طبيعة الحوار الاجتماعي ستحول دون أيّ إصلاح سياسة «التقتير» في التعيينات أوقعت الحكومة في «نيران الشيطنة» ما حكاية «حقائب الظهر».. والتواتر الغريب للأجانب ؟ بقلم: فؤاد العجرودي لم يلتقط قطاع الأعمال بعد رسالة قوية تعيد إليه روح المجازفة لتعود عجلة الاقتصاد إلى الدوران وتنهر بعيدا شبح سيناريو «اليونان 2» المخيف والذي بات على مرمى حجر من الأوضاع في تونس لو تواصل منحى الجنون بذات المنسوب. بل أكاد أجزم أنّ قطاع الأعمال في تونس قادر على إغداق الكثير على كلّ شبر من ترابها لولا تلك الضبابية المخيفة التي لا تزال جاثمة على أوضاع البلاد بشكل يدفع إلى طرح مليون سؤال تراوح منطلقاتها بين الإقرار والإنكار بعد أن خلنا بعيد الانتخابات أن ذاك الصنم الكريه والظالم قد تفكّك إلى ذرات. اختلاس مشهد الحكومة وهي «تختلس» واحدا من أوكد حقوقها وواجباتها معا معطية الانطباع بأنها طريدة مغلوبة على أمرها وغير قادرة على التخلّص من براثن «التردّد» المقيت.. هو أوّل عنوان للضبابية التي تلف أوضاع البلاد مستنسخة «سور الصّين العظيم».. بين حاضرنا المحير والغد الأفضل. ومأتى هذا الاستنتاج هو ذاك «التقتير» الذي انتهجته الحكومة في إخراج كفاءات الدولة من الثلاجة والذي جعلها تتدرج شيئا فشيئا نحو «حقل نيران» الشيطنة التي لا يعلم كيف انفجرت مجددا بشكل حطم الأرقام القياسية التي أدركها منسوب الشيطنة بدايات 2011 رغم اقتناع شرائح واسعة أنّ الأزمة التونسية هي في عمقها أزمة كفاءات. بمعنى آخر أنّ وضع المئات من كفاءات الدولة في الثلاجة أو تحويل وجهتهم إلى مواقع ليست من اختصاصهم إن غباء أو نتيجة تدافع محموم على الكراسي.. قد أدى آليا إلى ضرب أركان نجاعة ويقظة الدولة وبالتالي أهم معايير ما يعرف ب«هيبة الدولة» التي تأسست منذ الأزل على مدى توفقها في توفير الاستقرار. والازدهار وأمام ثقل دور الدولة في منظومة التنمية بكل أبعادها فقد أدى الضرب المبرح الذي لقيته على مدى الرباعية الأخيرة إلى ارتداد مخيف إلى الوراء كاد ينسف مكتسبات حضارية وتنموية ترسّخت حجرا تلو الآخر على مدى ستة عقود. هذا التشخيص الذي يفترض أن يكون ملكا على «الشياع» تشترك فيه أغلب مكوّنات المجتمع كان يتطلّب بالضرورة أن تقوم الحكومة الناشئة بتحديد آلياتها ومنها «خزان الكفاءات» الذي تحتاجه لزحزحة الميراث الثقيل.. قبل حتى أن تضبط أولوياتها الخمسة. ولو بادرت الحكومة منذ اليوم الأوّل بإعلان مراجعة شاملة للمواقع الحساسة في أعلى هرم الدولة والسلطة الجهوية والمحلية.. وعولت بالدرجة الأولى على ما سيحدثه هذا الخيار من تحول تدريجي في حياة الناس يوسع دائرة المقتنعين بأدائها... لما ارتفعت مجددا تلك السمفونية الآثمة التي تربكها اليوم وتغرقها في التهميش الذي سيستنزف الكثير من وقت الحكومة وجهدها ويقلص بالتالي من فرص توفقها في قلب الأوضاع. تجارة شنطة ؟ بل إنّ المفارقة الكبرى أنّ الحكومة لم تنتبه أصلا إلى أنّ حيزا هاما من التهميش ناتج عن تواصل حالة «الانفلات» داخل أروقتها التي مازالت تنشط فيها «تجارة الشنطة» و«الدروس الخصوصية» مختزلا أساسا في «مستشارين» يبيعون المعلومة قبل إدراجها في الهرم الإداري أو جعلها على ذمة كلّ وسائل الإعلام في ذات الميعاد وبكل شفافية.. وهو معطى عدم احترام يهز صورة الدولة التي يفترض أن يعمل في دواليبها من يرضى بقواعد اللعبة: الدولة تمنح الاحترام أما من يطمح إلى رغد العيش وهو حق مشروع فعليه أن يكون صريحا مع ذاته ويتوجه إلى القطاع الخاص أو خارج البلاد. الخطأ الجسيم الثاني الذي ارتكبته الحكومة هو الصمت وعدم ملازمة خطاب يتلاءم مع طبيعة المهمّة شبه المستحيلة التي قبلت بها.. وعدم مصارحة الناس بأنّ المحطة القادمة ستكون سيناريو شبيها بأزمة اليونان ستكون له فاتورة اجتماعية ثقيلة خاصة خفض الأجور وتسريح جحافل من العمّال. ولو التزمت الحكومة بهذا الخطاب لعرف الجميع أنّ تواصل المعاناة من ضغط المعيشة إلى أن تتحسّن الأوضاع، هو أفضل بكثير من فقدان محتمل لمورد الرزق وتخفيض اضطراري للأجور يزيد القدرة الشرائية تدهورا. بل إنه كان من المفيد القول إن ما توفّر لليونان لن يتوفّر لتونس وأساسا وجود كتلة اقتصادية ونقدية قادرة على ضخ أموال طائلة لتمويل وصفة الإنقاذ وأعني بذلك استفادة اليونان من كونها عضو بمنطقة الأورو فيما تونس لها الله. جريمة لا تغتفر لو سارت الحكومة في هذا المنحى لجعلت أيّ مساس بالاستقرار الاجتماعي بمثابة جريمة لا تغتفر في حقّ أجيال الحاضر والمستقبل.. ولما جعلت وزير التربية يتحول إلى وزير للمفاوضات الاجتماعية، على حساب الجهد المضني المطلوب لانتشال المدرسة التونسية التي يجب أن نعترف أنها لم تعد الرافد الأوّل للمواطنة بقدر ما تحوّلت إلى أوّل بؤرة لشتى تمظهرات الانتحار واللامبالاة والتطرّف على الجانبين. وأكاد أجزم أن ما آلت إليه المفاوضات في ملف التحكيم بات ينذر بإمكانية حدوث «انفجار» للمطلبية في قطاعات كثيرة يحوّل الحكومة برمتها إلى حكومة مفاوضات قد تدفع بها إلى مشارف السقوط ولو بعد حين خصوصا أمام التزامن الغريب بين المطلبية الاجتماعية وسائر أشكال التهميش والتشويش التي تنتثر تحت خطاب موحّد وهجين مفاده أنّ تسلم الحكم يعني حل كل مشاكل الشعب بين عشية وضحاها بما يؤكّد تلك التخميات التي برزت عند تشكل الحكومة الجديدة بأن هناك أطرافا تراهن على العودة إلى تجييش الشارع لتعود إلى الواجهة على أنقاض فشل الحكومة أو الحاكم الجديد الذي لم تظهر له أيّة هويّة إلى حدّ الآن خصوصا وقد أظهرت التجربة إبّان الانتقالي أنّ السلطة عند المعارضة وليست لدى الحكومة. بل إنّ الأغرب من ذلك أنّ الارتباك الاجتماعي رافقه تلويح غريب باستعادة أجواء وأدوات الانتقالي ومنها تلك الدعوة إلى إحياء الحوار الوطني والرباعية والتي قد تنسف أيّ اقتناع بأننا تجاوزنا أو سائرون إلى تجاوز «الضبابية» وهو ما سيؤدّي بالنتيجة إلى تواصل سمة التردّد في الاستثمار والاستهلاك بما يضعف أيّ أمل في إمكانية تسارع وتيرة النموّ. أدوات بالية ولا أدري أيضا إن كان الحاكم الجديد يدرك أنه لا سبيل إلى إصلاح الأوضاع أمام تواصل اعتماد ذات الأدوات البالية التي تجعلنا نتموقع داخل «كهف» وفي غيبوبة عما يحصل حولنا بما يعني أنّ الأوضاع لن تستقيم ما لم نتوفق إلى إصلاح جبائي يوسّع قاعدة المطالبين بالأداء ويخفض النسب عبر التوجّه رأسا إلى الاقتصاد التحتي والانتقال إلى سياسة دعم المداخيل بدل الأسعار لوقف نزيف التهريب ومراجعة مجلة الشغل والحقوق الاجتماعية بشكل يكرس التلازم بين الحقوق والواجبات ويخلق المنافسة