فجّر «كازينو لابلاج» وساند بن يوسف فحكم عليه بالأشغال الشاقّة عرفت ولاية بنزرت بولاية الجلاء والنضال والوطنية لدى القاصي والداني ...لا فقط لأنها ولاية من ضمن 24 ولاية تحتضن شعبا عظيما جبل على حب الانتماء للوطن تونس وعدم الخنوع لأي قاهر كان، أو لأنها تحتضن النصب التذكاري لشهداء الوطن وحركة التحرير بل لأنها «ولادة ووسادة» لكبار المناضلين الشرفاء الذين خاضوا معركة استكمال استقلال تونس في معركة بنزرت ذات يوم 15 أكتوبر من سنة 1963...مناضلون عديدون ومن كل أرجاء البلاد وخاصة من بنزرت التي استشهد الكثير من أبنائها، ليرى الشعب التونسي أرضه حرة منيعة ولينطلق بعد ذلك في بناء الدولة في مرحلة أولى ثم الجمهورية الثانية في أعقاب ثورة 14 جانفي، ومن بينهم ذكرا لا حصرا المناضل الكبير محمد الصالح البراطلي الذي وافق يوم 2 جانفي الجاري الذكرى الثانية لرحيله. اخترنا أمام صمت رفاقه ممّن عاشرهم وسمعنا عنهم والذين جمّعتهم ذكرى وفاته وهم يؤكدون أنهم لن ينسوه قبل أن تأخذهم دنيا السياسة عن حتى تنظيم مائدة مستديرة لاعادة الاعتبار إليه بعد أن تناساه الجميع ولم يوفوه حقّه ولا حق أسرته بما في ذلك الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة.. «التونسية» التقت ابنه «نزار» في بيته وخرجت بحكايات عظيمة وصادقة عن مناضل وهب حياته للبلاد ولم ينتظر من أهلها مقابلا. يقول «نزار»: «الحاج المرحوم البراطلي لمن لا يعرفه مناضل ولد في 16 أكتوبر 1928 بمدينة بنزرت أين درس بالمدرسة القرآنية ثم انتقل إلى مدرسة «فرانكو اراب» حتى سنة 1942 حيث انقطع عن الدراسة بسبب الحرب و انتقل مع عائلته إلى هنشير جبل الكشابطة، وفي سنة 1943 عاد إلى بنزرت واشتغل لفترة مساعد صيدلي ثم اشتغل في البناء... عمل وكدّ دون أن يسعى لنيل الهدايا وحتى عقب الثورة لم يركب على الأحداث مثلما فعل البعض ممن كانوا يسيرون خلفه بل آثر الانزواء ولسان حاله يقول انا عملت وناضلت من أجل تونس لا من أجل شخصي مثلما يلهث بعض «الصغار والشيوخ وأشباه الأسياد» متناسين أن «كبار الحومة» لا يزالون على قيد الحياة.. المرحوم الحاج محمد الصالح البراطلي مسيرته تغني عن كل تعليق فقد عرف ويلات الحرب العالمية و«وقت الهربة» مثلما يطلق عليها قبل أن يلتحق سنة 1948 بالحزب الحر الدستوري وكذلك بجمعية الشبان المسلمين مع القائد الشيخ حمودة بوقطفة وأول فرقة كشفية للجمعية في البلاد، فنهل من هذا الجانب وذاك معاني الوطنية والالتزام... إلى غاية سنة 1952 موعد مشاركته في مظاهرة ببنزرت ضد احتجاز بعض النسوة في باجة فاتّصل به أحمد بن صابر وقدور الصدقاوي واتفقوا على القيام برد فعل يكون مؤثرا على المستعمر آنذاك. فكان أن تم التخطيط للقيام بسلسلة تفجيرات قوية في أماكن حساسة هي الاولى من نوعها في البلاد كلها.. الحاج محمد الصالح البراطلي شرّك معه آنذاك عم علي بن سالم وحمدة العباسي وشقيق قدور الصدقاوي وكانت عملية تفجير مولد الكهرباء الضخم بالمدينة وكذلك بحي الأندلس والتي أحدثت ضجة كبرى في البلاد والعالم حيث نقلتها آنذاك اذاعة «لندن أو لندرة كما يقال في اللّهجة الشعبية»... وهي العمليات التي جعلت الحاج البراطلي معروفا بين رفاق الحركة النضالية لا في بنزرت فقط بل وكذلك في تونس عامة ممّا دفع المنجي سليم للاتّصال به عن طريق محمد دربال طالبا منه اعداد المتفجرات التي اختص فيها ونجح الحاج البراطلي، قبل أن يكتشف أمره هوّ ورفاقه من قبل المستعمر مما جعله وعدة رفاق يغادرون إلى القطر الشقيق ليبيا ثم إلى مصر أين تدرب ضمن فرق الكومندوس قبل العودة إلى طرابلس وكان أيامها الحارس الشخصي للمناضل علي الزليطني. ومن الطرائف الجميلة أيامها استقباله وإيواؤه لأول رئيس للجزائر المرحوم أحمد بن بلة طيلة أسبوع كامل في بيته هناك في طرابلس دون أن يعلم أنه بن بلة حيث أكرمه وأحسن تبجيله بأخلاقه العالية وشهامته التي عرف بها، لكن مع سنة 1955 بدأت بوادر الانشقاق تظهر بين بورقيبة وبن يوسف فاختار الحاج البراطلي شق صالح بن يوسف ومعه كثيرون بل وكان حارسا شخصيا له، فتم ايقافه من قبل لجان الرعاية التابعة للحزب وعذب اشد العذاب في «صباط الظلام» على ايدي الطيب السحباني