نظريا، نحن أمام حكومة غير متحزّبة ولن يترشح أعضاؤها للانتخابات المقبلة. ما هو المطروح العاجل على الأحزاب ما دامت كلها خارج القَصَبَة؟، هل ستبدأ حملتها الانتخابية من الآن؟ أم ستشرع في بناء هياكلها حتى يليق بها حقا تعريف كلمة «حزب»؟. يبدو أنْ لا شيء تغيّر داخل هذه «المجموعات» وهذا الأمر ينطبق على الجميع بما في ذلك التنظيمات التي تدّعي أنها «كُبرى». فبعد سقوط النظام السابق وحصول كل المجموعات الإيديولوجية المعروفة على الترخيص العلني الحر، ورغم أنّ لأكثرها تجربة غنية في النشاط السري وحلَقاته وتعقيداته، فإنّها لم تستثمر هذا المعطى الإيجابي للشروع في تأسيس حزب حقيقي بهياكل وآليات واضحتيْن حتى تكون فاعلة وخاصة حتى تجعل المواطن البسيط يرتقي بفهمه للحزب لا كيافطة إيديولوجية صدئة وإنما كتنظيم سياسي له برامج واضحة واقتراحات «معيشيّة» بالأساس حتى وإن اختلفت المرجعية الفكرية من حزب إلى آخر. إنّ انتخابات «التأسيسي» لم تكن درسا للأحزاب حتى تراجع شروط تواجدها وها نحن أمام نفس السلوكات في التعامل مع الانتخابات القادمة رغم أنّ المراحل الانتقالية وما شَابَها من أزمات خانقة، أثبتتْ أنّ الخلل الرئيسي يكمن في «المطابخ» الداخلية للأحزاب. كم حزب أقام مؤتمره قبل أكتوبر 2011؟، تقريبا لا أحد لأنّ كلمة السرّ من اليمين إلى اليسار مرورا بالوسط هي «لابد من ترحيل التفاصيل إلى ما بعد الانتخابات»، وكل من يبدي رأيا مخالفا يَطلبون منه تأجيل النقاش حتى لا يستغلّ المنافسون ذلك!. بعد الانتخابات، انغمس الفائزون في الحُكْم وتشعّباته، و«المنهزمون» في دور المعارضة ومتطلباته. وأعاد الفريقان نفس موجة التبريرات لتأجيل الحسم في التوجّهات النهائية لأحزابهما: الفريق الأول يطالب قواعده بعدم الدخول في تفاصيل الأخطاء حتى لا تستغل المعارضة ذلك، وهذه الأخيرة فرضت على أنصارها تأجيل كل النقاشات لأنّ المستعجل كان إسقاط حكومة «الترويكا». في الحالتيْن، يلجأ الفريقان إلى خلق فزّاعة «المهمة العاجلة» كالانتخابات مثلا للحفاظ على الوضع الداخلي دون تغيير حقيقي قد يفجّر الخلافات ويُضعف الحظوظ. النهضة مازالت مترددة وعلى الأرجح ستؤخّر مؤتمرها بتعلّة الاستحقاق الانتخابي، النداء الذي لم يعقد أصلا مؤتمره الأول يحاول الحفاظ داخله على التوازنات بين مكوّناته القادمة من مدارس مختلفة. والجبهة الشعبية كسابقتيْها، عيناها وتكتيكاتها على الانتخابات دون الغوص في سؤال تحوّلها إلى حزب يساري كبير من عدمه أو عن دور المستقلين فيها خاصة وأنّ البعض منهم اختار الابتعاد لضبابية الوضع التنظيمي. ألم يكن حريّا بالأحزاب أن «تفقأ» الدّمّل الداخلي مرّة واحدة رغم الآلام التي ستسببه العملية؟ فأن تكون حاكما بلا مشاكل داخلية أفضل من أن تفاجأ بتراكمها بعد الفوز مما يُلهي الحزب عن دوره كسلطة تمثل الدولة وقد يسقط في فخ الترضيات الترقيعية التي لن يسكت عنها المعارضون. لقد آن الأوان لتتكيّف الأحزاب مع واقع التعددية والحرية وأن تُقْدِم على إعادة بناء هياكلها بعيدا عن المكاسب الآنية لأنّ العمل المتحزّب يتطلّب فنّ إدارة الواقع لا مجرّد منظّرين إيديولوجيين طوباويين.