في مجال الشغل باعتباره سوقا كغيره بما في ذلك فتح المجال للعمالة الأجنبية التي ينبغي مصارحة الناس أنها أصبحت أول شرط لتدفق الاستثمار. والواضح أنّه لا أمل في إرساء تلك الإصلاحات في ظل الشعبوية التي مازالت ملازمة للحوار الاجتماعي بكل مكوناته والتي يجب أن نقولها صراحة أنها تحول دون شراكة بين مكونات المجتمع تقوم على ذات التشخيص. مؤسّسات تدفع الجزية بل إنّ الأغرب من هذا كله هو أنه لم يتجرأ أيّ طرف إلى حدّ الساعة ليقول مثلا إنّ قضية الحوض المنجمي هي بالأساس وقبل عودة الإنتاج.. بأي شكل سيعود الإنتاج بما يعني أن تلك الشركة المتعثرة قادرة على تشغيل أضعاف عدد العاملين بها إذا انتبه الجميع إلى أنّها تشتغل في مجال تنافسي ووفق أسعار تحكمها سوق عالمية.. أي توحّد الاقتناع بأن ترشيد المداخيل والامتيازات الشغلية ولو نسبيا سيجعل مواطن الشغل تتضاعف من باب الحاجة وليس من منطلق «إسكات» الاحتجاجات و«اشتراء» الاستقرار. كما ينبغي مصارحة الناس أن اضطرار مؤسّسات أجنبية ووطنية إلى دفع «الجزية» أي إعطاء أجور لأشخاص لا يعملون لديها خشية أن يعطلوا الإنتاج هو وصمة عار بكل المقاييس وعبث بقوت التونسيين.. يعطي صورة للآخرين وكأنّ هذا البلد يفتقر إلى سلطة فعلية تحكمه. بل إنّ هذا الانطباع قد يكون قاسما مشتركا للكثير من التونسيين من القاع إلى القمة لاسيما في ضوء تواصل «الانحلال» في أسفل هرم الدولة أي تلك العلاقة التي ضُربت في الصميم بين المواطن والسياسي والسلطة المحلية والتي تعد أحد أركان اليقظة والمناعة الذاتية. وعلى ذات الطريق يتشكّل الخطاب المستنسخ في توصيف الإرهاب الذي يمثل بدوره أحد معوقات تحول التردّد والخوف إلى أمل حقيقي في المستقبل.. حيث لم يخرج من دائرة المجموعة المنبثقة عن الكتيبة المنضوية تحت الائتلاف أو التكتّل.. فيما يرى الناس صباحا مساء وبالعين المجرّدة ظواهر غريبة يخشى أن تعطي انطباعا بأن الأرض والسماوات مخترقة. ظواهر تحتاج إلى السؤال إن ظهور جنسيات غربية كثيرة كالفطر على مدى الأعوام الأخيرة في شوارع رئيسية وأنهج فرعية ومقاهي «متركنة» كلّ يمسك بحاسوب أو يقبع على كرسي لساعات.. هي ظاهرة غريبة تحتاج على الأقل إلى السؤال تماما كمئات «حقائب الظهر» التي نشاهدها في رحلة صغيرة.. أناس تونسيون وأجانب من مختلف الأعمار من الثلاثين إلى السبعين.. يحملون «حقائب ظهر» عادة ما كانت حكرا على التلاميذ والطلبة.. والرياضيين.. مسألة أخرى تحتاج إلى أن نلج إلى ما بداخل المحافظ.. خصوصا وأنّ هذا المشهد يتواتر طيلة ساعات النهار وآناء من الليل في كلّ مكان تقريبا. مئات المخازن التي تفتح وتغلق ليلا في الأحياء الشعبية تحتاج أيضا إلى السؤال.. هناك شيء ما غير واضح تماما. إنّ للمؤسّسة الأمنية أسرارها ونواميسها التي يفترض أن تكون محصّنة.. ولكن تواتر الظواهر الغريبة هو مسألة مخيفة تستدعي مزيد التعويل على الواعز الوطني وللإعلام في ذلك شؤون؟ بالمحصلة إنّ الميراث الثقيل يقتضي بالأساس كثيرا من الوضوح خطابا وممارسة وإعادة صياغة طبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع من منطلق وعي مشترك بأن العالم لن يرحم الممعنين في العناد إزاء استحقاقات العصر.. و«سرعة الصوت» بما يقتضيه ذلك من وقود بشري «خال من الرصاص».