل عود الحوار رسميا.