غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف مواقع مختلفة في سوريا    علماء يحذرون.. وحش أعماق المحيط الهادئ يهدد بالانفجار    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. حمادي صمّود ل«التونسية» :المطالب الاجتماعية والإضرابات تهدّد الدولة بالإفلاس
نشر في التونسية يوم 16 - 11 - 2015


لن ندخل العصر طالما بقينا شعبا مستهلكا
دائرة المعارف العربية متخلّفة
ما يحدث في «نداء تونس» خطير
حاوره:مصطفى الشارني
حمادي صمّود أستاذ تعليم عالي بقسم اللغة وتحليل الخطاب بكلية الآداب والفنون والانسانيات بجامعة منوبة /تونس متحصل على شهادة دكتورا دولة بأطروحة عنوانها: التفكير البلاغي عند العرب: أُسُسه وتطوّره الى القرن السادس هجري سنة 1980. انتدب بالجامعة التونسية سنة 1972. ودرّس بالجامعات الفرنسية من 1981 الى 1984 تم سنة 1995. له مؤلفات عديدة في اختصاصه نذكر منها:
الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة.
في نظرية الأدب عند العرب.
في تجليات الخطاب الذي صدر في ثلاثة كتب.
أشرف على عدد كبير من الأطروحات والأبحاث.
رئيس عدد هام من فرق البحث منذ نهاية السبعينات مثل فريق البحث في البلاغة والحجاج وفريق البحث في الانشائية. وفريق البحث في علوم الخطاب. وقد توجت أبحاث كل هذه الفرق بمؤلفات أصبح بعضها مرجعا في موضوعه.
«التونسية» التقته فكان معه الحوار التالي:
بصفتكم مدرّسا جامعيا باحثا ومهتما بالشأن العام كيف تقيّمون التصدّع الحاصل هذه الأيام في حركة «نداء تونس». فهل لكم مقترحات عملية لتذليل العقبات وتقريب وجهات النظر المتتالية بين فرقاء الحزب؟
ما يجري في «نداء تونس» خطير، ستكون له ان وصلنا الى مرحلة التصدّع نتائج على الوطن وعلى مستقبله السياسي. لأن «النداء» كان -في المنطلق- حركة جامعة مفتوحة على كل الذين تهمهم بعض المبادئ الأساسية كمدنية الدولة وعلوية القانون والابقاء على النمط المجتمعي لدولة الاستقلال والحرص على تدعيم مكاسب المرأة والعمل على إثرائها. وعلى هذا الأساس أبرم العقد مع مؤسس هذه الحركة رئيس الجمهورية الحالي وتحوّلت هذه الأخيرة لاحقا الى حزب سياسي. وفوز هذا الحزب في الانتخابات النيابية وفوز رئيسه بالرئاسة كافيا للدلالة على أن لكل ما يمسّه انعكاسات على الوطن حاضرا ومستقبلا. ولذلك ترى مختلف الشرائح الاجتماعية التي انتصرت لهذه المبادئ التي ألّفت بينها وجعلتها تتحمّس لتحقق بالانتخابات نتيجة مدهشة مستغربة، مستفهمة عن الأسباب التي سارعت بالانشقاق داخل الحزب وربما وصلت الى نقطة لا رجعة فيها مع ما قد ينجر عن ذلك من نتائج وخيمة على البلاد والعباد. وممّا يفسر استغراب الناس ودهشتهم هو التناقض الواضح بين ما كان يدعو إليه رئيس الحزب وما يدعو إليه الآن رئيس الجمهورية رئيس هذا الحزب بالأمس القريب. حيث كان يدعو الى الإئتلاف والمصالحة، وتقديم الحوار عن كل شيء لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء. فكيف إذن لا تطبق هذه المبادئ لتذليل العقبات وتقريب وجهات النظر المتباينة بين فرقاء الحزب. هل هذا مصداق لقول الشاعر:
تصف الدواء لذي السقام من الضناء
كي ما يصحّ به وأنت سقيم
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم.