وحسين العيادي وغيرهم كثير ممن سجلت أسماؤهم على لسان الحاج ورفاقه من قبل معهد تاريخ الحركة الوطنية ومؤسسة التميمي للبحوث وغيرهم. ثم أرسل إلى سجن الزندالة أو سجن البايات وكان معه صلاح الزمني ورضا بن عمار وعدة شيوخ وحكم عليه ب5 سنوات بعد أن كانت 10 سنين ثم نقل إلى سجن 9 أفريل حيث قضى سنتين ونصف قبل أن ينفى إلى باجة وبقي هناك الى غاية جويلية 1961 تاريخ اندلاع حوادث بنزرت حيث تم استدعاؤه من قبل الوالي أيامها والطيب المهيري وزير الداخلية للقيام بالواجب والدفاع عن المدينة فكان أن نسي كل ما حدث له وعاشه من سجن وابعاد وظلم ولبى نداء الواجب وكان أحد العناصر الفاعلة في مقاومة الاستعمار والذود عن شرف البلاد والعباد ممّا جعله يعرف لدى أترابه والذين عاشروه بالإقدام والشجاعة وعدم الخوف والرهبة وطلب الشهادة دفاعا عن الحرية والكرامة ويكفي ذكر عمليته النوعية التي قام بها رفقة صلاح الزرني بتفجير «كازينو لابلاج» وهي من العمليات الخطيرة جدا والنوعية على طريقة الأفلام الحربية العالمية، لكن كان جزاؤه بعد نهاية الحرب وتحديدا صباح أول يوم بعد زواجه أن طُلبت منه العودة للمنفى في باجة لاكمال محكوميته قبل أن يتدخل الطيب المهيري لنقض القرار... الانقلاب على «بورقيبة»... وسرعان ما عادت حياة الحاج محمد صالح البراطلي للدوران مع احداث الانقلاب على بورقيبة أو التي سميت ب«المؤامرة» حيث لعب محمد الصالح البراطلي دورا هاما جدا واساسيا اذ كان حلقة الربط بين مجموعة بنزرت والتي تضم ذكرا لا حصرا عم علي بن سالم ومحمد قارة وعلي بن بشير والحبيب الجمني وقدور بن يشرط وبشير الجمني والحبيب حنيني ويونس الحداد والحبيب السوسي ومسطاري سعيد... ومجموعة قفصة التي من بينها العربي العكرمي ولزهر الشرايطي وساسي لسود. ووفقا للوثائق المكتوبة والتسجيلات الصوتية التي لدينا فإن الحاج البراطلي كان سيكون منفذ عملية تصفية بورقيبة، قبل أن يكشف أمر الحركة ويحكم عليه بالأشغال الشاقة مدى الحياة وقبلها عرف أشدّ أنواع التعذيب والتنكيل خلال فترة البحث والتحقيق إلى درجة انه لم يعد يقوى على المشي وجيء به إلى قاعة المحكمة متكئا على عصا ولكنهم لم يضفروا منه بأيّة معلومة مثلما تؤكده بحوث المؤرخين وعائلته التي عرفت معه الترهيب والتعذيب وخاصة زوجته الحاجة آسيا وابنته الكبرى ثريا التي عاشت يتيمة الأب طيلة 7 سنوات قبل أن تصل أول رسالة للمنزل وتعلمهم أن الحاج البراطلي حيّ يرزق وكذلك شقيقته منانة وزوجة أخيه خيرة فرتونة البراطلي اللّتين كانتا من أولى سجينات الرأي في تونس بعد حبسهما من قبل بورقيبة قبل أن يقرر اطلاق سراحهما وأيضا صهره الدكتور يوسف البراطلي الذي سجن بلا محاكمة وهو يستعد لاجتياز امتحان «الباك» وهو المعروف بأنّه أنجب نجباء الولاية قبل أن ينقذ نفسه ويغادر الى فرنسا للاستقرار والتميز العلمي هناك على عكس بعض الموقوفين من زملائه والذين لم يقووا على تحمل التعذيب فاعترفوا بكلّ شيء... عم محمد الصالح البراطلي حكم عليه بالأشغال الشاقّة مدى الحياة فقضى منها 11 سنة منها 4 سنوات في كرّاكة غار الملح أين عومل مع بقية زملائه معاملة قاسية جدّا قبل ان ينقل للسجن سيء الذكر «الناظور» حيث قضى 7 سنوات منها 5 سنوات بالتمام والكمال في الداموس الشهير حيث كان النزلاء يأكلون الحجر والصبة في محيط مظلم وقاس. وفي عهد بن علي واصل الحاج محمد الصالح البراطلي تقديم العون والوقوف إلى جانب صوت الحق والحرية سواء في اطار حركة الديمقراطيين الاشتراكيين أو صلب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان أو جمعية المساجين السياسيين كعضو شرفي أو في دعم ومناصرة شخصيات عديدة وكثيرة نذكر منها الرئيس السابق للبلاد الدكتور المنصف المرزوقي وسهام بن سدرين ومحمد بن سعيد ولطفي الحاجي وراضية النصراوي والمستشار السابق لدى السيد وزير حقوق الانسان والعدالة الانتقالية فوزي الصدقاوي وأيضا يسين البجاوي وخالد بوجمعة وعم علي بن سالم قيدوم الحقوقيين وعثمان الجميلي وعلي النفاتي وغيرهم كثيرون وكثيرون... مسيرة متقلبة فيها الوردي وفيها المظلم ولكنها كانت مسيرة مناضل عظيم وصادق لم ينتظر جزاء من أحد الا أن يرى وطنه حرّا مستقلاّ.