جمعت 3 وزارات.. جلسة عمل للوقاية من حرائق الغابات والمزارع لصائفة 2024    المنصف باي.. الكشف عن عملية سرقة باستعمال النطر والإحتفاظ بشخصين    كرة اليد.. الترجي يحقق فوزه الاول في بطولة إفريقيا للأندية الفائزة بالكأس    استكمال تركيبة لجنة إعداد النظام الداخلي بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم    المنستير للجاز" في دورته الثانية"    جندوبة: حجز أطنان من القمح والشعير العلفي ومواد أخرى غذائية في مخزن عشوائي    عبد الكريم قطاطة يفرّك رُمانة السي آس آس المريضة    منوبة: حجز طُنّيْن من الفواكه الجافة غير صالحة للاستهلاك    بنزرت: القبض على تكفيري مفتش عنه ومحكوم ب8 سنوات سجنا    «لارتيستو»...الفنانة خديجة العفريت ل«الشروق».... المشهد الموسيقي التونسي حزين    ابداع في الامتحانات مقابل حوادث مروعة في الطرقات.. «الباك سبور» يثير الجدل    فضيحة في مجلس الأمن بسبب عضوية فلسطين ..الجزائر تفجّر لغما تحت أقدام أمريكا    بعد القبض على 3 قيادات في 24 ساعة وحجز أحزمة ناسفة ..«الدواعش» خطّطوا لتفجيرات في تونس    أخبار الترجي الرياضي .. أفضلية ترجية وخطة متوازنة    وزير الشباب والرياضة: نحو منح الشباب المُتطوع 'بطاقة المتطوع'    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب    القصرين..سيتخصّص في أدوية «السرطان» والأمراض المستعصية.. نحو إحداث مركز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة    توقيع مذكرة تفاهم بين تونس و 'الكيبيك' في مجال مكافحة الجرائم الالكترونية    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    ماذا في اجتماع وزيرة الصناعة بوفد عن الشركة الصينية الناشطة في مجال إنتاج الفسفاط؟    عاجل/ هذا ما تقرّر بخصوص زيارة الغريبة لهذا العام    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    عاجل/ تعيين مديرتين عامتين على رأس معهد باستور وديوان المياه    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    سيدي بوزيد: وفاة شخص وإصابة 5 آخرين في اصطدام بين سيارتين    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    عاجل: زلزال يضرب تركيا    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجارة الموازية :سلاح العولمة لتدمير الدّول
نشر في التونسية يوم 19 - 01 - 2016

كيف تحوّل تجّار الحدود وشبكات الصرف و«الكناترية» إلى دولة داخل الدولة؟
جاءت الثورة التونسية لتثير في الآن ذاته عديد القضايا المتعلّقة بمسائل: «التحرّر والتحرير»، «المركز والهامش» و«الرسمي والموازي» و«المهيكل والمهمّش». فكانت من بينها مسألة الفضاءات الحدودية والحركيّة التي شهدتها عقب ثورتين متجاورتين (التونسية والليبية) جعلتا أصحاب النظر من القوى المهيمنة – وهي التي لا تزال تعتبر مسألة الحدود بين الدول العربيّة من مشمولاتها الجيوسياسية في العالم- تستنفر أجهزتها لمراقبة تلك الفضاءات التي صارت محلّ اهتمام ومحور بحث وتقصّ لعديد مراكز الأبحاث والاستشراف والمؤسّسات الدولية في العالم.
في هذا السياق أصدر مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية دراسة حول المفاصل الجيوسياسية الحسّاسة المتمثّل في الفضاء الحدودي وقطاع التجارة الموازية والتهريب المتبلور فيه كمجال يختزل جملة من التقاطعات، داخلية بين الهامش والمركز، وخارجية مثّلت العولمة أحد أبرز الفاعلين فيه.