فهل هناك أسباب ضاغطة أجبرت القائمين على الشأن الحزبي على الوقوع في هذا التناقض؟ لا شك أن الاختلاف داخل الأحزاب شيء مألوف في كل أصقاع الدنيا. وقد وصل الأمر ببعضها الى الانقسام والتفتت والتلاشي. لكن الظروف التي تمر بها البلاد والخيارات التي لم تتضح بما فيه الكفاية والأوضاع الاقتصادية العصيبة وتربص كثير من القوى الأجنبية بالوطن وغول الارهاب تجعل من الخلاف داخل حزب الأغلبية شأنا وطنيا لا شأنا حزبيا يدعو جميع الأطراف وعلى رأسها قمة الدولة الى التدخل لفض النزاع بالحسنى حفاظا على سلامة الوطن وصونا لاختياراته الكبرى من الانتكاس والتراجع لا سيما أن بعض الدلائل تشير الى أن وراء الخلاف اختلافا في التصور أبعاده سياسية واقتصادية واجتماعية... وإن صحّ هذا -لا قدّر الله- فإن الحزب يكون سائرا بما يجري داخله الى نقض العهد الذي كان قد أبرمه مع الجماهير التي رفعت على أعناقها قادته الى أعلى هرم الدولة.
فهل يمكن بعد كل الذي حصل من مكاسب بفضل تضافر جهود المجتمع والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية أن تعود تونس إلى نقطة الإنطلاق؟
ما هي في اعتقادك الدروس المستخلصة من أحداث 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 وماذا عن مهام الجامعة ودور الاتحاد العام التونسي للشغل في تهيئة الأرضية للفعل التغييري الثوري؟
لا جدال في أن ما حصل في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 كان بالنسبة للعالم أجمع حدثا لافتا وشيئا غير منتظر على الأقل في السرعة التي استطاع بها دفع صاحب السلطة الى مغادرة البلاد وبطانته الى محاولات الهروب جوّا وبحرا والتفصي من المسؤولية. والحق أن ما وقع فاجأ التونسيين أنفسهم رغم التراكم الحاصل في البلد منذ العهد البورقيبي بفضل المعارضة التي اشتد عودها في فترة بن علي.
أمّا المعارضة فهي معارضات ولا تقتصر على المعارضة السياسية التي تضع نفسها في مقدمة الركح. هناك أنواع أخرى من المعارضة لا يكون مفعولها آنيا، وإنما يطبخ على نار هادئة وتبرز نتائجه للعيان عندما تنضج الظروف الموضوعية لأنه عمل يتقصد بنية الفكر والتصورات ويبني العوالم التي تنشئ في صاحبها الحلم بعدما تتجسد فيه القيم التي زرعها التعليم. فقد ربت الجامعة طلبتها على الفكر الحر والفكر النقدي، وعلى مفاهيم الحرية والمطالبة بتحقيقها وهذه المفاهيم والتصورات تهيء الأرضية لكل فعل تغييري وثوري زد على ذلك أن دور المثقفين لم يقف عند هذا الحدّ.فلقد كانوا يملؤون فضاءات مختلفة كفضائي الاتحاد العام التونسي للشغل والجامعة. وفيهما يصدحون لما يوفرانهما لهم من حماية بآرائهم الحرة والشجاعة التي ما انفكت تحرج السلطة الرسمية في كل مستوياتها. فما وقع في تونس هو نتيجة ترابط حلقات أولاها ربما التي وقعت في بهو كلية الآداب والعلوم الانسانية ب9 أفريل ذات يوم من أيام 1967.
في اعتقادكم ما هو البلسم الذي يمكن أن يداوي الوضع الاقتصادي بالبلاد؟
هناك اجماع على أن الوضع الاقتصادي سيء -حتى لا نقول كارثيا- فالمصالح الاقتصادية تؤكد أن تونس في حالة انكماش مخيفة على صعيدي التنمية والمديونية بلغت حدها الأقصى.
