الاعلان عن موعد انطلاق الاستخراج الحيني لوثائق السفر    العاصمة: وقفة احتجاجية أمام سفارة فرنسا دعما للقضية الفلسطينية    نشرة متابعة: أمطار غزيرة غدا الثلاثاء    الكاتب العام الجهوي لنقابة التاكسي يروي تفاصيل تعرّض زميلهم الى "براكاج"    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    %9 حصّة السياحة البديلة.. اختراق ناعم للسوق    خطير/ منحرفون يثيرون الرعب ويهشمون سيارات المواطنين.. ما القصة..؟!    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    الدوري المصري: "معتز زدام" يرفع عداده .. ويقود فريقه إلى الوصافة    عاجل/ تعزيزات أمنية في حي النور بصفاقس بعد استيلاء مهاجرين أفارقة على أحد المباني..    منوبة: تقدّم ّأشغال بناء المدرسة الإعدادية ببرج التومي بالبطان    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    سليانة : اصابة 4 ركاب في إصطدام سيارتين    الحماية المدنية: 17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    فتح تحقيق في وفاة مسترابة للطبيب المتوفّى بسجن بنزرت..محامي يوضح    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    التونسيون يتساءلون ...هل تصل أَضحية العيد ل'' زوز ملايين'' هذه السنة ؟    أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    كأس الكاف: حمزة المثلوثي يقود الزمالك المصري للدور النهائي    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    عاجل/ ستشمل هذه المناطق: تقلبات جوية منتظرة..وهذا موعدها..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    تونس توقع على اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    كاتب فلسطيني أسير يفوز بجائزة 'بوكر'    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    50 % نسبة مساهمة زيت الزيتون بالصادرات الغذائية وهذه مرتبة تونس عالميا    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحزاب السياسة في تونس:مخاض التاريخ الجديد ونضوب «الآبار القديمة»
نشر في التونسية يوم 22 - 01 - 2016


كيف أصبح الإرهاب لاعبا رئيسيا في الصراع السياسي ؟
نشر مركز الدراسات الاستراتيجية دراسة طريفة تحت عنوان: «اتجاهات المشهد الحزبي في تونس: مخاض التاريخ الجديد ونضوب «الآبار القديمة» جاء فيها:
بعد ثورة «مفاجئة»، اهتزّ المشهد الحزبي في تونس في ما يشبه الزلزال. وشهد بروز عشرات العناوين الحزبية، ووجد التونسيون أنفسهم أمام مسرح سياسي كوميدي- تراجيدي وانفجر «المكبوت» السياسي التونسي الذي ظلّ حبيسا على امتداد عقود استبداد الدولة الحديثة ، وما سبقه من قرون «الحكم السلطاني» الطويلة، وخرج ما ترسّب في قاع الشخصية التونسية العامة والفردية من تشوّهات واستيهامات معقّدة جدا ( الغرور ، الانتهازية ، الشعور بالتفوّق الزائف ، الرغبة في التعويض والانتقام، الثرثرة والعناد واستعراض القدرات الخطابية، ادعاء امتلاك الحلول لكل مشاكل البلاد والكون …الخ)، جعلت العديد يتصدّون للشأن العام ويخوضون الانتخابات لنيل مواقع قيادية في الدولة، ممّا خلق حالة من الفوضى العامة أربكت المسار السياسي وأضاعت على الديمقراطية الجديدة كثيرا من الوقت والجهد، وربما زهّدت الناس في السياسة نهائيا، الأمر الذي يجعلنا نتحدّث الآن عن مخاض ديمقراطي عسير قد ينتهي إلى ديمقراطية صورية بدون أحزاب، أو أحزاب بدون منخرطين، والى انتخابات دون ناخبين.