فلئن شهد الفضاء الحدودي التونسي الليبي منذ أواخر الثمانينات حركيّة بشريّة وتجاريّة لم نشهد لها مثيلا منذ ميلاده إبان الحقبة الاستعمارية في بداية القرن العشرين (1910) فإنّ هشاشة الوضع الأمني في الفترة الإنتقاليّة (ابتداء من 14 جانفي 2011) فسحت المجال لتغوّل شبكات التهريب ممّا سبّب أضرارا كبيرة لاقتصاد البلاد وساهم في غلاء المعيشة جرّاء تهريب بعض المواد الغذائية الأساسية والفسفاط والمنتوجات الفلاحية والأدوية إلى القطر الليبي الشقيق. وعلى الرغم من إحباط الجيش الوطني والحرس الديواني والحرس الحدودي العديد من عمليّات تهريب للممنوعات من السلع والعملات الأجنبية فإنّ مقاومة الظاهرة كانت جدّ متواضعة أمام الحجم الحقيقي الذي باتت تتمتّع به هذه الشبكات العاملة بين الحدود البرية للبلاد على الجانبين الليبي والجزائري. وقد كانت سنة 2012 سنة مرجعيّة في عدد عمليات التهريب التي تمّ إحباطها، إذ سجّلت فيها اللّجنة الفرعية لمقاومة التهريب (الوزارة الأولى) تزايدا بنسبة 330 ٪ مقارنة بسنة2011 وبنسبة 9 ٪ مقارنة بسنة 2010. فقد تبيّن أنّ ظاهرة التهريب وسّعت نشاطها وبسطت شبكاتها في جلّ القطاعات الإقتصادية والمجالات، وهذا دليل على أنّها قد شهدت تطوّرا لا سابق له إبان حكم بن علي واستقرّت في مكامن الحياة الإقتصادية للبلاد ومفاصل إدارة الدولة ممّا خوّل للعاملين فيها مواصلة نشاطهم حتى بعد سقوط رؤوس شبكاتها. فقد شملت هذه الظاهرة كافة القطاعات من مواد ومنتجات فلاحية ومواش وأبقار ومواد غذائية ومواد ومنتوجات معملية ومنجمية (اسمنت مسلّح، فسفاط) وأدوية ومخدّرات وذهب وعملة صعبة وأسلحة صيد وذخيرة وغير ذلك. ومن هذا المنحى وغيره باتت ظاهرة التجارة الموازية والتهريب تتبوّأ درجة غير مسبوقة في سلّم المخاطر الاستراتيجية المهدّدة لأمن البلاد واقتصادها وأصبح من الضروري تشخيصها واستشراف انعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على المدى المتوسّط والبعيد.
من المعلوم لدينا أنّ الأسواق الموازية التي فرضتها ديناميكيّة شبكات التجارة الموازية في المجال الحدودي التونسي الليبي، منذ نهاية الثمانينات (ومركزها مدينة بن قردان)، سرعان ما انتشرت مثيلاتها على كامل التراب التونسي مدنا وقرى (مدينة الجمّ مثالا). ومن المؤكّد أنّه لا يمكننا فهم هذه الظاهرة وسرعة انتشارها على امتداد دول الجنوب دون الرجوع إلى السياق العام الذي أفرزها ألا وهو «العولمة». فإذا ألقينا نظرة على خريطة الشبكة العالميّة للتجارة الموازية سنجد أنّ هذه الأسواق تتوزّع في جلّ القارات وخاصّة في عديد البلدان العربية والإفريقية والآسيويّة، التي بات البعض من عواصمها كدبيّ من المرافئ الكبرى للتجارة الموازية والمزوّدة لشبكات التوزيع العالمية.