كما أن المطالب الاجتماعية والنقابية والاضرابات لا تعرف كلمة «قف» ولا بد أن يعي كل مواطن بهذا الوضع الذي يمكن ان استمر، أن يؤدي الى إفلاس الدولة وعجزها عن الإيفاء بتعهداتها إزاء كل الجهات. إلّا أنه رغم ما تنطوي عليه هذه الصورة من قتامة، فإن الأمل يبقى قائما على أن يساهم الجميع كل من موقعه في تجنب هذه النهاية التي ان انتهينا إليها، -لا قدر الله- أتت على الأخضر واليابس وعلى العمال ورأس المال وتعطلت كل حركية وتفاقمت البطالة والعجز. ولا أحد يعلم ما قد يمكن أن يترتب عن هذا الوضع. فالطرف المطالِب يحمل المسؤولية للطرف المُطالَب والعكس صحيح. وأصل المشكل في تقديري متأت من أسباب عدة أكتفي بذكر بعضها : إن التونسيين جميعهم ليست لهم تجربة، في تصريف الأوضاع الانتقالية سيما إن طالت طولا زائدا على اللزوم كما هو الشأن عندنا. ويشترك في الافتقار الى المعرفة المسيِّر والمسيَّر.
يعيش التونسيون الى اليوم في قضايا الاقتصاد على أفكار تكاد أن تكون أوهاما أو خرافات. فترى الناس يطالبون بحقهم في التنمية. هذا أمر مشروع لكن ما ليس مشروعا، هو انعدام أي تصور واقعي عن الكيفية التي تتم بها التنمية والوقت الذي تتطلبه. وكذلك الشأن بالنسبة الى البطالة. فالناس لا يدركون أنها مسألة عويصة مرتبطة بتوفر شروط عديدة من بينها: شرط التنمية، التي لا تنجز وفق الضغط على زر نشغل به الكهرباء.
هناك غياب كامل لمفهوم الزمن في خطاب التونسيين وكأنهم يعيشون لحظة واحدة لا ماضي ولا مستقبل لها.
وخطر غياب مفهوم الزمن هو المطالبة بأن تتحقق المطالب كلها في تلك اللحظة. فعلى الحاكم أن يوفر كل شيء دون أن يعطي أدنى مهلة. بينما تقتضي الأوضاع الانتقالية من الناحية الإبستيمولوجية أن نسير وفق جدول مضبوط بالأولويات يقام على أسس واقعية لا يمكن الطعن فيها. وعلى صاحب السلطة أن يقنع الناس بها.
ما هي برأيكم الوظائف المحورية والحيوية للديبلوماسية وماذا عن الديبلوماسية التونسية بين الأمس واليوم؟
عرفت تونس في بداية الثورة من الناحية الديبلوماسية وضعا أقل مايقال فيه إنه غير عادي لا يخلو من الغرابة فقد تقلدها شخص يبدو أن كفاءته الوحيدة قربه من موقع القرار في ذلك الوقت. كما أن هذه الديبلوماسية كانت أيضا في مستوى أعلى من مستوى الوزير فرصة للمزايدة واتخاذ قرارات مزاجية ومتسرعة وذلك أبعد ما يكون عن الديبلوماسية الحقة التي يجب أن تقوم على مراعاة مصالح البلد أوّلا ثم على التموقع في المكان الذي تكون فيه الضغوط أخف ما يكون. بل رأينا أشياء أدهى وأمر لم نشاهد مثلها في تاريخ الدديبلوماسية التونسية الطويل. والظاهر الآن أننا في العمل الديبلوماسي نعود الى الأصول الكبرى التي انبنت عليها الديبلوماسية في الدولة الوطنية. ومن أهمها الوقوف على الحياد وعدم التدخل في سياسة الدول الداخلية سيما الأقطار العربية الشقيقة. والحرص ما أمكن على استقلالية القرار والوقوف على نفس المسافة من الأطراف المتنازعة مع مراعاة مصلحة الوطن والجالية التونسية المقيمة هنا وهناك والتمسك بالشرعية الدولية وتقديم الحلول المتأتية من التفاوض والمحاورة على كل أنواع الحلول الأخرى وتلميع صورة تونس في الخارج لجلب الاستثمارات الخارجية وترويج منتوجاتنا الوطنية.
