غراسات نادرة وحقول مثمرة تحولت الى «علفة» للمواشي... ومعاصر تاريخية لعبت بها أيادي العابثين أحد السكان الأصليين: «الماء ما ثماش.. وحتى البهيّمات سرقوها» مشكل عقاري يعطل التسوية وقرار بإجلاء النازحين وهدم أكواخهم ومنازلهم التونسية (سليمان) تحتفل تونس كل يوم 12 ماي بعيد الجلاء الزراعي الذي يوافق يوم 12 ماي 1964 تاريخ تسليم آخر المعمّرين بالبلاد أيام الاستعمار أراضيهم الى السلطات التونسية لتكتمل بذلك السيادة الداخلية اثر جلاء قوات المستعمر عن قاعدة بنزرت. لكن عيد الجلاء الزراعي وما يعنيه من استغلال للأرض والتمتع بخيراتها لا يعني شيئا بالنسبة للسكان الاصليين لضيعات «المريصة» التابعة لمعتمدية سليمان من ولاية نابل. ذلك ان حال هذه الضيعات يرثى لها اليوم بعد ان تحولت من جنة خضراء خلّفها بعض المعمّرين الى مقبرة جرداء نتيجة مشكل عقاري (حسب سكانها) جعل ايادي العابثين من النازحين للمنطقة تعبث بها مخلّفة حسرة في قلوب بعض الذين عاشوا أيام عزّها. «التونسية» كانت لها زيارة الى «أطلال» الضيعات... «قلائل هم الذين يعرفون أن التراب امتداد للروح وأن الأرض سخية مع من يعطيها من عرقه ووقته ودمه .. صحيح أن المستعمر غادر أراضينا يوم وقّع على قانون الجلاء الزراعي،ولكن يبدو انه لم يرحل خاوي الوفاض إذ حمل معه مفهوم حبّ الأرض وعشقها»..كلمات قليلة تلخص قصة عشق عمّ علي الفيتوري العويني لأرض طبعت خطواته كل شبر منها ..عم علي –حسب من يعرفه-ما انفك يوميا يداعب «حبيبته» بمعوله الصدئ ويعتني بها ويبدي شغفه الشديد بها حتّى في أيام «شيخوختهما».. مازال يحبّها بل .. يرثيها وهي التي تحولت من آلاف الهكتارات الخصبة المعطاء إلى بور عاقر لا تنجب غير الأعشاب والطفيليات الضارة بالأرض وبمعمّريها. قصة عم علي الفيتوري العويني بكل ما تحتويه من معاناة وألم وشقاء لا تعدو أن تكون بمثابة الورقة الواحدة من ملف «فشل السياسة التنموية المربوط بتعقد وتشعب الوضعية العقارية لعدد من الفلاحين»،حيث مازال الملف العقاري بضيعات «المريصة» التابعة لمعتمدية سليمان من ولاية نابل،كغيرها من الكثير من الأراضي، يصنع الحدث ومازالت شواهده وتفاصيله من «التابوات» التي يصعب على الكثير أن يكسرها وأن يفك خيوطها، وهذا للعديد من الاعتبارات بداية بالمسؤولية التي تتحملها عهدة ديوان الأراضي الدولية زمن المخلوع والتي حسب المعلومات كانت من بين أكثر أسباب استنزاف الجيوب العقارية والسطو عليها باسم القانون وبملفات مورس فيها التحايل وبتواطؤ جهات عديدة. حال ضيعات «المريصة» التي تعود ملكيتها إلى الدولة «قانونا» ليست بأفضل مما كانت عليه قبل الثورة بل لعل ما كانت عليه قبلها أفضل مما صارت تعانيه اليوم-على حد تعبير عم علي الفيتوري العويني-،احد الفلاحين القدامى الذين عمروا هذه الضيعات والتي تقدر مساحتها الجملية بأكثر من 2000 هكتار ،منذ أن كانت على ذمة المستعمر الفرنسي-. كانت انطلاقة «التونسية» من حيث توقفت فوضى المدينة...فلا شيء هنا غير الهدوء والصمت الجميل...هنا جمال الطبيعة والخضرة والهواء النقي...انها الجنة الضائعة او...هكذا تظن بادئ الامر الى...ان يبدأ الحلم في التلاشي ويطل البؤس بوجهه القبيح مع كل خطوة تخطوها في هذه الارض «المهملة»..طين المسالك الوعرة يلازم الحذاء ويعطّل الحركة..