ومن هذا المعطى فإنّ شبكات التجارة الموازية التونسيّة تنخرط هيكليّا وتنظيميا في سياق «العولمة المتخفيّة» أو بمعنى أدقّ العولمة التي صيغت لدول الجنوب ذات الدخل المتدنّي والتي اتخذت من هذه الشبكات «حصان طروادة» لفتح أسواق موازية لبضائعها الجديدة والتي هي نماذج مقلّدة -لا تلتزم بمعايير الجودة التي تميّز البضاعة الأصليّة- ومن هذا المنظور الفنّي فهي «بضاعة موازية» أيضا إلاّ أنّها تُغري المستهلك لسعرها الزهيد. وهذه البضاعة الموازية المصنّعة بتكنولوجيا أمريكية في الصين ودول جنوب آسيا تحت إشراف الشركات «عبر الوطنيّة» (société transnationale) وبتمويل من المؤسّسات المالية الأمريكية والأوروبية الكبرى تكون معدّة للتصدير لأسواق دول الجنوب حصريّا وتُمنع منعا باتا من الدخول لأسواق دول الشمال التي تُخصَّص حصريّا للبضائع ذات المعايير الأصليّة وحيث تُشدّد الرقابة الديوانيّة لمنع دخول البضائع الموازية أراضيها. وحسب إحصاءات إدارة الديوانة الفرنسية فإنّ حجم البضائع المقلّدة التي يقع حجزها من مصالحها قد تضاعف إلى حدود 44،5 مرّة بين سنتي 1994 و2011 قافزا من 200000 قطعة محجوزة إلى 8،9 مليون قطعة لنفس السنوات المذكورة، وقد بلغت البضائع المقلّدة التي حجزتها مصالح الديوانة الأوروبية عام 2010 أكثر من 103 ملايين قطعة بقيمة قدّرتها ب: 1،100 مليار أورو، ويعزون هذا لتطوّر التجارة عن طريق شبكة الأنترنت. أمّا غرفة التجارة العالمية فقد ذكرت أنّ جملة الخسائر التي يتكبّدها الاقتصاد العالمي الرسمي فاقت الألف مليار دولار (1000 مليار دولار) سنة 2011 وأكثر من و1770 مليار دولار موفّى سنة 2015. كما يتّضح من جلّ الدراسات المهتمّة بالموضوع أنّ نسبة 80 ٪ من إنتاج هذه البضائع يقع في الدول الآسيويّة ( خصوصا الصين).
كما اتضح أنّ ما يسمّى ببضاعة مقلّدة أو بضاعة موازية ما هي في الحقيقة إلاّ نتاج استراتيجيات تجارية لشركات عالمية كبرى مختصّة في التكنولوجيات الحديثة تستهدف إنشاء أسواق جديدة في العالم والتعريف بمنتجاتها وخاصّة في دول الجنوب. ولقد سخّرت من أجل هذا الهدف -غير المعلن- عدّة إجراءات من بينها تحويل جزء هام من استثمارات المؤسّسات المالية الكبرى لاستثماراتها بالخارج نحو الصّين التي باتت تحتلّ مرتبة «دولة ذات حظوة» لدى الولايات المتّحدة، كما فتحت الولايات المتّحدة المسالك التجارية البحرية والجوية العالمية أمام هذا النشاط الجديد.
وفي ظلّ ما توفّره العولمة من حريّة تنقّل و«انتجاع» للمؤسّسات الصناعيّة والخدماتيّة ولرأس المال العالمي بين القارّات والدول، لنا أن نتساءل: هل ما زالت المفردات من قبيل «الواردات» و«الصادرات» لعصر ما قبل-العولمة تؤدّي نفس المعنى في عصرنا الحاضر؟ إذ ما معنى إدراج منتوجات صنّعها بلد ما خارج حدوده ثمّ جلبها لسوقه المحلي في خانة «الواردات»؟
وحسب موقع ويكيبيديا، هناك أكثر من 20000 شركة ذات رأس مال مشترك (صيني أمريكي) في الصين وأكثر من 100 مؤسّسة متعدّدة الجنسيات مقرّها الولايات المتحدة تستثمر مباشرة في الصين. وحسب إحصائيات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (CNUCED, 2009) لسنة 2008 فإنّ عدد هذه الشركات عبر الوطنيّة (STN) في العالم النامي بلغ 82000 شركة أمّ أنشأت 810000 شركة فرعيّة لها في عموم العالم وهي تساهم في تشغيل سبعة وسبعين مليون شخص (77000000 شخص) كما أنّ المائة شركة (STN) الأكبر تستفرد لوحدها بإنتاج 16 ٪ من الثروات الجديدة في العالم وتساهم في الناتج الداخلي الخام العالمي بنسبة مستقرّة منذ عام 2000 تقدّر ب 4 ٪.
