بقلم جيهان لغماري في 17 ديسمبر 2010، بدأت أصوات الاحتجاج العلني تعلو ثمّ سقط حاجز الخوف وانطلق الشارع هادرا بمطلب مركزي «شغل، حرّيّة، كرامة وطنيّة»، سقط الشهداء والجرحى تباعا في تضحية بأغلى ما يملكون حتى هرب رأس النظام. جاءت اعتصامات القصبة ولم تتغيّر المطالب حتى حلّ ركب المجلس التأسيسي كنتيجة «مؤسساتيّة» للمسار الثوري (أو هكذا كنا نعتقد وقتها!). ارتفع سقف الأحلام في المحاسبة العادلة دون تشفّ من قتلة الشهداء ومعذّبي السجناء السياسيين والفاسدين من سرّاق أموال الشعب وتفكيك مراكز النفوذ حتى يصبح تكافؤ الفرص هو المبدأ كبداية للشروع في تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي. إذا ما ازدان كل ما سبق بدستور جامع في ديباجته، ضامن للحريات ومحدِّد لحقوق المواطن وواجباته، مقيِّد للسلطة بنصوص واضحة حتى لا تتغوّل من جديد، ستكون الثورة ثروَةً لكل الأجيال القادمة. مِنْ هنا انطلقنا، واليوم هل وصلنا أو بدأنا في تلمّس المسار الصحيح؟. تبدو الإجابة الساخرة بديهيّة : نعم!، بعد أن ذلّلوا لنا كل الصعوبات وقضوا على كل الخَوَر، وبعد أن عدلوا بين الجهات وشغّلوا كل «البطّالة»، وأتمّوا الدستور وتوافقوا بسرعة في الحوار، ها هم يكدّون بكل جدّ لحلّ «عُقَدِنا» وأخطائنا الغذائية، فأصبحنا بفضلهم نفرّق بين طماطم حلال وقمح باجة في انتظار التحليل ورمان قابس بصنفيْن و«دقلة» النور في توزر سيُطْفَأُ نورها ما لم تشعّ بخَتْم الحلال ولحوم دجاجنا وخرفاننا وأبقارنا ترخص أسعارها وتزيد حسب طابع الحلال من عدمه. هل كنا نسقي بُقُولنا وخضرنا بأنواع الخمور الرديئة ونعطّر أشهى غلالنا بالمشروبات الروحيّة الراقية؟، هل كنا نقدّم لحيواناتنا أكلة شهية من لحم الخنزير ونستعمل برازه وبقاياه سمادا للأرض؟ (للأمانة الصحفية، آلاف المدوّنين في المواقع الافتراضية سبقوني في طرح هذه الأسئلة مع اختلاف في الأسلوب). من النتائج الثورية لهذا الإجراء الثوري هو تسبّبه في التشكيك حتى في بديهياتنا التي طالما اعتبرناها من تحصيل الحاصل، أي أننا نشرب ونأكل ونذبح ونسقي حلالا محلَّلا لأنّ الشرعي (من الشرع) امتزج بالاجتماعي المعيش منذ قرون بشكل لا فكاك منه. هل رأيتم من يخنق الدجاجة قبل أكلها؟ أو يطلق النار على الأضحية عوض ذبحها؟. إنّ المواطن البسيط حين يحمل «قفّته» إلى السوق لا يطرح هذا السؤال إطلاقا لأنها مسألة مفروغ منها ومع ذلك فله طريقة أخرى في الإفتاء سيكون أمرا جيدا لو قبلتموه: كلما انخفضت الأسعار ورحمتْ جيبه المثقوب اعتبرها حلالا، وإذا اشتعلتْ وهذا ما أفلحتم فيه بامتياز، فهي بالنسبة للمواطن حرام بلا نقاش لذلك غالبا ما يكتفي بإشباع ناظريه منها، تصاحب نظراتَه تنهيدة لا يدرك معناها إلاّ من صام عن اللحوم الحمراء والأسماك والغلال الشهية وتنازل مكرَها عن حقه في الاحتفال بعيد الأضحى أو عيد الفطر!. هكذا إذن وببركات الثورة التي حققت سريعا كل أهدافها دفعة واحدة، كان لأصحاب المشهد الحالي شرف اكتشاف مفردة جديدة في سياسة العباد والبلاد، إنها السياسة الحلال!،يعيدون فيها نفس الخيارات التي أثبتت فشلها وكانت الثورة نتاجا لتبعاتها. لقد بدأت السياسة «الحلال» بتجييش النفوس والتغاضي عن ذلك حتى وصلنا للاغتيال تلو الاغتيال وأصبح قتل السياسيّ وذبح جنودنا خبرا تلفزيا عاديا بلا دهشة، شباب طريّ يخرج بسهولة إلى المحرقة السورية، أموال سائلة بالمليارات تتجوّل في البلاد، أخبار عن عمليات إرهابية ممكنة قبل نهاية السنة، حوار بلا نتيجة، ملفاتٌ بشبهة الفساد تحضر وتغيب حسب الظروف وتجديد الولاء. آخر الكلام، هي سياسة.. «حلال» تليق بثورة مغدورة، يا حرام!.