سياسيون يحلّلون ويجيبون بات من الواضح اليوم ان الخارطة السياسية المحلية تعيش حالة من اعادة التشكل بعد اتساع رقعة الفاعلين السياسيين ببروز الجبهة الدستورية التي اعلنت عن ميلادها بلغة فيها الكثير من الثقة بالنفس والإعتداد بالموروث الدستوري. الآن وقد بدا جليا انصهار الأحزاب ذات المرجعية الدستورية في جبهة واحدة قد تؤذن ببروز قوة انتخابية غير منتظرة، عاد الحديث وبقوة عن مشروع تحصين الثورة من خلال الفصل 15 من القانون الإنتخابي الذي من المرجّح ان يرى النور قريبا وتتم المصادقة عليه فصلا فصلا خلال ايام... فبعد أن خال التونسيون انه قُبر الى الأبد، مع تتالي لقاءات الشيخين الغنوشي والسبسي والإتفاق الضمني الذي طال الحديث عنه عن إلغاء مطالبة النهضة باصدار القانون، تتعالى الدعوات تحت قبة المجلس التأسيسي وخارجها من أجل تمرير الفصل المذكور تحصينا للثورة ضد بعض رموز النظام السابق، الذين يتمسكون بحقهم على التموقع في الساحة السياسية استعدادا لخوض غمار الإنتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة. وبين مؤيد لتمرير مشروع التحصين السياسي، وبين رافض لأي اقصاء من شأنه تقسيم المجتمع الى تيارات وتيارات معادية، يزداد الجدل السياسي على خلفية الظهور الإعلامي المكثف لرموز سياسية عملت في عهد الرئيس المخلوع ثم اختفت من المشهد العام لتعود الى مزاولة العمل السياسي. «التونسية» فتحت ملف التحصين السياسي وتحسست آراء ومواقف عدة وجوه سياسية. لا يبدو ان ل «النهضة» موقفا واضحا ومحددا من المسألة، فبقدر ما يذهب رئيس كتلة الحركة بالمجلس التاسيسي الى اعتبار ان العدالة الإنتقالية هي الفيصل في مثل هذه القضايا السياسية الشائكة، يقول النائب بالمجلس نجيب مراد إن الثورة التي قامت على مكافحة الفساد لن تسمح بعودة رموز الفساد وهم حسب رأيه، المسؤولون التجمعيون الذين كانوا في صدارة من خدموا النظام السابق. وأضاف في هذا الصدد: « لقد تمت مصادرة 647 شركة من املاك الرئيس المخلوع وعائلة اصهاره كما تمت مصادرة 543 عقارا كانت على ملكه ومئات المنقولات الأخرى حيث بلغ حجم الأملاك المصادرة 50 ألف مليار ....فكيف نصادر الأملاك ونسمح للتجمعيين الذين كانوا اكبر مساهم في انتشار الفساد بالعودة الى الحياة السياسية وكأنهم لم يجرموا في حق الشعب وبالتالي نسيء اساءة بالغة الى ارواح الشهداء والى الثورة بصفة عامة؟ اعتقد ان الشعب حسم امره بخصوص عودة التجمعيين الى الحياة السياسية ولم ينخرط معهم في احزابهم باعتبار انهم كانوا له مضطهدين ومعذبين ومهجرين...وستكون صناديق الإقتراع خلال الإنتخابات القادمة خير فرصة للحسم في هذه المسالة.» اما الطاهر هميلة رئيس «حزب الإقلاع» فيرى ان الشعب قال «ديقاج» للتجمع الدستوري الديمقراطي المحلّ يوما واحدا بعد فرار الرئيس المخلوع، مشيرا الى ان الحركة الشعبية الخالية من الأحزاب السياسية والتي قادها الشعب بمفرده باعتبار ان المعارضة كانت وقتها تسير في فلك بن علي، حسمت امرها منذ الثورة ولم يعد التونسيون يرضون بوجود التجمعيين في الحياة السياسية. ويضيف الطاهر هميلة في هذا الصدد: « جاءت الفترة الإنتقالية الأولى بقيادة الباجي قائد السبسي وكانت حكومته مؤمنة بالثورة، ولكنها اساءت اليها واجهضتها تماما ..فالسبسي لم يصلح شيئا بل افسد كل شيء. شخصيا ارى ان تحصين الثورة لا يمكن ان يكون الا اخلاقيا،، والتجمعيون الذين قال لهم الشعب «ديقاج» عليهم ان يتفهموا الدعوة وينسحبوا عن طواعية وبذلك يكونوا قد قدموا خدمة للبلاد، ولنترك الشعب يحكم عبر صناديق الإقتراع». محمد بنور الناطق الرسمي باسم حزب «التكتل من اجل العمل والحريات» اعتبر من جهته، أن التجمعيين لهم مسؤولية سياسية بالدرجة الأولى، مضيفا أنهم لم يوجدوا في شارع الحبيب بورقيبة يوم 14 جانفي 2014 للمشاركة في الثورة كما يزعمون. وأكد بنور ان الفساد في عهد بن علي كان مستشريا في التجمع بشكل رهيب ..» مضيفا: «التجمع اقدم على اعمال سياسية اجرامية حيث تسلل الى احزاب المعارضة وسعى الى تفتيتها من الداخل». واستطرد بنّور قائلا : جرائم التجمع سياسية بالأساس ولذلك برأهم القضاء لغياب صبغة الجنائية منها ..