الحرية و«الطفح» الحزبي
ومسرح الظلال
لم تكن الساحة الحزبية عشية الثورة تخلو من كفاءات ورموز وقيادات سياسية ذات تاريخ نضالي وطني حقيقي. قيادات دفعت أعمارها من أجل الحرية. ولكن ارتخاء قبضة الدولة وإشرافها على الانحلال كليا بتخلّي الأجهزة الأمنية عن دورها غمر أصوات وتاريخ هؤلاء، فغلب على المشهد الجديد تهريج وصخب وسباب وسيل من السخف رسّخ في أذهان الناس صورة رديئة وقبيحة عن السياسة والسياسيين. كانت طفرة تصعيد المكبوت المرضي «طبيعية» الى حدّ ما في سياق حرية طوفانية كان يتعطّش لها الجميع ، لولا أن يقينا حصل لدى كثير من السياسيين المنصفين هو أن ذاك الانفلات كان مقصودا ومخططا له ومدارا بقصدية إجرامية بيّنة. وأصبحت البلاد أشبه بمسرح ظلال تتراقص فيها شخصيات بلا ملامح تتحرّك لتخفي لا لتكشف. وانخرط الكلّ في «هستيريا» جماعية أوصلتنا الى ما سنفصّل فيه القول الان من نضوب آبار المعاني والمشاريع السياسية القديمة وبروز محاور فعل سياسي جديدة لم يتوقعها العقل الايديولوجي التقليدي الذي تشكّلت بموجبه كل التيارات الحزبية السابقة لحدث الثورة.
التديّن الجديد وهدم المعبد
كان آخر عهد الناس بالنضال الديمقراطي في تونس ما شهدته البلاد تزامنا مع سقوط المعسكر الاشتراكي ووصول الديمقراطية الى شرق أوروبا من حرب قمعية استئصالية وحشية ضدّ تيار سياسي«اسلامي» كان يمثل البديل الديمقراطي (رغم كل ما يمكن ان يقال حول عدم اكتمال هويته الديمقراطية انذاك) لنظام الحزب الواحد. كان ذلك إثر انتخابات 1989. نذكّر بهذا التاريخ المفصلي لنفهم النقطة التي توقفت عندها مسيرة الديمقراطية في تاريخ تونس الحديث (مسيرة تحتاج قراءة موضوعية لم تنجز بعد نكتفي منها بالاشارة الى دور الديمقراطيين الليبراليين بقيادة حسيب بن عمار صاحب جريدة «الرأي»، وأحمد المستيري مؤسس أول حزب منافس للحزب الحاكم في إطلاقها) . فقد اختار التيار السياسي، ذي المرجعية الثقافية الاسلامية، الديمقراطية على النمط الغربي اطارا للفعل السياسي والمشاركة في ادارة الشأن العام. وظن أن اللحظة الديمقراطية التي كانت تجتاح أوروبا وقتها ستشمل المجتمعات العربية التي شكلت استثناء كونيا مثبطا ومهينا كاد يكرس الدكتاتورية قدرا تاريخيا نهائيا لشعوب العرب، فانخرط في حراك شعبي احتجاجي تحت شعار «فرض الحريّات»على نظام زوّر الانتخابات وتراجع عن وعوده الديمقراطية في أول استحقاق انتخابي. كانت تونس ( التي لا يمكن لتجربتها ان تقارن بما حصل في الجزائر ومصر رغم تشابه العناوين والفاعلين بدرجات متفاوتة) أمام فرصة بناء الديمقراطية الحديثة بأدوات محلية ومرجعية ثقافية «دينية»، وربما كان ذلك مقدمة واقعية مهمة لحلّ التناقض التاريخي بين الاسلام والحداثة الذي طالما نظّر له وحلم به زعماء «النهضة» منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولكن الانقلاب الدموي على الديمقراطية في تونس سيخلّف ندوبا عميقة في تاريخ البلاد، أعمقها ما نشهده اليوم من تديّن عنيف مرضي تدميري يوشك أن يهدم المعبد على الجميع.