هل لنا من فكرة عن ماهيتكم العلمية والبيداغوجية تدريسا وبحثا وتأطيرا خلال مساركم المهني؟
التدريس بالجامعة هو مطمح كل متعلم ورغبة ملحة تلازم كل من استشعر من مساره التعليمي قدرة على الاستمرار وشيء من التفوق. ولكن هذا الطموح يتطلب ثمنا يكون باهظا أحيانا من حيث الجد والتفاني في العمل والإقبال على المعرفة والدرس بما يمكنه من نيل الشهائد الضرورية التي تفتح أمامه مضمار السباق للفوز بشرف الانتماء الى سلك التعليم العالي. إذن يدخل الأستاذ الى الجامعة في أدنى الرتب وهو مستعد أتم الاستعداد لمواصلة ما كان بدأه وعقد العزم عليه ليكون تدريسه في المستوى المنتظر منه ولكي يواصل ما كان بدأه من جهة البحث وتوسيع الآفاق والتعمق في المعارف. هذه هي أدنى الشروط التي لا بد أن تتوفر في كل ملتحق بالتعليم العالي. فالتدريس في هذه المرحلة يختلف اختلافا جوهريا عن المرحلتين السابقتين الابتدائية والثانوية منهجا وتصورا ومقاصد. ولا يمكن للتدريس في هذا المستوى أن يستغني عن شيئين آخرين هما: البحث من جهة، والتأطير من جهة ثانية.أما البحث فيقتضيه الترقي في سلم المراتب الجامعية المرتبط بضرورة انجاز بحوث أو بحث مطولا ينال صاحبه شهادة جامعية عليا تخول له الارتقاء الى رتبة مناسبة لتلك الشهادة. وهذا النوع من البحث مهم ولكنه غير كاف. مهم لأنه يحمل القائم به على اختيار موضوع بناء على معطيات موضوعية يمليها مجال البحث الذي اختار التخصص فيه ورأي الأستاذ المشرف. ومن المعروف أن هذا البحث يرسم للباحث وجهة اختصاصه ويضفي عليه قسمات تلازمه طيلة حياته الجامعية. وكل أطروحة هامة هي جمهرة من الأسئلة ومذاهب في المساءلة تقض مضجع صاحبها وتدعوه بإلحاح الى الاهتمام بها. وهذه البحوث هي الضمانة الكبرى ليكون التعليم بالجامعة تعليما جامعيا كما هو الشأن بالجامعات المتطورة وذلك لأنه تعليم لا يكتفي بنقل المعاوف في الاختصاص نقلا أمينا دقيقا وهذا في حد ذاته مطلب ليس من السهل تلبيته في الكثير من مؤسسات التعليم العالي في جامعاتنا العربية. فاستعادة المعرفة استعادة تحترم مضمونها وتجمع مصطلحها الى مفهومها عملية تقتضي من المرء أن يكون في اختصاصه متابعا لما يدور في الأوساط العلمية الحقة من نقاش عميق أصوله فلسفية وفروعه وتطبيقاته تهم الاختصاصات كلّها. ولكن التدريس في الجامعة يقتضي ممّن نال شرف القيام به ألا يقف عند حدود المحاكاة والنسخ على المنوال واستدعاء النماذج التي بناها أصحابها في فضاءات معرفية الكثير منها تختلف خصائصه عن خصائص الثقافة التي ننتسب اليها. وحتى لا يكون العمل ضربا من الاسقاط، اسقاط الأبنية الجاهزة على ظواهر ليست على صلة كبيرة بها. ومن هنا تتأكد أهمية البحث والاستمرار فيه والأخذ بكل جديد يطلع به العلماء على الناس حتى نطوعه لخصوصيات الأدب والعلم الذي انبنى داخل سياقات معيّنة وجداول محدّدة وعلى هذا النحو يمكن أن نهيء الظروف التي قد تسمح بأن نخرج من استعادة المعرفة الى ابداع المعرفة وخلقها واللافت للنظر أن أغلب مؤسسات التعليم العالي في بلداننا تشكو من تأخر ما يلقى فيها عن المعرفة المتوفرة عند المجتمعات العالمية وفي الفضاءات العلمية المتطورة. وهذا التأخر في بعضها يقاس بعشرات السنين.