بل هو يستوقفك لتقف على عمق الماساة.. «مأساة ارض تنبت ذهبا تحولت الى خراب ولا شيء غير الخراب»-على حد تعبير عم علي-. مسالك فلاحية فعل فيها الانجراف فعله فحولها الى وديان جارفة...مواش تقتات من عرق الفلاحين وتجتر أوراق اشجار مثمرة من زيتون وقوراص وعنب وتين...هي اشجار يقول عم علي انها ترعرت على ايادي الاجداد الاولين الذين سقوها من عرق الجبين قبل ان يحتل من اسماهم «الوافدون الجدد» هذه الأرض بعد الثورة ويحولوا جذوع اشجارها الى اعمدة يشيدون بها اكواخهم ،اما أوراق الاشجار وثمارها فقد تحولت الى علف لمواشيهم الامر الذي حوّل الغابات الخضراء الى صحراء قاحلة لا يمكن العيش فيها-على حد تعبير عم علي دائما-. غراسات نادرة تتحول إلى «علفة» للمواشي ! ويضيف عم علي: «لم يقع بصر المخربين على شيء الا وسرقوه أو خرّبوه..انهم يجهلون قيمة الكنوز التي تقدمها الارض لمن يخدمها وبما انهم لم يخدموها يوما فهم «ما يحسّوش عليها كيما نحسّو نحن» ابناء المنطقة المترعرعون بين احضانها». بجولة في المنطقة وقعت عيوننا على «مقبرة» للهندي «الاملس»(سلطان الغلة) الذي لم يستطع الهندي الشوكي العادي ان ينافسه في سوق الغلال المحلية والخارجية...مشهد موحش ل«مقبرة» هندي تمتد على كيلومترات جعلنا نتوجه بالسؤال الى عم علي عن سرّ المصاب الذي حل بهذه القطعة، فقال ان «رجل الاعمال المعروف محمد ادريس تحول الى المنطقة قبل الثورة ليستثمر فيها هذا النوع من الغراسات النادرة والثمينة،ولكن بعد الثورة اهملت ليعبث بها العابثون ويحولوها علفة للمواشي». معاصر خمر تاريخية «تتجرع» ظلم الحياة وجع كبير يحس به زائر المنطقة...تحف اثرية غادرت اسوار معصرتين فرنسيتين قديمتين كانت تصنع فيهما الخمور المعتقة ل«تساهم» في تشييد اكواخ «قبيحة» انتشرت هنا وهناك ...معصرتان شاهدتان على التاريخ نهبتا بشكل كلي ولم يبق فيهما غير البراميل والاوعية الضخمة التي كانت تخزن فيها الخمور ،وان نجت فلأن ايادي العابثين لم تقوعلى زحزحتها من مكانها لثقلها. وفي السياق ذاته،يقول عم علي متحسرا: «ابي رحمه الله عليه كان خبيرا في صناعة الخمور وهو الذي كان يشرف على تشغيل المعصرتين اللتين كانتا تنتجان اجود انواع الخمور الموجهة للتصدير لانها تعتمد في مراحل انتاجها على الكروم التي يتم غراستها في المكان ذاته الذي تعصر فيه...واليوم كما ترى باتت المعصرتان رميما ولم يبق منهما غير ما لم يستطع المخربون جره رغم محاولاتي اليائسة البائسة لثنيهم عن صنيعهم». «الماء ما فماش..وحتى البهيّمات سرقوها» «قنوات الصر ف الصحي من الارض الى الارض...والماء منبع الحياة صار مصدر قلق وازعاج وزاد في حجم المعاناة الأهالي.. فحتى مجمع المياه الصالحة للشرب الوحيد ملوث»-هكذا لخص صالح الفيتوري العويني شقيق عم علي أهم شواغل اهالي المنطقة ومشاكلهم وهو يملأ الماء من بئر قديمة شبه فارغة ،مضيفا: «اننا نجلب الماء الصالح للشرب من منطقة تبعد عنا كيلومترات وحتى البهيمات اللي كنا نجيبوا عليهم الماء سرقوها...وبحلول فصل الشتاء لا يمكن ان نجلب الماء لان الطريق الذي نسلكها يوميا تتحول الى واد جارف يصعب عبوره»،موضحا ان احمرته الخمس لم تسلم من السرقة. «الحلّوف» يخيف الأهالي الاوعية والبراميل المخصصة لتحميل المياه المخصصة للشرب تملأ الساحة.. الخنزير يرتع امام البيت وآثار قدميه تطبع الارض التي حفرها بحثا عن الغذاء...