بقلم: فؤاد العجرودي عمّقت الأحداث التي عرفها اجتماع تنسيقية «نداء تونس» في جهة تونس الأولى السبت الفارط الهواجس بشأن مدى قدرة «النّداء» على الارتقاء بأدائه إلى متطلّبات وصفة الإنقاذ وإعادة البناء. الاجتماع المذكور الذي أشرف عليه الأمين العام للحزب الحاكم محسن مرزوق وخصّص لقضية المصالحة الوطنيّة شهد خصومات حادة ومجادلات ساخنة صنعها لفيف من المحسوبين على ما يُسمّى الشقّ الثاني أو الموازي للنّدائيين في جهة تونس الأولى.. ولئن لم تمنع تلك الأجواء مواصلة الاجتماع إلى نهايته فقد أرْبكت سَيْرَهُ وأخرجت «النداء» في صورة تثير القلق وتدفع بلفيف من الأسئلة الحائرة بشأن طبيعة ما يحدث اليوم داخل الحزب الحاكم.. خصوصا وأنّ هذه الحادثة هي الثالثة من نوعها منذ شهر رمضان الفارط التي تَطَالُ اجتماعات ذات التنسيقية وهي تعكس وجود انشقاقات مماثلة في العديد من الجهات الأخرى. قضيّة رأي عام تلك الأجواء قد تكون أيضا سحبت البساط من تحت أقدام الذين يُحاولون بعبارات «منمّقة» وفي كثير من المنابر «سَنْسَرة» صراع الأجنحة الواقع داخل «نداء تونس» والذي وإن كان شأنا داخليّا فإنّه بمثابة «قضيّة رأي عام» لجهة طبيعة الدور المحمول على كاهل «النّداء» بوصفه حزبا حاكما. بمعنى آخر إنّ «مفاتيح» إخراج البلاد من الأزمة العميقة التي تشكّلت بفعل التراكم على مدى الرباعية الأخيرة لن تكون متاحة ما لم يتوفّق «النداء» في الاضطلاع بدَوْرَيْن رئيسيين هما أوّلا إسناد الحكومة في سعيها إلى إعادة زِمام المبادرة إلى الدّولة ثم رأب الهوّة السحيقة التي ترسّخت على الأرض عبر إعادة الاعتبار إلى التأطير الحزبي الحقيقي الذي يتوافق مع الدّور الأوّل الموكول للأحزاب صلب الدستور ويصوغ مواطنة استنادا إلى مشروع حضاري مَجَدِّد لذات الثوابت التي توافق بشأنها التونسيون بُعيد الاستقلال وأهمّها الحداثة والاعتدال والانفتاح على الآخر والبناء المؤسّساتي للدولة. حكومة بلا ظهر والواضح في هذا الإطار ومن خلال تجربة الحُكم على مدى نحو تسعة أشهر أن الحزب الحاكم قد انغمس في شأنه الداخلي أكثر بكثير ممّا سعى إلى إنجاح مرحلة الإنقاذ بما أخرج الحكومة في صورة الفاقد ل«ظهر» يُسندها وسط معارك ضارية على الّصعيدين الأمني والاجتماعي وهو ما يفسّر الهزّات العنيفة التي طالت الأوضاع العامّة وأثّرت على مُعطى الاستقرار الأمني ومن ورائه ركائز الاقتصاد وأهمّها السياحة وكذلك جاذبية مناخ الأعمال نتيجة انفجار المطلبية الذي أدّى أيضا إلى إرباك قطاعات واسعة من المرفق العام بشكل أدَّى إلى تعميق القلق العام بشأن مستقبل البلاد. «لعب عيال» بل إنّ الأخطر من ذلك أنّ علاقة «النداء» بالحكومة وبعد تلك المرحلة التي اتّسمت بمحدوديّة «التضامن» مرّت في الآونة الأخيرة إلى ما يشبه «لعب العيال» امتدادا لتعمّق الخلافات في الرّؤى و«الأحلام» صلب قيادة «النداء» التي يبدو اليوم جليّا أنّها تتفاعل في إطار صراع بين ثلاثة أجنحة رئيسيّة لكلّ منها أجنداه التي تتراوح بين السعي إلى رئاسة الحزب والتطلّع إلى خلافة الصّيد والتوجّه نحو إعادة توزيع الأوراق بما يتناسب مع ثقل «الشق الدستوري» الذي لا يزال متأثّرا بإحساس قطاعات واسعة منه بكونها «خرجت من المولد بلا حمّص» عقب الانتخابات الأخيرة. تأليب بل إنّ عديد الملاحظين يرون أنّ حركة الولاة الأخيرة كانت منعرجا ساخنا في العلاقة بين الحكومة وأساسا رئيسها الحبيب الصّيد لجهة أنّ القائمة الأولى التي اقترحتها قيادة «النّداء» كانت في أغلب مكوّناتها بمثابة «الطعم» أي أنّ الهدف الأساسي منها كان «تأليب» النّدائيين ضد الحبيب الصّيد وذل لجهة تعارض تلك القائمة إجمالا مع التوجّه نحو ترميم كيان الدّولة اعتمادا أساسا على إطاراتها الذين اكتسبوا حدّا معيّنا من الخبرة والكفاءة صلب أروقتها بما يقطع مع معايير الموالاة والسياسويّات التي احتكمت لها كثير من التعيينات على مدى السنوات الأخيرة. مؤتمر وفاقي ؟ الطموح إلى رئاسة الحزب يصنع بدوره خلافات عميقة تلقي بظلالها على أجندا التحضير لمؤتمر الحزب الذي لم يتبلور موعده إلى حدّ الآن بشكل يؤثر على معطى «الحماس» صلب أجزاء واسعة من قواعد الحزب.. والذي يعود في الواقع إلى تنافس بين أطراف يلائم وزنها عقد مؤتمر وطني انتخابي.. وأخرى تحتاج إلى ضمانات لن تتوفّر إلاّ باقتسام «الكعكة» قبل إطلاق مسار المؤتمر.. وهي المقاربة التي تأسّس عليها طرح ما يُسمّى المؤتمر الوفاقي يطرح موقع الرئاسة ومواقع أخرى داخل المجلس الوطني من عملية الاقتراع.. ويبدو جليّا أنّ تلك الخلافات العميقة هي التي عرقلت أولى الخطوات على درب إعداد المؤتمر وهي رفع الحضر عن بطاقات الاقتراع. المشروع الوطني وبالتوازي مع صراع الأشخاص أو القيادات فإنّ الاجتماعات الأخيرة أظهرت بوضوح خلافا حادّا على مسألة حوهرية هي طبيعة علاقة «النداء» بالحزب الثاني حركة «النهضة» بين مقاربة تقوم على الحاجة إلى التحالف بين الطّرفين لجهة خصوصيات المرحلة الهشّة التي تمرّ بها البلاد وقد تعود أيضا إلى رغبة البعض في الإبقاء على «حَمِيّة» خارجيّة في إطار الصراع الداخلي حول التموقع ومقاربة ثانية ترى أنّ الارتقاء بالجهد العام إلى متطلبات مرحلة الإنقاذ يقوم أساسا على إعادة خلق تعبئة عامة للدفاع عن المشروع الوطني السيادي الحداثي كما تدفع تلك المقاربة إلى إخراج «النداء» من «الانغلاق» إزاء قطاعات واسعة من العائلة الوسطية وخاصة الدستورية بما يوسع «خزّان» الكفاءات الذي يملكه «النداء» ويغنيه بالتالي عن اقتسام الحكم مع أطراف أخرى. أزمة هويّة بمعنى آخر تدفع تلك المقاربة باتجاه وضع حدّ لتداعيات ما يُسمّى «أزمة الهويّة» التي تعمّقت بعيد الانتخابات وحجبتها سابقا تلك المنافسة التي قام عليها «النداء» بين المشروع الوطني الحداثي والمشروع الإسلامي والتي اختزلت في ما يُعرف بالتصويت الإيجابي خلال الانتخابات الأخيرة.. وهي مقاربة لا تلغي تعدّد الرّوافد بل تدفع إلى إعادة صياغته بشكل ينعكس على شكل القيادة وخيارات ومواقف «النداء» ومُتطلّبات الاضطلاع فِعْليّا بمُهمّة الحكم. تقوية الجبهة الداخليّة والواضح أنّ عدم حسم تلك الخلافات يعدّ من أهمّ أسباب انحصار الأوضاع العامة لجهة أنّ عنصري المناعة الذاتية والتضامن اللّذيْن تحتاجهما البلاد للخروج من الأزمة الراهنة تمهيدا للإقلاع وإرساء وضع مختلف ينسجم مع الإمكانيات الحقيقية لتونس.. لن يتوفّرا دون تقوية الجبهة الداخلية للندائيين وترميم التضامن بينهم. كما أنّ هذا الوضع يخرج «النداء» في صورة لا تتلاءم مع إمكانياته الحقيقية وقد يكون أيضا استقطب كثيرا من الأضواء بشكل آل إلى حجب أزمات أعمق بكثير داخل أحزاب أخرى صلب الرباعي وخارجه وأطياف أخرى مدنية بدت عقب الانتخابات الأخيرة ولا سيما في خضم إطلاق مسار ترميم كيان الدولة.. على أبواب التشرذم وربّما الدخول في التاريخ.. وهو ما يصنع مفارقة غريبة مفادها أنّ «نداء تونس» ورغم ما يبدو عليه فإنّه يمتلك قواعد تجعله الأكثر جاهزية للمواعيد الهامّة القادمة وأوّلها الانتخابات البلديّة. بالمحصلة تبدو الصراعات الحاصلة صلب «واجهة» «النداء» وأساسا تداعياتها الجسيمة على حاضر البلاد ومستقبلها ظالمة إلى أبعد حدّ للندائيين.. وتونس.. كما يبدو جليا أنّ «النداء» مازال متأثرا ب«حفرة الهواء» التي خلفها صعود الباجي قائد السبسي إلى قرطاج.