ثم إن أغلب هذه المؤسسات غير قادرة على استيعادة المعرفة الكونية استعادة دقيقة ومضبوطة.
وإنتاج المعرفة هو مطمح كل جامعة ومطمح الأمة بأسرها وهو المفتاح لندخل من خلاله العصر ولتخرج لغتنا من تبعية الترجمة والتعريب. فلا يمكن أن نفرض لغتنا وثقافتنا أو أن نوجد لهما مكانا في الساحة العلمية الكونية إلا بهذا الانتاج للمعرفة وصهر المعارف التي نستقيها في بوتقة انتمائنا الى تاريخ وثقافة ومذاهب في الوجود خاص بنا هو الذي تتأسّس عليه في العمق هويتنا.
ويتصل بهذين الدورين دور ثالث لا يقل أهمية عنهما إن لم نقل إنه يفوقهما ربما أهمية لأنه ينبني على تمكين المؤسسة من الاستمرار ومن أن تكون قادرة على أن تنتج ما يمثل مستقبلها. وهذا الدّور هو دور التأطير الذي به يقوم المؤطر بالتوسط بين المعرفة عندما تتحوّل الى خبرة والباحث وبنشر تلك الخبرة وبتهيئة المسالك أمام الباحث وتنبيهه الى موضوع بحثه من قضايا واشكالات وما عليه أن يواجهه من مختلف الآراء. بهذا كله يمكن للباحث أن يستفيد من التراكم المعرفي الموجود لدى المؤطر وأن يضيف الى ذلك الجديد الذي لا يعرفه المؤطر أو لم يهتم به في تكوينه.
وخلاصة القول ان المدرس بالجامعة مطالب بأن يضع طلبته وجها لوجه مع ما وصلت اليه المعرفة في اختصاصه. ويمكنهم من المسالك المؤدية اليها ويهوّن عليهم وعيها.
ومن الضروري أن تكون للباحث صلات بالمختصين في ميدانه باللغات التي يتقنها قراءة وانتاجا وهذا من شأنه أن يوسع الدائرة التي يتحرّك داخلها ويفيد الطلبة الذين يؤطرهم بهذه العلاقات التي قد تترجم بأشكال مختلفة. ثم ان الباحث المؤطر مدعو الى ان يبعث ما سمحت بذلك النصوص أطرا مادية يجتمع فيها الباحثون الذين يشرف عليهم كأن يكون فرق ومخابر بحث تكون فضاء مساعدا على تبادل الرأي وما حصل لكل واحد في موضوعه من خبرة. بل ان هذه الفضاءات تقوم في بعض البلدان المتقدمة بدور آخر أساسي بالنسبة للباحث وهو أن يقدم نتائج ما وصل اليه في باب من أبواب بحثه أمام زملائه وبحضور أستاذة فيناقشونه ويشيرون عليه بما يجب مراجعته أو إعادة النظر فيه.
كما أن الاستاذ المؤطر مدعو الى أن يعقد صلات بين فرق البحث التي يتم بعثها من قبله وفرق البحث الشبيهة في جامعات أخرى مشرقا ومغربا وفي البلدان الأوروبية أيضا.