إضافة لكلّ هذه المعطيات التي ذكرناها وبالتوازي مع هذه الإستراتيجية المُعتمدة من الدّول الكبرى، تطلّ علينا بعض المفاهيم النظريّة المموّلة من البنك الدولي والمعلّبة للغرض من بعض مراكز الدّراسات الغربيّة المعتمدة، من أهمّها مفهوم «الحَوْكمة». إنّ هذا المفهوم الجديد هو دعوة مباشرة للشبكات المحلية للتنظّم من خلاله ومقارعة الهيكل الكلاسيكي للدولة الوطنية الذي بات عبئا وعائقا أمام حركة رأس المال العالمي ومتطلباته الجديدة، حيث تحبّذ الليبرالية المتوحشة التعامل مع الفضاءات المرتبطة بالشبكات عوضا عن الفضاءات المرتبطة حصريا بمجالاتها الترابية التي تختزلها مفاهيم الدولة التقليدية في مفاهيم «السيادة الوطنية» و«السيادة الترابية» إلى غير ذلك…ويبدو أنّ الرهانات الجيوسياسيّة الجديدة للدول الكبرى باتت تتّجه نحو إضعاف الهيكل البنيويّ للدولة في منطقة ربيع الثورات العربيّة وذلك بعد إزاحة وكلائهم من على رأس تلك الدّول التي أصبحت، موضوعيّا، تُدرج في خانة الخطر الإستراتيجي -غير المعلن- لمصالحهم بالمنطقة.
ونلاحظ، في فترة ما بعد الثورة، أنّ عمليّة الخلط بين ظاهرة التهريب والإرهاب التي تسرّبت إلى بعض أجهزة الدّولة وصارت متداولة في عديد وسائل الإعلام لم تكن نتيجة أبحاث ودراسات لمختصّين في المجال بقدر ما تبدو توصية من أجهزة استخباريّة أجنبية تسعى إلى خلق نوع من التوجّس لدى الشعب -عبر فزّاعة الإرهاب -لتثبيت وجودها في تلك المفاصل الجديدة التي أنشأتها الديناميكيات الاجتماعية عبر التواصل والمبادلات عبر-الحدودية في ذاك الفضاء الذي لا تزال تعتبره مجالا جيوستراتيجيا خاضعا لأنظارها.
ومن الواضح أنّ للولايات المتحدة الأمريكية مصالح كبرى في عدّة مناطق من العالم، وخاصّة في ما يخصّ سيطرتها على المضائق البحرية وتأمين الخطوط التجارية الكبرى ومنابع النفط ومسالك توزيعه ومسألة الحدود.
وقد أثارت الثورات العربية كلّ هذه المسائل في آن واحد (في اليمن ومصر وتونس) في غفلة من مراكز الاستشعار التابعة للدول المهيمنة، فبادرت الولايات المتحدة باستخدام فزّاعة الإرهاب، خاصة بعد إعادة توجيه السياسات الاستراتيجية الأمريكية بمنطقة الربيع العربي ابتداء من منتصف سنة 2013.
و«فزاعة» الإرهاب بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية هي بمثابة العلامات الحدودية الدّالة على فصل للمجالات السياديّة بين الدول، فهي عادة ما تكون مقدّمات لتدخّل أمريكي في منطقة ما، وذلك على غرار ما قامت به في أفغانستان (2001) أو العراق (2003) أو كما تقوم به فرنسا من عمليات عسكرية جنوب الصحراء الكبرى ضدّ شعب الطوارق وثورته (الممثّلة خاصة في الحركة الوطنية لتحرير أزواد) في مالي تحت غطاء محاربة الإرهاب، وذلك حماية لمصالحها النفطيّة وتأمين شركاتها المستغلّة للموارد الطبيعية ومناجم الذهب والفسفاط واليورانيوم جنوب الصحراء في خطّ ممتدّ من موريتانيا إلى التشاد مرورا بمالي والنيجر.
ومن هذه المنطلقات تصبح دراسة ظاهرة التجارة الموازية والقطاع الموازي بصورة عامّة ذات قيمة استراتيجية عالية تدخل في حدّها الأعلى ضمن الحيّز الخاص بأمن الدولة وديمومتها وفي حدّها الأدنى تنبّه إلى عدم التفريط في مكتسباتها جرّاء الإنخراط الأعمى في مخطّطات القوى المهيمنة ومشاريعها للمنطقة.
