يحيي غدا الشعب التونسي الذكرى الثانية و الخمسين لجلاء آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية على إثر اندلاع معركة بنزرت الحاسمة و الفاصلة في الحرب التي خاضتها بلادنا للتحرر من نير الاستعمار الفرنسي . و لعلّ السواد الأعظم من الشباب التونسي خاصة جيل الألفية الجديدة يجهل أو بالأحرى غير ملم بكل أطوار و مسارات و مراحل و أسباب معركة بنزرت التي مثلت منعرجا مفصليا في تاريخ البلاد و سقط خلالها الآلاف من الشهداء ليرووا تراب الوطن بدمائهم و بكل ما يملكون رغم ندرة ما يملكون، حتى أن شهود عيان وقتئذ أكدوا أن سرادق و مواكب العزاء انتصبت في كل بيت بالمدينة في سمفونية وجودية سريالية نافذة تحاكي الموت و تغني للحياة باعتبارهم «أحياء عند ربّهم يرزقون». و حتى لا تغيب بطولات شهداء وطننا الذين ربما بفضلهم نحن أحياء و باقون، إرتأت «التونسية»، و لو بعجالة، تسليط الضوء على أهم مجريات معركة الجلاء الخالدة. انطلقت معركة بنزرت التاريخية أو معركة الجلاء اثر المواجهات المسلحة التي دارت في شهر جويلية 1961 بين القوات الفرنسية المرابطة قرب مدينة بنزرت والجيش التونسي تسانده أعداد من المواطنين المتطوعين وسط تصعيد عسكري فرنسي منقطع النظير، حيث نزل المستعمر بكل ثقله العسكري رغم اختلال ميزان القوى بين الجانبين. دامت معركة الجلاء عن بنزرت أربعة أيام من 19 إلى 22 جويلية 1961 و شهدت مواجهات عنيفة بين قوات الاستعمار الفرنسي و الشعب التونسي بكل فئاته إلى أن صادق مجلس الأمن الدولي على قرار يقضي بوقف إطلاق النار. و بعد تعاطف قوى السلم في العالم مع القضية التونسية أجبرت فرنسا على الدخول في مفاوضات مع الحكومة التونسية وقد تم التوصل الى اتفاق 18 سبتمبر 1961 الذي نص على سحب كل القوات الفرنسية من مدينة بنزرت والعودة الى بلادها. وبذلك شرعت قوات الاستعمار الفرنسي في الانسحاب من أرض الجلاء بداية من 29 سبتمبر 1963، ليكتمل الجلاء التام عن قاعدة بنزرت يوم 15 أكتوبر 1963 برحيل آخر جندي فرنسي، وهو تاريخ الجلاء التام و تكريس السيادة الوطنية التونسية الكاملة على كل شبر من تراب الوطن. أسباب إندلاع الحرب مقابل انتظارات الطرف التونسي التزام فرنسا بجدول انسحابها من ولاية بنزرت وفق بروتوكول الاستقلال، كانت الاطراف الاستعمارية الفرنسية تعزز تواجدها المدني بإحداث مكاتب خدمات بريدية وفضاءات تجارية جديدة وغيرها من الضرورات و والكماليات لجاليتها هناك في بنزرت. و وسط هذه «الأجواء السياسية والعسكرية المشحونة و تذمّر فرنسا المتواصل من تحول تونس إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية، بدأت رحى المعركة تستعد للدوران لتكون حادثة ثكنة سيدي احمد شرارة التصعيد في اتجاه الحرب، حيث انطلق الطرف الفرنسي يوم 30 جوان 1961 في اجراء اشغال توسعة للمطار العسكري بثكنة سيدي احمد ببنزرت فتصدت قوات الحرس الوطني التونسي فورا للعملية و اعادت الاسلاك الحديدية إلى مكانها الاصلي في حركة اغضبت الفرنسيين و استقبل القائم بالأعمال الفرنسي في غرة جويلية الباهي الأدغم الوزير الأول و الصادق المقدم وزير الخارجية ليبلغهما إنزعاج فرنسا الشديد من العملية». بعد ذلك اجتمع الديوان السياسي للحزب الدستوري يوم 4 جويلية و أصدر بيانا يعلن فيه فشل المفاوضات حول جلاء قاعدة بنزرت من طرف الجيش الفرنسي داعيا إلى ضرورة خوض الحرب لاستعادة بنزرت و انطلقت يوم 5 جويلية عملية التعبئة الشعبية في كامل انحاء الجمهورية و جرى إيفاد مئات المتطوعين من الشباب والكشافة و المقاومين إلى بنزرت. معركة سيدي يوسف و القشة التي قصمت ظهر البعير في الحقيقة انطلقت الشرارة الاولى لمعركة الجلاء بتاريخ 8 فيفري 1958، حيث شنت طائرات الجيش الفرنسي المرابط قرب الحدود التونسية الجزائرية هجوما عنيفا على سوق أسبوعية في قرية ساقية سيدي يوسف من ولاية الكاف شمال غرب البلاد سقط خلاله عدد كبير من التونسيين و الجزائريين. و وفق مصادر مطلعة فقد