فلقد كانت بعض الفرق على صلة بالجامعات الفرنسية والمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا وبعضها الآخر بغرف شبيهة بالمغرب الأقصى وهذا التبادل مهمّ للطرفين. وأذكر هنا على سبيل المثال أن فريق البحث في البلاغة والحجاج الذي كنت أدير شؤونه كان على صلة بفريق في جامعة «ليون 2» ويوجد في فريق «ليون 2» علم من اعلام الحجاج المشهورين هو كريستيان بلانتان وبالملتقيات التي عقدناها هنا وهناك والثقافات التي تمت بين أعضاء الفريقين أضاف PLANTIN الى الطبعة الثانية من مؤلفه في الحجاج بالفرنسية في سلسلة Que sais-je بابا كان غائبا في الطبعة الأولى خصصه في الحجاج في الثقافة العربية. وأهمية هذه الفرق وهذه العلاقات هي قيام عملية المثاقفة على تبادل المعرفة الحقيقي حيث يكون لا غالب ولا مغلوب.
تزداد طاهرة تدريس العلوم الصحيحة باللغة الفرنسية أساسا بدلا عن العربية. كيف تحلّلون هذه الظاهرة؟ وهل العجز فينا أم في لغتنا العربية؟
هذا سؤال مهمّ وان استعمل في مناسبات عدّة في غير موضعه وكلنا يذكر القرار المتعجل الذي اصدرته السلطة التونسية قبل 14 جانفي 2011 والقاضي بإضعاف اللغة الفرنسية لفائدة الانقليزية عندما عبر رئيس فرنسا عن عجزه التصدي لما كانت تنشره جريدة Le Monde عن الحكم في تونس. اذا تجاوزنا ردّ الفعل المزاجي المتوتر، فإنه من الضروري أن نعترف بالأسبقية الواضحة والملموسة للغة الانقليزية في العالم التي أصبح النشر بها يضمن لصاحبه أوفر عدد من القراء، وأكثر حظوظ النجاح لكن لابد أن نشير الى أن في الأمر بعض المبالغة، فالعلم في بعض المجالات لم يتقهقر بفرنسا الى الدرجة التي تتحدث عنها بعض الأوساط مثلا: في مجال الطيران المدني، لا تزال البحوث الفرنسية متطورة تنافس بصفة جدية الأوساط الأنغلوسكسونية ولا يهم أن يكون ذلك في اطار تجمع أوروبي Consortium ويبدو كذلك أن بعض المجالات الطبية لا تزال في مقدمة ما ينشر في العالم. كذلك اللسانيات في بعض توجهاتها. وخاصة الدراسات الانسانية. ثم لابد أن نذكر سبق فرنسا في قضايا تحليل الخطاب والبلاغة والحجاج بصفة عامة.
ثم ان تمسك مزدوجي اللغة في تونس (عربية فرنسية) ليس من باب التشبث بفرنسا وانما هو من وجهة نظرنا من باب عدم التفريط في رأس مال حاصل عند جيل أو أجيال وما علينا إلا أن نعدّ الأجيال المقبلة اعدادا يقوم على لغات غالبة كالأنقليزية والألمانية واليابانية ان شئنا .
فالتعريب لا يقوم به الا المتضلع في لغتين على أقل تقدير.
ماهي لغة التدريس التي تفي بكل الشروط التي يقتضيها التدريس والبحث والتأطير؟
أظن أنك تشير الى مسألة التعريب وما يتطلبه من وضع برامج ومخططات حقيقية ترسم مراحل انجازه.أشير أولا الى أنني خريج شعبة أ في الدراسة وخريج قسم الدراسات العربية في الجامعة وهذا من شأنه أن يمدّني بتجربة كافية أطرح فيها هذا الموضوع طرحا أرجو أن يكون بعيدا عن الأهواء والميول والرغبات. فنحن في مجتمعاتنا في حاجة ماسة الى أن نواجه هذه الأسئلة بكثير من العقل والموضوعية.