بعد الاستقلال، وعلى مرّ العقود، صارت مسالك التهريب التاريخية التي استعملتها المقاومة التونسية تستخدم من قبل شبكات التهريب المحلية مستعملة إياها في السبعينات لتهريب اليد العاملة (والتي تسمّى محليا ب «المازقري») إلى القطر الليبي وجلب الذهب والمصوغ منه، ثمّ ابتداء من الثمانينات ازدادت وتيرة تهريب السلع بمختلف أنواعها لتصل أوجها في التسعينات على إثر فتح الحدود التونسية الليبية. وقد برزت ظاهرة تهريب المخدرات وتفاقمت قضايا الحجز فيها من قبل حرس الحدود لتصل أوجها خلال سنوات الألفين ممّا يدل على استفحال هذه الظاهرة وترسّخها في هذا المجال سيّما أنّ المتنفذين في حكم بن علي من أصهاره وغيرهم صاروا من الراعين لهذا النشاط.
إبان الثورة الليبية ازدادت وتيرة احتكار المواد الغذائية والأدوية وتهريبها إلى القطر الليبي، وتواصلت لتأخذ شبكات التهريب أشكالا متطوّرة في التنظّم سعيا لتلبية المتطلبات الضخمة للسوق الليبية من مختلف أصناف السلع، ممّا تسبّب في أزمة في السوق الداخلية التونسية، حيث شحّ العرض في أغلب السّلع وانقطع تماما في البعض الآخر مع ارتفاع مشطّ للأسعار. وقد لاحظنا انخراط بعض المضاربين وتجار الجملة وأصحاب مخازن التبريد المنتشرين في عموم البلاد في منظومة الإحتكار وربط البعض منهم صلات بشبكات التهريب المختصّة في المواد الفلاحية التي تقلّص فيها دور أسواق الجملة حيث وصل البعض من الوسطاء والمهربين إلى التعامل مباشرة مع الفلاح مثلما اختصّت شريحة أخرى من المهربين في المواد الغذائية ومادّة الحليب ومشتقاته التي غالبا ما كانت تهرّب في شاحنات صغيرة وسريعة أو مموّهة تحت مواد انشائية أو معملية تحملها الشاحنات الثقيلة.
كما ازدهرت ما يسمّى ب «تجارة الليل» التي تمثّلت في حركة شاحنات صغيرة (نوع أوسيزي) ومتوسطة الحجم (نوع OM وIVECO) وثقيلة عابرة طريقها نحو رأس جدير أو ذهيبة طوال الليل ودون انقطاع محمّلة بشتى أنواع السلع المنجميّة منها والمعملية (الصناعيّة والغذائيّة) وخاصّة المنتوجات الفلاحية وقطعان الماشية (أغنام وأبقار وماعز). كلّ هذه الحركية التجارية النشطة على المستوى الرسمي والموازي، ساهمت من جانبها الإيجابي في إنعاش الاقتصاد . أمّا من جوانبها السلبية فقد أحدثت إرباكا كبيرا في قاعدة العرض والطلب في السوق المحلية وارتفاعا في مؤشّر الأسعار ونسب التضخّم المالي، الشيء الذي جعل الحكومة تستورد الخرفان من الخارج لتعويض النقص الحاصل وسدّ حاجات المواطنين بمناسبة أعياد الإضحى. من جهة أخرى تعالت أصوات نواب من المجلس التأسيسي وقوى المجتمع المدني ووقفت بحزم تجاه ظاهرة التهريب واتُّهمت شبكاتها بكونها أصبحت ذراعا من أذرع قوى الردّة والثورة المضادّة.
تعريفات
«مواز»، «غير رسمي»، «مهمّش»، «غير مهيكل»،… للتسميات أهمّيتها، فقطاع «مواز» يعني ضمنيّا وجود عالمين يتعايشان الواحد حذو الآخر، أي بمعنى أدقّ «الموازي» حذو «الرسمي» وذلك دون أن يكون لعوامل وجود أحدهما أيّ نوع من أنواع الإرتباط بعوامل وجود الآخر، في هذه الحالة يكون لكلّ قطاع مركزه وهامشه الخاصّ به تماما كما يحدث بالنسبة لظاهرة «التجارة الموازية» أو«التهريب». إذ يمكن اعتبار «التجارة الموازية» إحدى ميكانزمات «العولمة المتخفية» مركز انتاجها منطقة جنوب شرق آسيا وخاصة الصين، فيما تمثّل المجالات الوطنية لدول الجنوب هامشا لنشاطها تبلور بفتح أسواق وشبكات تزوّد وترويج محلية موازية.