خلف هذا الهجوم 79 شهيدا من بينهم 20 طفلا و11 امرأة و130 جريحا. هذه الحادثة اتخذها الزعيم الحبيب بورقيبة ذريعة لمطالبة فرنسا بإخلاء قاعدة بنزرت وبذلك قررت الحكومة التونسية العمل على إجلاء بقايا الجيوش الفرنسية عن قاعدة بنزرت . تدخل مجلس الأمن الدولي زحفت القوات الفرنسية خارج القاعدة تدعمها المدرعات و تقدمت يوم 21 جويلية نحو المدينة و خرج بورقيبة و حث الجيش التونسي على الإستبسال في القتال و تحولّت المواجهات إلى حرب شوارع حقيقية وكثّف الطيران الحربي الفرنسي قصفه للمدينة وتضاعف عدد القتلى خاصة من المدنيين. تواصلت الاشتباكات طيلة يومي الجمعة 21 و السبت 22 جويلية 1961 حتى صدور القرار 164 عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بعد أن كان ذلك اليوم هو الأكثر دموية في المعركة. يوم 25 جويلية 1961 وصل داغ همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة الى بنزرت وأصدر قرارات هامة لفائدة تونس. و في 27 أوت 1961. فرنسا تقر بنجاح خطة الجيش التونسي و حكمة بورقيبة نجاح الجيش التونسي في كسر حدة الهجوم الفرنسي على بنزرت عبر خطة الانتشار المحكمة في المدينة أجبرت قائد الحرب الفرنسي و هو الأميرال «أمان» على الاعتراف في تصريحات إعلامية وقتها بتوفق التونسيين في عرقلة تقدم قواته للسيطرة على المدينة. تصريحات لا تنسى للزعيم بورقيبة رغم عدم تكافؤ الميزان العسكري بين الجيشين التونسي و الفرنسي حسم الزعيم الحبيب بورقيبة المعركة برد مزلزل تناقله العالم على ما أعلنه شارل ديغول وقتها بأن «فرنسا لا تريد و لا تستطيع التفريط في بنزرت»، معلنا الدخول في مواجهة التحرير الأخيرة بقوله في تصريحات مدوية : «لست مضطرا لمغالطة شعبي و اللجوء إلى الكذب و لست الرجل الذي يتبنى سياسة فرنسية لا يجد فيها مصلحة بلاده، لا أستطيع قبول ذلك و أخير المواجهة». كما أعلن بورقيبة خلال خطاب له لتعبئة الرأي العام التونسي أن «معركة بنزرت جديّة و ليست بالأكذوبة». و أضاف أن تونس «وصلت إلى مرحلة لا يمكن بعدها الإنتظار» ،مشددا على ضرورة جدولة فرنسا مغادرة قواتها للمدينة و على إجلاء و جلاء آخر جندي فرنسي من التراب التونسي حتى تكتمل معركة الإستقلال الوطني عن فرنسا بصفة نهائية، إلا أن فرنسا تعنّتت واندلعت بذلك الحرب على إثر إعلان الإذاعة التونسية بتاريخ 19 جويلية البيان التالي: «تلقت القوات المسلحة التونسية أمرا بقصف كل طائرة تخترق المجال الجوّي التونسي»، يليه خطاب آخر لبورقيبة مفاده شحن معنويات الجيش و الشعب من ذلك قوله :«على كل رجل يسمع ندائي أن يقاوم و أن يخيّر الموت على التفريط في شبر واحد من أرضنا». أبطال معركة بنزرت يؤكد المؤرخون أن أبطال معركة الجلاء هم كل التونسيين بمختلف فئاتهم من قوات عسكرية وقوات الحرس الوطني و قيادة سياسية و مواطنين، إلا أن نصيب التفوق في هذه الحرب كان لقوات الحرس الوطني التي ساهمت في تكبيد العدو خسائر فادحة في العدد و العتاد، يليها في سلم الانتصار الديبلوماسية التونسية التي نجحت في حشد الرأي العام الدولي لنصرة قضية التحرر الوطني التونسي الكامل. الرائد محمد البجاوي و رفاقه من أبطال معركة بنزرت الذين أبلوا البلاء الحسن من أجل الدفاع عن حرمة الوطن نجد كذلك أفراد قوات جيشنا الوطني الفتي وقتها و لكنه نحت نياشين النصر رغم فداحة الخسائر المسجلة في صفوفه. و من بين أبطال جيشنا الذين رووا تونس بدمائهم نجد الرائد الشهيد محمد البجاوي الذي استشهد رافضا إلقاء السلاح في مشهد بطولي و وطني نادر قارب الأسطورة، و كذلك الملازم الأول الشهيد الطيب بن علية و الملازم الشهيد محمد العزيز تاج و الملازم الشهيد الهادي والي و غيرهم وهم كثر. حوالي 7000 شهيد و 1115 جريحا اختلفت المصادر حول عدد شهداء معركة الجلاء، إذ أفادت بعض الجهات أنه سقط خلالها 670 شهيدا و 11 15جريحا، في حين أكد ضابط الحرس الوطني حسن مرزوق الذي خاض المعركة في كتاب أصدره لاحقا أن عدد الضحايا بلغ 7 آلاف.