يكاد يكون الجزم بأن المشهد السياسي مريض، من المسلمات غير القابلة للدّحض أو التشكيك أو حتى خوض النقاش فيها والجدال بشأنها، فوحدهم قادة الأحزاب وحواشيهم من يحاولون توصيف الحالة بالصحيّة والايجابية في محاولة منهم لحجب ما ظهر عنهم من عيوب وتجميل آثار التشوّه بلون وردي فردوسي، فيما تكتوي عامة الناس بجحيم الوصوليين والانتهازيين و«المصلحجيين» وسماسرة الانتخابات... أو هكذا هم معظم السّاسة في عيون الجماهير بعد تجربتين انتخابيتين شهد لهما بالنزاهة والشفافية والمصداقية. فعلى الرغم من مرور أكثر من 4 سنوات على بدء تجربة الانتقال الديمقراطي التونسي السبّاقة والفريدة من نوعها، يبدو أن اغلب الأحزاب المكونة للمشهد السياسي لم تقو بعد على تجاوز مرحلة الميلاد العسيرة والمتعثرة لتصبح ناضجة بما فيه الكفاية ولم نلحظ أي تطور نوعي على مستوى الأداء السياسي ، هذا ان لم نقل أن وضع هذه الأحزاب ودرجة نشاطها في ظل نظام الحزب الواحد،على الرغم من القمع والتضييق اللذين عاناهما اغلب قياداتها وأعضائها وحتى المتعاطفين معها، كانا أفضل بكثير مما هي عليه اليوم. من 8 إلى 105 أحزاب بعد الثورة، ارتفع عدد الأحزاب السياسية المتمكنة من تراخيص العمل القانوني في تونس ،حسب بيان صدر عن وزارة الداخلية التونسية آنذاك، إلى ما يزيد عن 100 حزب منها 8 أحزاب فقط كانت تمارس العمل السياسي القانوني ،علاوة على رفض الداخلية الترخيص ل 145 حزبا بسبب عدم تطابقها مع الشروط الواردة في قانون الأحزاب (الصادر سنة 1988) والذي يحظر تأسيس أحزاب على أساس ديني أو جهوي أو عرقي، أو قيام أحزاب تتشابه برامجها مع برامج أحزاب قائمة. والذي قد يحتاج إلى تنقيح جديد يتلاءم مع المتغيرات لينص مثلا على «التراخيص قصيرة المدى» تمنح لأيام معدودة إبان كل موعد انتخابي. ارتفاع عدد الأحزاب غير المسبوق وتدافع المئات من المواطنين للحصول على تراخيص أحزاب جديدة، قابلهما في الطرف المقابل موقف سلبي ورفض شعبي كبيرين،حيث اظهر استطلاع للرأي أعدّه «معهد البحوث الإحصائية وتحليل المعطيات» آنذاك ، أن ٪68 من المستطلعة آراؤهم يعارضون الترخيص لمزيد من الأحزاب فيما اعتبر حوالي ٪65 أداء الأحزاب الموجودة على الساحة غير ناجع، وقال ٪60 إنهم غير منخرطين في أي حزب ،فيما صرّح نحو ٪49 أنه لا وجود لأيّ حزب يمثّلهم أو يتماشى مع توجهاتهم وقناعاتهم. فيما أشار ٪36 إلى أنهم لا يعرفون اسم أي حزب سياسي في تونس، مقابل ٪30 قالوا إنهم يعرفون ما بين حزب واحد وثلاثة أحزاب على أقصى تقدير. كما وصفت غالبية هذه الأحزاب، ب«الافتراضية» والأحزاب «النخبوية والفئوية والمبنية على أساس القرابة العائلية والعلاقات الشخصية والفقيرة على صعيد البرامج السياسية والاجتماعية». لهثا وراء منحة التمويل العمومي و إلى جانب حالة الكبت السياسي التي كان يعاني منها المجتمع التونسي، فقد برر، المحللون سبب هذا التزايد غير المسبوق في عدد الأحزاب ب«لهث» عدد من القائمين عليها وراء منحة التمويل العمومي للحملات الانتخابية،علما وأن مجموع التمويلات والاعتمادات التي خصصت للمترشحين من خزينة الدولة لتمويل حملاتهم، إضافة إلى سعي بعض الأحزاب التي تعاني من مرض الزعامة إلى «الانقضاض على الحكم» من خلال التركيز على الدعاية للزعيم بخطابات خشبية موغلة في الطوباوية وبعيدة كل البعد عن انتظارات الشعب واستحقاقات المرحلة. هدوء ما قبل العاصفة وبعد كل اللّخبطة والتشتت في الأصوات اللذين ميزا انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 ،عوقبت لأجلهما الأحزاب الفتيّة بعد ان ركز الناخبون التصويت على الأحزاب العتيقة والفاعلة في الساحة السياسية قبل الثورة ومنحها ثقتهم دون غيرها،هدأت العاصفة الحزبية الهوجاء ولو إلى حين... ففي حين قرر عدد قليل من الأحزاب الوقوف عند أخطاء الماضي والبحث عن تحالفات وانصهارات تحضيرا لقادم المواعيد الانتخابية، دخلت أحزاب أخرى كثيرة في سبات عميق دام لسنوات ،قبل أن تستيقظ في اليوم الأخير من تقديم الترشحات للانتخابات التشريعية لسنة 2014 قصد إيداع مطالب الترشحات، مسجلة بذلك ارتفاعا مهولا في عدد القائمات بلغ حوالي 1500 قائمة...فكان أن تكرر ذات سيناريو الاكتظاظ الحزبي الذي عرفته انتخابات المجلس التأسيسي في 2011. وعادت حليمة إلى عادتها القديمة وحتى بعد العقاب الجماعي الذي صدّت به في مناسبتين انتخابيتين لتقاعسها وخمولها وسوء سلوكها السياسي، يبدو أن أحزابا كثيرة تأبى أن تستخلص العبرة من أخطاء الماضي وأن تخفف عن الساحة السياسية حمل شوائب وعوالق تضرّ بها أكثر مما تنفع، خاصة وأن كل مؤشرات الركود والخمول السياسيين اللذين يميزان الساحة بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الاخيرة ...بدأت تنذر بعودة حليمة إلى عادتها القديمة...فعدى بعض الاحزاب التي يمكن عدها على اصابع اليد الواحدة،جمّدت البقيّة نشاطها السياسي واغلقت ابوابها في انتظار موعد الانتخابات القادمة...فهل هي احزاب سياسية ام دكاكين تمعشية مرتبطة بالمواعيد الانتخابية؟ ام هي ضرب من ضروب الاستهتار المفضوح بعقول الساكنة؟.أرجو ألا تنسى تلك الأحزاب غلق معرفها الجبائي بعد كلّ انتخابات حتى لا تضطر إلى دفع خطايا التأخير.