أمّا تسمية «قطاع مهمّش» فهي تتضمّن وجود علاقة وارتباط مع «القطاع الرسمي» الذي يمثّل «المركز» ل«هامش» يُعتبر قطاعا غير ذي أهمّية ولا تغطّيه القوانين الشغليّة والإجتماعية المنظمة للقطاع الرسمي فأصبح يعيش على هامشه مستفيدا من هشاشة التوازنات الإجتماعية لخلق فضاءات للتبادل خاصّة به مثل الباعة المتجوّلين وعملة المنازل ومختلف المهن الصغرى غير القارّة.
وأخيرا تأتي تسمية «القطاع غير المهيكل» لتوحي لنا ضمنيّا بوجوده داخل «القطاع الرسمي» الذي صار يحتوي على «قطاع مهيكل» وآخر «غير مهيكل» وذلك جرّاء انخرامات بنيويّة في المنظومة الإنتاجية الرأسمالية داخل «القطاع الرسمي» لكن يبقى يستمدّ من الأوّل أسباب وعوامل وجوده. و«للقطاع غير المهيكل» أهمّية كبرى في التنفيس عن المنظومة الرأسمالية للقطاع الرسمي عند «الأزمات» حيث يتكفّل بالضغط على المصاريف وكلفة الإنتاج ومنها كلفة اليد العاملة والجباية فهو ظاهرة وليدة للقطاع المهيكل وظهير لمنظومته الإنتاجية الرأسمالية مثل الوحدات الإنتاجية الصغرى.
وتندرج ضمن ما اصطُلح على تسميته اقتصاد غير رسمي كلّ عمليّة إنتاجية أو تجاريّة لا يشملها الجرد ولا تخضع للقوانين الرسميّة المنظمة للشغل ولا تغطّيها الجباية ضريبة أو إعفاء، وهو لصيق بالاقتصاد الرسمي الذي يمثّل مركزا للهامش الذي يتبلور فيه». ولإضفاء صفة أشمل على تعريف « الاقتصاد غير الرسمي» علاوة على توصيفاته المعتمدة عالميّا والتي تخصّ عدم التزام منتسبيه بالتشريعات والقوانين الرسميّة المنظمة للشغل وظروفه الإجتماعية والبيئية وجب التركيز على صفة «التهرّب الضريبي» الجامعة لكلّ تعريفاته المتفرعة منه، حيث نجد مؤسّسات كبرى تنشط في القطاع الرّسمي لدول الجنوب تلتزم بقوانين العمل والتشغيل ولكن لارتباطها بمنظومة الفساد في أنظمة الحُكم الإستبدادية فهي غالبا ما تُعفى من الضرائب على المواد المورّدة التي تدخل في عمليّة الإنتاج (les Intrants) وذلك بعمليّة «غضّ بصر ممنهج»، وبإذن خفيّ من السلطات الإستبدادية الحاكمة («الإعفاء الجبائي غير المُعلن»). وبتوسيع مفهوم الإقتصاد غير الرسمي سنجده يشمل عديد المؤسّسات الكبرى في القطاع المهيكل فهي وإن وُجدت غالبا بالمناطق ذات الحظوة ستتساوى -بمقياسنا الذي يرتكز أساسا على الجباية- مع الناشطين في التجارة الموازية بالفضاء الحدودي. فبمقياس الإنعكاسات السلبيّة على إقتصاد البلاد وانخرام العدالة الإجتماعية في توزيع الثروة يتساوى التاجر المُدرَج ضمن القطاع المهيكل داخل البلاد والمتهرّب من الضريبة مع المهرّب الحدودي أو المتعاطي للتجارة الموازية.
