بقلم: د. عبد السلام فزازي التونسية (تونس) الشعر جنس أدبي ليس كبقية الأجناس الأدبية الأخرى، عبر مساره التاريخي تربع على صهوة لسان حال الأمم والأقطار الكونية، واستطاع اختراق طروحات فكرية وثقافية وإنسانية، معانقا المعاصرة والحداثة قادما اليها بثبات من ماض أصبح مستقيلا، متأبطا رؤى الجمالية والفلسفة المتشبعة بروح الشعر والأصالة معا.. وهكذا، دأب النقاد والمبدعون في هذا المجال بالذات في سبيل إعادة قراءة الشعر العربي القديم بغية الإبحار في ماضي وحاضر الشعر في سياقات ظلت تسعى إلى فتح آفاق رحبة ومؤسسة لرؤية جديدة بها وعبرها استطعنا معشر النقاد وبأدوات إجرائية نقدية حداثية اقتحام الشعر القديم وصولا إلى حاضره واستنهاضه بشفافية ساعين إلى أن تتحقق لنا غاية التمتع بكونية هذا الجنس الأدبي الذي لم يبرح مكانه قط إلا حين استجاب استجابة شرطية لواقع الحال الذي خرج من قمقم المستقبل والاستنهاض وشفافية مطلقة، باحثين عن رؤية موضوعية وجمالية في إطار التجربة الشعرية الإنسانية والكونية الراسخة انطلاقا من رؤاها الفلسفية والجمالية بشكل عام، وفي أفق انتظار كوني في الزمان والمكان، مستلهما أيقونات شعرية معاصرة. فكان أن تحقق لهذا الجنس الأدبي الكوني تشكل التبئير انطلاقا من إعادة القراءة العميقة للشعر العربي القديم الناحت والموغل أساسا في رؤية التبصير في قراءات الفضاءات الكونية للشعر منهجا وثقافة وحضارة متجذرة في بنياتها، وتواصلها المستمر مع آليات لغتنا الشعرية العربية المعاصرة ماضيا وحاضرا واستشرافا للمستقبل المنفتح على التجارب الكونية، معتمدين استفزاز الأسئلة الكبرى المثيرة للقلق والجدل التي يعيشها عالمنا الحافل والمتواتر بشتى الأسئلة الآنية.. وهذا ما جعل الشاعر في عرف النقد الحديث هو ذلك الكائن الكوني الذي لا يكتمل العالم إلا بحضوره الفاعل، ونبشه في الذاكرة الإنسانية، محاولا التواصل عبر سمو الكلمة مع بقية العالم نظرا لما يتميز به من عبقرية شاعرية وشعرية، وذاكرة وجدانية حية خالصة، وطاقات إبداعية قلقة تختزل تفاصيل القلق الإنساني، ومستصحبة القيم الجمالية والموضوعية والإنسانية، مما يعج به الكون من مواضيع فلسفية وفكرية وثقافية، وأفكار وآراء بعيدة الغور، والراسخة بجذورها في الأدب والفن والفكر والجمال الشعري.. هكذا، يحق للشعر باعتباره جنسا أدبيا راقيا أن يتصدر بقية الأجناس الأدبية على اعتبار انه المنطلق الأول في عالمها، مما حباه الله من تميز في الإبداع والشاعرية.. والشعر يبقى وحده من يحمل شارة الكونية بامتياز إلى درجة قيل فيه: «إن الإنسان حيوان شاعر..» ولعل مارتن هيدغر اعترف بماهية الشعر واعتبرها مثل حالة من حالات الأعمال الطوارية للإنسان، حيث يحول من اتساع الكون والوجود والزمن في إشعاعة المتزامن في لحظات الشعرية، ويحول أزمانه الفلسفية عبر استنتاجاته واستنباطاته في الصورة الشعرية كحالة من قبالة: «الشعر والفلسفة» بعد انقطاعهم طوال التاريخ، يحتفلون في محيط القصائد الكونية.. وهكذا تحول الشاعر إلى طائر من طيور السماء التي لا حدود لها وهي تمارس الطيران، باحثا عن الأوطان.. وباحثا عن البلدان التي أبعدت العاصفة هويتها، فيغريه الخلود بشكل باهر ليبدع خارج المألوف، ويكتشف بعيدا عن الرتابة، اقصد يقوم بعملية الحفر داخل الذات الكونية، راكبا صهوة الشعور واللاشعور، ومعانقا في ارتجاج اللاوجود انطلاقا من الوجود...