أظن أنني انتمي الى الدفعة الأولى أو الثانية من البرنامج المسمى برنامج المسعدي والذي لاشك أنه على صلة بما كان فكر فيه وزير التربية الأمين الشابي الذي نالني الشرف التعلم على يديه في شهادة الحضارة الاسلامية وأساليب البحث بالجامعة.
وكانت هذه الشعبة تسمى «الشعبة الأصلية» بمعنى أن تعود اليها الشعب الأخرى بعد زمن قد يطول وقد يقصر وكان أول ما لفت انتباهنا نحن الذين وجهنا الى هذه الشعبة انعدام الكتاب المدرسي باللغة العربية انعداما كاملا وما يوجد منه كراس أو كراسان بسيطان في الحساب والجبر لوصل الطلبة، الزيتونيين بأبجديات هذا العلم، وما عدا ذلك فلم يكن أمامنا الا الكتاب المدرسي المصاغ باللغة الفرنسية، فكنا مجبرين على أن نستمع الى الدرس بالعربية ثم نراجعه بعد ذلك باللغة الفرنسية مع ما في ذلك من تعب ونصب ثم ان عدد الأساتذة الذين كانوا في ذلك الوقت (1958 1959) مهيئين لإلقاء دروسهم بالعربية والذين نالوا شهائدهم من جامعات مشرقية كان عددا قليلا جدا لا يمكن أن يستجيب لحاجة التلاميذ الناجحين في مناظرة الدخول الى السنة الأولى ثانوي فكنا بين خيارين خيار تقليص عدد الموجهين الى هذه الشعبة أو استنفار مدرسين من أقطار عربية. يعتقد أن التعريب حافز لتكوين أساتذة أكفاء الا أننا رأينا أن كفاءتهم في بعض الأقطار المغربية التي استقدمتهم واستعملتهم وهي مخلصة في انجاح قرارها السياسي في تعريب التعليم تسببت في نكسات بالتعليم.
وبعد هذا فأنا مؤمن بالتعريب الذي يجب أن تصاغ مراحله بدقة وأن يكون النقاش فيه خاليا من الملابسات الايديولوجية التي تغلق أمامنا المسالك الموصلة.
وعلى كل حال، يخطئ من يعتقد ان التعريب انغلاق عن اللغات الاجنبية التي تحتاج اليها اليوم أكثر من أي وقت مضى لأننا في فترة حضارية لم نتأهل فيها لانتاج المعارف التي نحتاجها في حياتنا اليومية. فنحن في مرحلة استهلاك بما في ذلك استهلاك ما ينتجه فكر الآخر، وما يقف عليه من اكتشافات.
والأكيد اليوم أن الحضور في العصر والمساهمة في البحث العلمي لا يمكن أن يتمان الا لمن كانت له بالاضافة الى لغته الأم لغة أولغات أخرى تكون نافذته المشرعة على العالم. وهذا معناه أن التعريب الحق يجب أن يتم داخل ازدواجية لغوية على ما يبدو في ذلك من التناقض ومعنى ذلك أن القائمين على التعريب وبه يجب أن يكونوا من مزدوجي اللغة قادرين بخطابهم التفسيري في المنطلق أن يقرّبوا الشقة بين المصطلح والمفهوم وتوضيحاا لهذه الفكرة نسوق مثلا من مجال الطيران. فأنت عندما تترجم مصطلح Boite noire بالصندوق الأسود لست واثقا من أن جملة المعاني الحافة التي يشير اليها الاستعمال الفرنسي تثيرها الترجمة، العربية في ذهن القارئ العربي. ولذلك لابد من خطاب تفسيري ينزل المصطلح في دائرته المفاهيمية بحيث يؤدي استعماله الى استشارة ما في حقل المفهوم من معان الى أن تعلق به تلك المعاني ويصبح في غنى عن التفسير وهذا يقتضي ان يتوفر في التعريب الحق الحرص على سلامة المفهوم على المستوى الشعبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.