بداية عام جديد ولا شيء جديد. الثلج يهطل متكاسلا. حليب اللّوز يقطر من نهد غانية جبليّة لكن الشهوة ماتت في أجساد المحاربين المنهكين. الطين تسربل بغطاء العاج. جبال الكاف شامخة كعادتها ترخي خدّها للنمش الأبيض. رائحة العشق والخمر تفوح بين أزقة الكاف.«أرفقتُ بنفسي، لأنّي لم أجد غيرها، أين حديقة الحيوانات؟ أريد أن أتنزّه وأمتّع ناظريّ بذئب جبل الأطلس، آخر سلالته. أجلس على صخرة الشطرنج المحاذية لقفص ببغاء حفظ غناء جبال الكافالعالية. أشرب كأس شاي بالنعناع، في صحّة من أهملتهم. لم أفز بمن يرشدني إلى العنوان». «كوزكي»، النص الحدث للمؤلّف التّونسي توفيق بن بريك، صدر مؤخّرا عن دار الجنوب للطباعة والنّشر. يأتي المُؤَلَّفُ في كتاب من 160 صفحة قدّمه الجامعي والباحث في الأدب العربي الأستاذ حسين الواد. العديد من النّقّاد اعتبروا أن «كوزكي» كتاب فريد في الأدب التّونسي والعربي. فريد من حيث المحتوى وأسلوب الكتابة. محاولة لتغيير الصّورة النمطيّة للكتاب العربي. «كوزكي» ليس قصّة كلاسيكيّة أو رواية واقعيّة أو نصّا فكريا أكاديميّا. «كوزكي» نص مهبول، يكسر أسوار الواقعيّة ويحلّق فوق عش المجانين. كل شيء يخلق في الحين. المدن القديمة تندثر وتنمو على أنقاضها مدن جديدة، طاطاوين ونيوطاجروين. يعيد الكاتب هيكلة المجال الجغرافيّ. يصوّر خريطة البلاد على مزاجه. يعيد خلق الوجوه والصّور والشخصيّات والأحداث. «من كل النّواحي، من الفوق والتحت، من اليمين والشمال، يحجّون إلى نْيُوطاجروين، رحلة الشتاء والصّيف، عكاظ مترامي الأطراف، سوق الأربعاء كل يوم حتّى الثلاثاء». لا أريد أن أسرد تفاصيل الكتاب لكن القصّة تبدأ بسقوط عرش طاطا، خرج عرش طاطا يجرّ الخيبة. دفناه في قبر جماعيّ. رابطنا في الحصن ليالي بيض في انتظار الغزو، غزو التتار المرتقب، كما في صحراء التتار، التي تعود إلى طاطاوين، بشيء من التشويه وخروج همّام، والد التوأم علي وعمّار، المعلّم بمدرسة النّور الابتدائيّة. يركب درّاجته «كوزكي» هاربا من طاطاوين باحثا عن خلاص البشريّة في جبال الشّمال الغربيّ. يتوحّد الإنسان بالدّراجة فتنبض فيها الرّوح وينطلق «كوزكي» في رحلة البحث عن الحرف الضّائع من الأبجدية، حرف الطّاد المخبئ منذ عهد زغلام الأول، في غار الثعلب بمائدة يوغرطا، «نَجْدُ صخرة مقطوعة عن الأطلس، نيزك سقط من عطارد، تحكي لك عن يوغرطا، سيّد الطائين. هبّ الكركدن على جحافل روما وكَبَا». هذا الحرف الذي سيخلّص البشريّة ويكشف الحقيقة الأولى. يرحل همّام تاركا ابنه علي، الرّجل الثّائر يحضّر لمعركة التحرير، يقيم التحالفات ويستعين بتسان تسو في رسم الخطط. الكائنات الغريبة احتلّت سهل الأرانب، سحرة ومشعوذون وفضائيّون وعصابات خنازير وأبطال أفلام الخيال العلمي تجوب الأرجاء. «أعلام طاطاوين مرفوعة على الخيام. مغاوير الصّين ومشاة الهند الشعبيّة وفرسان القوزاق وخيّالة أولاد عيّار الأشاوس وجيش تحرير الجزائر والبشمركه. المفاوضات حثيثة بين وحوش أدغال الأمازون وأشجار البلنز المعمّرة وثلج قطب الشمال والمحيطات، من أجل الالتحاق بالتحالف وإبرام معاهدة النّصرة بلا تحفّظ. دخول الطير والنّحل والنّمل سيكون بمثابة دخول خالد إلى الدين الحنيف. الورقة الخفيّة التي ستغيّر ميزان القوى. نحتاج إلى الزّلزال، إلى البركان، نحتاج حتّى لأثر الفراشة، للبخت، للربّ، للسحر إن لزم الأمر. المعركة غير محسومة». يسقط علي في فخ نفسه ويعود همّام ليجد عمّار، ابنه المتخاذل، الذي سحقته الحياة وطلبات زهره زوجته قد كشف السّر. هذه الرّحلة التي يخوضها همّام أو «كوزكي»، هي بالأساس صراع الكاتب مع قلقه. قلقه تجاه الفكرة الحرّة. هذه المرويّة تلخّص في مراوحة بين اللّغتين العربيّة والعاميّة وجهة نظر الكاتب في عديد المواضيع. الثورة والسّلطة والدّولة وأنوار المدينة والبحث عن الحب ومعضلة الكتابة وصراع الآباء والأبناء والصمود أمام قسوة الحياة اليوميّة، كلها مواضيع تحدّث فيها «كوزكي» بأسلوب طريف ينزع عن الأفكار العميقة هالتها الأكاديميّة ويلبسها خطابا سلسا. خطاب أدبي صوفيّ بلمسة القرن الواحد والعشرين. «ضاع الفهم واختلطت قصص الحكاية وافترقت السبل وانقلبت الاتجاهات والوجهات كألواح مصحف بعثرها الماء. محمد علي هناك وعمّار هنا. أين الميم من العين؟ أين اليقين من الشمال؟ أين الصبح من العشاء؟ التوأم الملتصق، قبلة سؤوم. لا أدري مَنْ هو مِنْ هو؟ هو هو. وجه التوأم شفع ووتر. لا حلّ للمسألة. السؤال لا يسأل؟ همّام عطشان؟». من الفريد أن نكتشف في شخصيّة توفيق بن بريك هذا البعد الصّوفي الذي يعبّر عن تشبّثه بالموروث العربي الإسلامي من خلال الشواهد القرآنية والأدبيّة التي يقوم عليها النّص. «كوزكي» إن صح التعبير فنطازيا صوفيّة.