أمّا «التجارة الموازية» (commerce parallèle) والتي بدأت بالظهور في تونس منذ موفى ثمانينات القرن العشرين فيمكن اعتبارها ظاهرة موازية لا تمتّ بصلة إلى الإقتصاد الرسمي أو غير الرسمي من حيث المنشأ والصيرورة ويمكن تعريفها كما يلي: «تندرج ضمن ما اصطُلح على تسميته «تجارة موازية» كلّ عمليّة تبادل تجاري ومالي (مبادلات سلعية وخدماتية وماليّة) في الفضاء الحدودي، لا يشملها الجرد ولا تخضع للقوانين الرسميّة المنظمة للقطاع، كما لا تغطّيها الجباية ضريبة أو إعفاء. تنطلق مراحلها الأولى من خارج البلاد لتُستكمَل مراحلها الأخيرة (الترويج والاستهلاك) داخل حدودها.
ويسمح هذا النشاط بتزويد السوق المحليّة بالبضائع عن طريق المعابر بواسطة شبكة من العاملين دأبت على مراوغة الإجراءات والتراتيب القانونية الجاري بها العمل (كالاستيراد المتواتر للسلع المعدّة للاستهلاك العائلي -في حدود الكمّية المسموح بها قانونا-) أو بكميّات كبيرة باستعمال وسائل غير مشروعة (الرشوة) أو عبر المسالك البريّة».
ويمهّد التعريف الأخير للتجارة الموازية لتعريف الاقتصاد الموازي: «الاقتصاد الموازي» هو منظومة اقتصادية دخيلة أفرزتها «العولمة المتخفية»، تنافس الدولة في إدارة المجال الوطني وفي أوجه منه تمثل خرقا لسيادته الترابية، وهو التقاء تاريخي لظاهرتي التجارة الموازية والتهريب في مجال واحد، لا يشمله الجرد ولا يخضع للقوانين الرسميّة المنظمة للمجال كما لا تغطّيه الجباية ضريبة أو إعفاء».
ويتأسّس «الاقتصاد الموازي» في المجال التونسي على التقاء جملة من العناصر الضرورية، هي:
1 -«العولمة المتخفية»: تتمثل أساسا في الشركات عبر الوطنية (STN) الأمريكية والأوروبية والأمريكية-الصينية المشتركة العاملة في بلدان جنوب شرق آسيا (وخصوصا في الصين) والتي تمثل مصدر الإنتاج العالمي (المركز)، حيث توفّر الشركات الأولى التكنولوجيا ورأس المال في حين تهتمّ شركات الصين وبلدان جنوب شرق آسيا بعملية إنتاج بضائع «ذات مستويات جودة متفاوتة» مع كلفة إنتاج متدنية.
ويكون من ضمن هذه المنتوجات «علامات تجارية مقلدة» وذلك لتحفيز عملية الطلب وفتح أسواق جديدة لتلك التكنولوجيات الحديثة حيث يتمّ تسويق هذه السلع حصريا في الأسواق الموازية ببلدان الجنوب (الهامش).
2 - التجارة الموازية مثلما عرفناها في فقرة سابقة.
3 - شبكات «التجار الحدوديين»: وهي متكوّنة أساسا ممن يسمّون محليّا «تجّار الخطّ»(«الخطّ» هو الخطّ التجاري طرابلس-بن قردان)، متكفلة بتزويد أسواق منتصبة بجل مدن البلاد دُرج على تسميتها «سوق ليبيا» يوجد أكبرها في مدينة بن قردان حيث يؤمّن سوق الجملة فيها تزويد بقية الأسواق داخل البلاد.
4 - شبكات الصرف والمبادلات المالية الموازية: يُدار هذا القطاع من قبل أصحاب رؤوس الأموال، وهي تمتلك مكاتب للصرف الموازي في المجالات الحدودية البرية وتتحكّم في أسواق الصرف المنتشرة فيها وتجنّد آلافا من أعوان الصّرف المنتشرين على طول الطريق الوطنية رقم واحد (من وادي الزاس-مدنين- إلى حدود رأس جدير) يُعرفون باسم «صرّافة».
5 - المهرّبون أو «الكناتريّة»: وهم أصحاب رؤوس الأموال الضالعين تاريخيا في التهريب في المجال الحدودي التونسي الليبي والذين يمثّلون «شبه-إدارة محلية موازية» قادرة على تجنيد شبكات التهريب عند الضرورة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.