لقد تابعت ما كتبت «الشعب» على صفحاتها الرياضية، والحقيقة اني لا اترك أي شيء يكتب عن مدينة الكاف واهل الكاف.. ولمن لا يعرف هذه المدينة جيدا اقول هي مدينة تستقبلك بفم يبشرك بالابتسامة قبل ان يتفوه بالكلمة وهي مع ذلك مدينة حاسمة تجعلك تحبها فورا او تكرهها فورا فلا تترك المجال لزائرها ان يمارس حقه في الاختيار يختار.. الكاف هي عندي ثقل الماضي وموجعات السنين فيها ولدت وفي حاراتها وازقتها ودروبها زرعت ذكرياتي وتحت اقواسها وقبابها افنيت أحلى ايام الصبا والشباب فهي مسقط الرأس والقلب معا.. ولا عجب فالكاف مدينة العشق الملتهب وانا احملها في قلبي طوال عمري... لقد قرأت ما كتبت «الشعب» الرياضي عن «الشق» شقرون فأعادت له الروح وانعشته بعد ان غيبه الرسميون زمنا طويلا وهو في هذه المرحلة من العمر وما يصحبها من متاعب الصحة واثر الاعوام.. وكتبت عن غيره ممن وضعوا لبنة تزيد في شموخ هذه المدينة النائمة تحت الجبل المقدس «ازرو» في لغة النوميديين «والدير» عندنا اليوم... وكم كانت نشوتي كبيرة بالحديث عن جيل الوعي والسعي وسطوة الرواد دون الخروج عن الحدود المستساغة وقواعد اللياقة وقد ذهبوا اليوم تحت كل كوكب.. وكما قال ماركيز: اننا لا نموت بالشيخوخة وإنما بالنسيان. لقد حركت هذه الصفحات سواكن الذكريات فيّ وقد جايلت الكثير منهم وانا في سنوات العمر الاولى بمنزلنا «بالمصلى» على اعتاب «بومخلوف» أو تلميذا بياتا بثانوية المعهد المختلط قادما هذه المرة من طين «عقلة شارن» سيدة الحرث والزرع وواهبة البايات أمهم الاولى «قفصية بنت الغزالي الشارني».. ومع إعجابي بي بهذا الجانب الرياضي المشرف فاني اود الخوض في الجانب الثاني للمعادلة وكله فخر لقلعة يوغرطا في حربه ضد الرومان ولحصن البزنطيين امام ثورات البربر وشقبنارية تؤوي العرب الفاتحين وتزودهم بالقمح والعسل والسمن والتين... هذا الجانب هو الجانب الثقافي.. وهو الاقرب الى قلبي ووجداني.. لقد تذكرت فرقة «اولاد بو مخلوف» و»البازيليك» وبزوغ شمس الفرق المتلزمة تشق وعر المسالك وتنحت مكانا لها تحت الشمس.. هذه الفرق التي كثيرا ما رددت: اجْبالْ الكافالعاليهْ فيك يا احبال انشوفْ انشوف السيولة ماليهْ فيك ما انحس بخوفْ اتذكر «ولد العياري» ينافس «ولد شتته» وهو يشاكس اوتار قيتارته بأنامل من نار.. لست ادري الى أين انتهت هذه الفرق واين مضت بالمنتسبين اليها راحلة الحياة.. اذ تذكر ضرير باب غدر الشيخ الطزطاز يشدو ويحرك بانامل من حرير عوده وقد اخذت منه النشوة كل مأخذ فيسبح في عوالم سامية فيصبح رقيقا مجوفا كشبابة يتمايل ذات اليمين وذات الشمال رافعا خافضا رأسه كمن اصابه مس من الجنون... فنسأله عن سحر الغناء فيجيب: هو نعم المعين على طاعة الله... اتذكر فرقنا الموسيقية التلمذية وموشحاتها الجميلة: هيّا الى حومتنا نمشي لانها حومة الملاحْ فيها البنفسج مدّ عرشه وكلّل الزّهر باللقاحْ اتذكر الفنان المبدع العربي القلمامي يشنف الاذان برائعته «راعي النحيفة» وهي الفرس السريعة التي يشن عليها الفارس الغارة ويمد المغيرين... اتذكر واتذكر واحن الى ماض لم يمض وهو منغرز في وجداني وكياني كالوشم.. واليوم... اليوم اتحدث بكل الاعجاب والفخر عن سناجة الكافية الاستاذ الدكتور محمد التليلي «ارنوب دوسيكا» 303م Arnobe de sicca اديب الكاف وابنها البار في عصرنا الحديث الذي نعتز به ككافية ونثمن عاليا ما يبذله من جهد للتعريف بالكاف في صراع يومي لا يتوقف من اجل ابراز معالمها الاثرية والتصدي لعملية البتر التاريخي الذي طالما طال مدينتنا من قبل «مؤرخي يوم الاحد» فكان له الفضل الكبير في التمهيد لادراج كامل الجهة في المسلك السياحي خاصة وعراقة الكاف وتأصلها ضارب في اعمق اعماق التاريخ ولا ينكره الا من استوفى جميع الرذائل.. فواجبي ان اشكره واشد على يده وادعو له بالصحة والعافية خدمة لكرامة وكبرياء مدينة الكاف وكم اتمنى ان اراه يكرّم في مناسبة من المناسبات وذلك من باب الانصاف والاعتراف... أو على راس برلمان المؤرخين اذ احدث يوما كما هو في المانيا اليوم... وقبل ان انهي، عتبي على ابني محمد العياري الذي كتب على اعمدة «الشعب» فحرك فيّ السواكن وانا اعيش اعالي الشيخوخة وارذل العمر (تجاوزت الخمسين) وما تحمله هذه السنّ من تعب... والحقيقة اني تطهرت بهذه الكتابات كما يتطهر الهندوس بالنهر المقدس، وأرحت في ظلالها راحلتي وتذكرت الشباب ودار الشباب بالكاف ومديرها السيد بوعلاق الذي اذكره بكل الخير ولست أدري الى أي مرفإ قد انتهت به سفينة الأيام وقد يكون اخذته السياسة من الثقافة شأنه شأن السيد خالد الورتاني صاحب الفضل في بعث نادي السينما وما التهبت به اركانه من نقاشات كان لها الاثر البالغ في تكوين جيل باكمله... سامحك الله يا بني قلبت مواجعي واججت جمرة بصدري واعدتني الى ماض جميل اتذكره فاتألم وحالي حال من يطارد عصفورين ويفقدهما معا.. فاقول ما قال الشاعر: اهكذا ابدا تمضي امانينا نطوي الحياة وليل الموت يطوينا تجري بنا سفن الاعمار ماخرة بحر الوجود ولا نلقي مراسينا