لم تبلغ بلادنا بعد مرحلة «إدارة التوحش»، ولكن البعض يسير بها تدريجيا في اتجاه خلق مناطق «إدارة التوحش». ان ادارة التوحش هي رديف ادارة الفوضى، وادارة التوحش هو مفهوم طوّره أبو بكر ناجي الاسم الحركي لأبرز منظّري «القاعدة» الجدد، ويقوم هذا المفهوم بالاساس على تفكيك الدولة في مناطق مستهدفة اي تفكيك مؤسساتها وأجهزتها وشلها وخلق فراغ كامل يعود بسكان هذه المناطق الى ما يشبه المجتمعات البدائية المتوشحة بما يهيء الارضية الملائمة لخلق نواتات لادارة هذه المناطق ذاتيا وفق قواعد «الشريعة» كخطوة اولى نحو بناء الدولة الاسلامية. تعيش تونس حاليا المرحلة الاولى من مرحلة ادارة التوحش وهي مرحلة النكاية والانهاك والتهرئة على قاعدة شعار «الدم بالدم والهدم بالهدم». أمنيّا وعسكريا بات من الواضح ان جهة القصرين، مدينة وأريافا مستهدفة لأن تكون أولى مناطق ادارة التوحش في بلادنا لاعتبارات جغرافية وسياسية واجتماعية، وحسب بعض التقاطعات كذلك لاعتبارات ما يزال يلفّها الغموض حول ما جرى في الجهة خلال انتفاضة 17 ديسمبر 2010، مثلما بات من الواضح ان الجنوب التونسي اصبح منطقة توحش اقتصادي بعد ان خرج عن سيطرة الدولة بسقوطه بين احضان الارهاب الاقتصادي. تكشف عملية القصرين الجبانة عن ثغرات أمنية جديدة في التعاطي مع ظاهرة الارهاب تطرح اكثر من سؤال حول قياس الفعالية، فعالية التدخل، فعالية التنسيق بين مختلف الاجهزة الأمنية والعسكرية المتدخلة وفعالية الامكانيات الموضوعة على ذمة الأمن والجيش. تترجم عملية القصرين كأفضل ما يكون مقولة ابي بكر ناجي في الصفحة 26 من كتابه إدارة التوحش «إضرب بقوتك الضاربة وبأقصى قوة لديك في اكثر نقاط العدو ضعفا». ان ارهابيي القصرين بصرف النظر عن الجهة التي يأتمرون بأوامرها يدركون جيدا ان السيد وزير الداخلية غير متواجد ليلتها مع عائلته في بيت العائلة بالقصرين وبالتالي ليس ثمة اسهل من استهداف فريق حراسة البيت بكل اريحية وهو ما حصل بالفعل. ولكن الملفت للانتباه ان هذه العملية الارهابية سبقها: 1) تمويه «ذكيّ» من خلال تسريب خلال الايام الاخيرة لمخططات اغتيال مؤكدة همت في البداية الشيخ راشد الغنوشي، ثم السيد علي لعريض لتحصل العملية امام بيت السيد وزير الداخلية في القصرين. 2) اطلاق ألعاب نارية مباشرة قبل تنفيذ العملية وهي نفس الالعاب النارية التي ألفنا سماع صوتها طوال الصائفة الماضية في احياء معينة بمدن تونسية عديدة في ظلّ لا مبالاة الجهات المختصة. في تعاطينا مع ظاهرة الارهاب غابت في البداية خطة الوقاية والتحصين من مخاطرها وتغيب اليوم الخطة الشاملة والمتكاملة في مواجهة الظاهرة وحضرت الضربات الاستباقية الناجحة على ضوء ما يتوفر لبعض الاجهزة الأمنية من معلومات استخباراتية وعلى ضوء اعترافات بعض الموقوفين من المشتبه بهم. تحمل عملية القصرين العديد من الوسائل الواضحة والمشفّرة لعلّ أهمها رسالة مشخصة الى كل من رئيس الحكومة المؤقتة والى الوزير المكلف بالملف الأمني عنوانها التحدي وليّ الذراع ولا يهمّ من تكون الضحية، فالمهم الدم والرعب. مرة اخرى يؤكد المنتسبون الى المؤسستين الأمنية والعسكرية على ارتفاع معنوياتهم، فقدرهم في محاربة الارهاب ان تكون معنوياتهم مرتفعة أسوة بنظرائهم في الجزائر ومصر وسوريا وليبيا واليمن إلخ.. ولكن هل يكفي ان تكون معنويات أمنيينا وعسكريينا مرتفعة حتى نتجاوز مرحلة توسع ظاهرة الارهاب بأخف الاضرار؟ واذا كانت معنويات أمنيينا وعسكريينا مرتفعة، فمن سينتشل الشارع التونسي من حالة الاحباط التي هو عليها؟ واذا كان الارهاب يدفع بنا تدريجيا نحو ادارة التوحش، فمن سيدفع في المقابل الى ادارة جديدة وناجعة للأزمة؟