- اطلعت يوم الأحد 22 ربيع الأول 1434 /03 فيفري 2013 على مقال: "خطة لإصلاح تعليم اللغات والتعريب" المنشور بجريدة "الصباح" بقلم الأستاذ محمد الحمار، الذي نحيّيه على اهتمامه المتزايد بقضية اللغات، ولا سيما لغتنا العربية، غير أن ما تعرض له من مسائل عديدة في هذا المقال بلغت أربع عشرة نقطة، جاءت في أغلبها مثيرة للجدل، بل باعثة أحيانا على الاستفزاز، ويلاحظ هنا أنه بقدر ما كان الكاتب منطقيا وواقعيا في النقطتين الثانية والثالثة، بدا – في رأينا- على نقيض ذلك في بقية النقاط، حيث حال الإبهام والتعقيد دون تبيّن رؤيته الإصلاحية، بشأن تعليم اللغات والتعريب، مما حدا بنا إلى إبداء هذه الملاحظات: أولا: دعا الكاتب إلى " ضرورة نزع صفة اللغة الثانية على اللغة الفرنسية، وتحويلها إلى لغة أجنبية " وذاك في النقطة الثانية من مداخلته، ثم برّر ذلك في النقطة الثالثة، بقوله:" إنّ هذا الإجراء يحرّر اللغة العربية ويمكنها من استعادة الحماية الذاتية التي حرمتها منها اللغة الفرنسية، بحكم ملازمتها لها ومنافستها لها على امتداد عقود " وهو بذلك يدعم أمرا بديهيا وطبيعيا، كان دعا إليه عديد الباحثين في ميدان اللغة وعلم الاجتماع، واعتبروا منذ عقود أن الثنائية اللغوية عندنا تجر إلى انفصام الشخصية، وتكرّس التبعية للمتروبول الاستعماري، فضلا عن كونها ضربا للخصوصية اللغوية والثقافية الوطنية، وفي نفس السياق نذكّر الأستاذ محمد الحمار أنه لم يزد في هاتين النقطتين على أنّ خلع بابا مفتوحا، أولا لأن التشريع التونسي لم يصنف اللغة الفرنسية، في أيّ حال من الأحوال، كلغة ثانية، واعتبرها دائما ضمن اللغات الأجنبية، ولو كانت مهيمنة مقارنة بغيرها، ولو حظيت بحكم الكثافة النسبية للجالية الفرنسية بتونس بأولوية الاستعمال، ولو أنها كانت ومازالت سائدة في مؤسساتنا الجامعية ذات الصبغة العلمية والتكنولوجية. وقد جاء القانون المتعلق بإحداث:"قرية اللغات" والمنشور بالرائد الرسمي تحت ع26دد بتاريخ 3 أفريل 2008، مؤكدا أنّ العربية هي اللغة الوطنية الرسمية الوحيدة، وما عداها هي لغات أجنبية بدون استثناء . كما نذكّر صاحب المقال أنّ القانون الصادر تحت ع45دد بتاريخ 29 أكتوبر 1999، قد جاء قبل ذلك مزيلا لأي تمييز بين اللغات الأجنبية، إذ أقرّ التشريع المذكور إجبارية استعمال اللغة العربية في جميع الإدارات والمؤسسات والمنشآت العمومية والبلديات، وحجر استعمال غيرها بدون استثناء أيّ لغة، وقد تضمن هذا القانون ثمانية محاور، نذكر منها خاصة: أولا:"تحجير استعمال أو اعتماد أي لغة أجنبية في المراسلات الموجهة إلى عموم المواطنين ثانيا: "تحجير استعمال أيّ لغة أجنبية في الأعمال الداخلية الخاصة بالإدارة والمنشآت العمومية من مناشير وقرارات ومذكرات وتقارير ومراسلات بين المؤسسات، وذلك ابتدءا من غرة جانفي 2000. ثالثا:" إتمام تعريب المنظومة الإعلامية وإعداد المعاجم اللازمة للمصطلحات العربية في جميع مجالات المعرفة قبل موفى شهر ديسمبر 2001. وباختصار كان على الأستاذ محمد الحمار أنّ يتحرى قدر الإمكان، إذ رأى من خلال ما تقدم أن لغتنا العربية قد تحررت فعلا ومنذ أمد طويل، من ملازمة أي لغة ثانية لها، ولكن يبدو أنّ القطاع الخاص الذي مازال – مع الآسف الشديد – يعتمد الازدواجية اللغوية في مطبوعاته ووثائقه، ما أوقعه في سوء التقدير، وقد طالبنا مع العديد من الأطراف مثل جمعيتي الدفاع عن اللغة العربية والتعريب، ومثل العديد من أعضاء مجلس النواب سابقا، بإخضاع الخواص إلى ما يجري به العمل من تعريب كامل في القطاع العمومي، ومازلنا إلى اليوم ننتظر تشريعا حاسما في هذا المجال . وكان يمكن أن نعتبر وقوع الكاتب في سوء الفهم والتقدير بخصوص النقطتين المذكورتين أمرا هينا، أمّا أن يدعو علنا في النقطتين السادسة والسابعة من هذا المقال، إلى تكريس التدريس للمواد العلمية باللغة الأجنبية في مرحلة التعليم