ولكنه لا يخيف اصحاب المنزل الذين اكدوا ان «الحلوف» صاحب الاربعة اقدام لا يخيفهم بقدر ما يخيفهم «صاحب القدمين» ويقصدون بذلك الانسان الذي عبث بالارض وابى ان يقدم لاصحابها يد العون والمساعدة وتوفير حاجياتهم الاساسية من ماء صالح للشرب ووسائل حماية ابنائهم من لدغات الحشرات السامة التي اتخذت من هذه الاراضي الجدباء موطنا لها. منصف الغيضاوي(فني في تربية النحل وحارس الادارة الجهوية للفلاحة بالمريصة): «الارض ضاعت..وضعنا معاها» بتحولنا الى مقر الادارة الجهوية للفلاحة لم نجد غير منصف الغيضاوي (فني في تربية النحل وحارس الادارة)الذي اعرب عن ألمه الشديد من الحال الذي باتت عليها آلاف الهكتارات هذه الايام،مضيفا: «الارض ضاعت وهملت وتسرقت وما بقى فيها شي...ضاعت وضعنا معاها»-متابعا- «سكان هذه المنطقة القدامى هم أصحاب الخبرة وأصحاب الارض وهم وحدهم القادرون على الاعتناء بها وارجاعها جنة خضراء كما كانت في الايام الخوالي...ولكن الدولة لم تعمل على تسوية وضعيتهم العقارية ولم تفوت لهم في الارض والا لوجدتها على غير الحال التي هي عليه اليوم». وطالب الغيضاوي السلطات بالعمل على تركيز مركز امن بالمنطقة وتوفير ظروف العمل اللازمة. رياض النجار (رئيس بلدية قربص): اتخذنا قرارا بالهدم وإجلاء الوافدين الجدد حملنا كل شواغل السكان الاصليين للضيعات الدولية بالمريصة الى رئيس بلدية قربص السيد «رياض النجار»الذي اكد بدوره ان سبب تاخر البلدية في مد هذه العائلات بقنوات المياه الصالحة للشرب يعود الى عدم تسوية وضعياتها العقارية قانونيا ،متسائلا: «ماذا يمكننا ان نقدم الى اناس يستغلون أراضي دولية دون اي موجب قانوني ودون أية صفة رسمية...للامانة السكان القدامى امثال سي علي ليسوا بوافدين جدد على المنطقة ولذلك نعمل جاهدين على ايجاد حل انساني يمكن من خلاله معالجة مشاكل هذه العائلات ... راسلنا وزارة املاك الدولة والشؤون العقارية وطالبناها بالحسم في وضعية المتساكنين اما بالتفويت لهم أو بمنحهم الترخيص... ونحن في امس المساعدة لمساعدة الوزارة حتى نساعد الأهالي ونحن ننتظر صدور قرار سياسي في هذا الشان نظرا للوضعيات الاجتماعية الصعبة التي يعانيها هؤلاء». وشدد رياض النجار في السياق ذاته على ان الميزانية التي تخصصها الدولة لبلدية قربص لا تتجاوز ال300 الف دينار تصرف 70 بالمائة منها في تسديد رواتب العملة،مضيفا ان ما يتبقى من الميزانية لا يفي بالغرض لتهيئة الطرقات وربط المنازل البعيدة بشبكات المياه الصالحة للشرب،مبينا ان البلدية وعلى الرغم من امكانياتها الضعيفة –برايه-تعمل على تمكين اهالي الضيعات الدولية بالمريصة من صهاريج ماء صالح للشرب مجانية وبصفة دورية كل 15 يوما او يزيد.أما بخصوص الوافدين الجدد على المنطقة والذين اتخذوا من الاراضي الدولية مسكنا لهم فقال «النجار» ان البلدية قد اتخذت بشأن هذه الاكواخ والبنايات الحديثة قرارا بالهدم والاجلاء،مضيفا: «لقد اتخذنا هذا القرار ولكن كما تعرف فان التنفيذ من مشمولات التراتيب والوحدات الامنية حسب دراسة امنية مسبقة». وبخصوص الوضع الامني بالمنطقة،قال النجار ان الدوريات الامنية ضاعفت من جهودها في الفترة الاخيرة وباتت تشن حملات تمشيط كبرى بصفة دورية مسترسلة. تحقيق: فؤاد مبارك