واعتبر انه من التطرف والإجحاف ان نقول إن كل تجمعي هو بالضرورة فاسد وبالتالي وجب اقصاؤه ومن الإجحاف الإقرار ببراءة كل تجمعي ايضا. وهنا لا انفي مسؤولية كافة الأحزاب التي تعاقبت على الحكم بعد الثورة ولم تحسم الأمر.... وانا بطبعي ضد العقاب الجماعي. ولابد من الاعتراف بأن الشعب التونسي له من الذكاء والفطنة ما يجعله يفرق بين الغث والسمين وبين من اساء اليه ومن تضرر معه، ولذلك فالقول بأن الانتخابات القادمة وما سيختاره الشعب هما الفيصل في هذه المسألة اسلم رد فعل على مشروع قانون تحصين الثورة حسب رأيي». أمّا السيد محمد القوماني الأمين العام لحزب «الإصلاح والتنمية» فقال في هذا السياق: « امام تأخر مسار المحاسبة باعتباره احد استحقاقات الثورة والذي تتحمل فيه الحكومات السابقة المسؤولية، ولأن العدالة الإنتقالية باعتبارها الخيار الأفضل للمحاسبة والمصالحة بتحميل المسؤولية السياسية والجنائية لمن اجرموا في حق الشعب في المرحلة السابقة، واعادة الحقوق والإعتبار للضحايا،،،،فإن هذه العدالة» الإنتقالية التي تأخر وضع قانونها ولن يكون لها مفعول الا بعد الإنتخابات القادمة اذ تحتاج هيئة الحقيقة والكرامة الى 6 اشهر على الأقل لتبدأ عملها الفعلي بعد تشكيلها، ولأن الثورات تحتاج في مراحلها الأولى الى حد ادنى من التحصين السياسي ضد من يملكون الشبكات القديمة المالية والإعلامية والتنظيمية، فاننا نرى في حزب «الإصلاح والتنمية» ان القانون الإنتخابي يجب ان يتضمن فصلا خاصا بالإنتخابات القادمة يمنع ترشح القيادات السياسية في «التجمع» وفي السلطة ...وحتى يتم احترام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ولا يكون العقاب جماعيا ،فإن المجلس التاسيسي يمكنه ان يضبط قائمة اسمية من بين من تحملوا مسؤوليات في الحكومة وفي القيادة المركزية ل «التجمع المحلّ».. ويكون هذا الإجراء تحفظيا وخاصا بالإنتخابات القادمة فقط في انتظار ان تأخذ العدالة مجراها .. ونحن في حزب «الإصلاح والتنمية» ندعم توجها لا يوسع دائرة الممنوعين ولا يتناقض مع الحقوق الدستورية للمواطنين. من جهته قال استاذ القانون الدستوري الأستاذ قيس سعيد في تعليقه على هذا الجدل: « يتعلق الأمر بمقاربة مبدئية لهذه المسألة ...والقرار يجب ان يكون للشعب وذلك باعتماد طريقة الإقتراع على الأفراد في دوائر انتخابية ضيقة. ففي ظل هذا النظام الإنتخابي سيعرف الناخب التونسي من سينتخب ومن سيقصي وسيعزل .اما ما حصل منذ اكثر من سنتين فلم تكن المقاربة مبدئية بل كانت بحثا عن توازنات سياسية . والدليل على ذلك ان من كان يرحب بالإقصاء عام 2011 صار يندد به بعد انتخابات 2011. ثم ان هذا المشروع يتم اخراجه من الرفوف ليعود ويختفي من جديد ...وهو دليل اضافي على ان المسألة عند عدد غير قليل من الأطراف السياسية مسألة غير مبدئية. والحل مرة أخرى يجب ان يترك للشعب ولكن في ظل نظام الإقتراع على الأفراد في دوائر انتخابية لا تتجاوز حدود المعتمدية. على صعيد آخر هذا الوضع اليوم هو نتيجة لتأخر العدالة الإنتقالية ...فلو بادر المجلس الوطني التأسيسي فجر انتخابه، بسن القانون المتعلق بالعدالة الإنتقالية لكانت الأوضاع افضل في تونس مما هي عليه الآن ...فالعدالة لم تنطلق بعد والإنتقال يتعثر نتيجة لهذه الأوضاع. من جهته بين الأمين العام ل «التحالف الديمقراطي» محمد الحامدي أن وجود الرموز التقليدية ل «التجمع» في الانتخابات القادمة يعتبر مسألة مقلقة وتُمثل مشكلا أخلاقيا. واضاف الحامدي: «اليوم نرى وجوها بدعوى الإخفاقات الموجودة في الحاضر تمارس عملية تبييض للنظام البائد”، مشيرا إلى أن المسألة فيها تعقيدات قانونية وسياسية. ولاحظ الحامدي أنه يُفضل أن يكون العقاب سياسيا وشعبيا، وان يحسم الشعب المسألة في الانتخابات مرجعا الإشكال إلى تأخر اصدار قانون العدالة الإنتقالية. اما حركة «نداء تونس» التي تضم في قاعدتها ومكتبها التنفيذي نسبة كبيرة من السياسيين الذين عملوا او تعاملوا مع النظام السابق، فموقفها واضح سبق ان اعلن عنه رئيس الحزب ومؤسسه الباجي قائد السبسي رئيس الحكومة السابق حيث ابرز في تصريحات صحفية أن حزبه لن يسمح بإقصاء الدستوريين المنتسبين إلى الحزب الإشتراكي الدستوري وحزب التجمع الدستوري المحلّ، من الحياة السياسية عبر قانون تحصين الثورة مؤكدا أن تونس تتسع لكل أبنائها وأنه ليس من حق أي حزب كان أن يدير البلاد بمفرده بما في ذلك حركة «النهضة» مشيرا إلى أن الحل يكمن في التوافق بين كل الأحزاب مضيفا أن الدستوريين هم من أسهموا في تحرير البلاد وبناء الدولة التونسية الحديثة وأنهم في تونس أصحاب أملاك وليسوا متسوغين عند «النهضة» على حدّ تعبيره .