الثانوي، فهو عين الخروج عن دائرة الإصلاح والتعريب، والأنكى من ذلك أنّ الكاتب يخيّر المتعلم في هذه المرحلة بين الفرنسية أو الانقليزية لتعلم هذه المواد العلمية، دون أن يخطر بباله طرح خيار ثالث أمام هذا المتعلم، وهو أنّ يواصل دراسته للمواد العلمية باللغة العربية التي تعود عليها وهضم مصطلحاتها ورموزها طيلة تسع سنوات من التعليم الأساسي، وهو الخيار الأصلح والأرشد، والأكثر واقعية، ولاسيما أنّ عديدة الأولياء والبيداغوجيين والباحثين، كانوا طالبوا بتجنب القطيعة في لغة تدريس المواد العلمية بين مرحلتي الأساسي والثانوي، لا لأنهما مرحلتان متكاملتان فحسب، ولكن ابتعادا عن إرباك المتعلم، وحرصا على وقايته من الشعور بالإحباط، ومن مركب النقص المدمر للثقة باللغة الأم، رمز هويته وانتمائه الحضاري، وخاصة عندما يرى أنها صارت محكوما عليها بالعجز عن مواصلة تدريس العلوم بعد مرحلة الأساسي مباشرة، وقد يعتبر التلميذ أنّ ما قيل له عن مجد لغته العلمي، وعن كثرة العلماء العرب والمسلمين، الذين نبغوا فيها، وألّفوا بها أصناف المعارف، محض مغالطة وتضليل، ولكن نقول أنّ فاقد روح الإصلاح وفاقد الثقة بنفسه وبلغة الضاد لن يعطي أكثر مما أعطى. وكم وددنا أن يتفتح الأستاذ على ما يجري حولنا وبالقرب منا، في مجال إصلاح النظام التربوي، وتطوير مسار التعريب، حيث أكد السفير الجزائري وعضو المجلس الأعلى للغة العربية والخبير في اللسانيات السيد عثمان السعدي، أثناء مداخلته أخيرا حول قضية التعريب في المغرب العربي في مؤسسة التميمي، "أن الجزائر حققت نجاحا مشهودا في تعريب كافة المواد العلمية، في كامل مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، وذلك منذ اثنتي عشرة سنة " وقد أكبر الحاضرون هذا الإنجاز، واعتبروه ثورة ثقافية جزائرية رائدة، بل اعتبروه معجزة نادرة، بعد خضوع هذا البلد الشقيق لاستعمار فرنسي ماحق، فرض فيه لغته وثقافته على البلاد برمتها، طيلة مائة وثلاثين عاما، كما اكبروا الرؤية الإصلاحية التربوية الواضحة لدى المسؤولين السياسيين ولدى الإطار التعليمي في الدولة الجزائرية، كما بين السفير في نفس السياق أنّ بلاده بصدد أعداد إستراتيجية واضحة المعالم والآجال للشروع قريبا في تعريب العلوم في الجامعات الجزائرية. وكم ودّدنا أيضا أن يطلع الكاتب على دراسة مطوّلة للأستاذ طارق الكحلاوي المدرس بجامعة "روتغرز" حول التعريب وتعليم اللغات، نشرت في حلقتين بجريدة "الصباح " جاء في الحلقة الثانية المنشورة بنفس الجريدة يوم 2 أكتوبر 2010 قوله:" إنّ اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس ناقلة للعموم والمعارف أمر أكثر من ضروري وأكثر من حتمي، إذ أثبتت التجارب في كل البلدان المتقدمة المزايا والفضائل لتدريس العلوم بالاعتماد أساسا على اللغة الأم، إذ بها وحدها يمكن توطين المعرفة وتجذيرها وتخصيبها". مضيفا في ذات السياق:"إنه ينبغي القطع مع الترّدد في ميدان التعريب، إذ لا سبيل إلى إنكار العلاقة العضوية والوجودية بين هوية الشعب ودولته وبين لغته العربية". أمّا ما جاء في بقية نقاط مقال الأستاذ محمد الحمار فقد كان ثالثة الأثافي، إذ دعا إلى دمج العامية مع الفسحة في عملية التعليم، ولسنا ندري أيّ عامية يعني من العاميات المتعددة في بلادنا، متجاهلا تماما أنّ هذه الدعوة باءت بالفشل، منذ أوائل القرن الماضي، لأسباب موضوعية ومنطقية مختلفة، ليس هنا محل الخوض فيها. ومن باب الحرص على تأمين أكبر قدر ممكن من النجاعة لأيّ خطة إصلاح، تهدف إلى تطوير النظام التربوي، وتعليم اللغات، وتفعيل مسار التعريب، نرى في أعقاب هذا الرّد، أنه ينبغي أن يكون إعداد هذه الخطة إعدادا جماعيا مركزا، تكون الكلمة الأولى فيه لأهل الخبرة الثابتة، والتجربة الطويلة، وأصحاب النظرة الإصلاحية ذات البعد الوطني والقومي على المدى القريب والبعيد. * أستاذ جامعي وعضو اتحاد الكتاب التونسيين