أُجهضت تجربة «التديّن السياسي الديمقراطي» المنفتح على المرجعيات الفكرية الكونية حتى اليسارية منها بحكم نشأته الجامعية، فإذا نحن اليوم مع حلول الحرية أمام تديّن هجين. مظهره أفغاني(اللباس الأفغاني الذي هرع اليه الشباب بعد الثورة ظنا منهم أنه لباس الرسول) ومضمونه وهابي بدوي(انتشار كتب شيوخ مصابين بغيبوبة تاريخية عميقة) . تديّن قام على استيهامات نفسية لدى فئات شبابية واسعة لفظتها الدولة القمعية التي رهنت قرارها في أيدي طغمة عائلية فاسدة وأوليغارشية مالية مافيوزية.عشرون عاما من الدكتاتورية والفساد كانت كافية لتدمير البنية القيمية للمواطن التونسي والمرجعيات الأخلاقية التقليدية . فلم يعد نموذج الشاب المتعلم والمثقف مغريا لأن التعليم لم يعد مصعدا اجتماعيا كافيا لمغادرة الفقر والانتماء الى الطبقة الوسطى «المحترمة والوجيهة اجتماعيا». تشكلت في اذهان الشباب أهداف جديدة للحياة فأصبح الغنى السريع والأقل كلفة ودون الحاجة الى التعليم والعمل معايير اجتماعية شبه مشتركة، وانفتحت طرق أخرى أسرع للصعود الاجتماعي مثل السمسرة والتهريب والرشوة والتقرب من العائلة الحاكمة والانتماء الى الحزب الحاكم والانخراط في منظومة الرقابة الأمنية المضروبة على الناشطين السياسيين وعلى المجتمع كلّه أو الهجرة الى الخارج بالارتباط بعجوز أوروبية أو “الحرقة”. لم تعد المدرسة مصنعا للقيم الايجابية وجسرا للارتقاء الثقافي والاجتماعي ، بقدر ما أصبحت لدى الشباب محطة عمرية اجبارية «كريهة».
هذا الشباب الذي تلفظ منه المدرسة آلافا كل سنة تلقفته عصابات المخدرات والجريمة التي كانت تدار من طرف رموز العائلة الحاكمة وجزء غير قليل من أجهزة الدولة الامنية والإدارية بحكم تبعيّة تلك الاجهزة للقرار العائلي الذي صادر واحتكر القرار السياسي الوطني لصالح احتكارات المال والاعمال الدولية. هذا الشباب غرق جزء منه في اللامعنى (المخدرات والجريمة والعنف والانتحار…) واتجه بعضه الآخر الى «التديّن» باعتبار أن الدين معنى مكتمل يعوّض به فقره المعرفي والوجودي ، فيصبح فقيها وشيخا بمجرد أن يحفظ ويردّد بعض السيرة والحديث النبوي ، وفقره المادي بالتجارة في مستلزمات التدين الشكلي (القمصان والحجاب والنقاب والعطورات) ثم بالانتماء الى الجماعات العنفية التي تنفق على أفرادها بسخاء، أو يكتفي بالطمع في تعويض أخروي جزيل مقابل التضحية بروحه وبأرواح الذين يقفون عقبة في طريقه الى الجنة. هذا التديّن الانحرافي المرضي العنيف سيلعب دورا خطيرا ومصيريا في تحديد وجهة ونمط الخطاب والسلوك السياسي لدى كل الاحزاب ربما لسنوات طويلة قادمة.
لقد كان التمايز قبل الثورة بين الدكتاتورية من جهة، والقوى الديمقراطية على اختلاف مرجعياتها الليبرالية والاشتراكية والاسلامية (والتي تجمّعت والتقت وتقاطعت مسيرتها في صحف «الرأي» و«المغرب» و«حقائق» ثم في مبادرة 18 أكتوبر 2005) ، وبدأت السجالات الايديولوجية النظرية في التراجع لصالح شبه إجماع عملي حول الديمقراطية كمطلب جامع وشرط مبدئي ضروري لوجود السياسة أصلا ، إذ تأكد الجميع أن الدكتاتورية تقتل السياسة وتلغي الفضاء العامّ لصالح أجهزة الدعاية والرقابة والعقاب.
وجب التذكير بحجم التقارب الذي حصل بين مختلف تيارات الفكر والسياسة قبل الثورة مباشرة لنقف على حجم التحوّلات التي أحدثها ظهور التيار السلفي العنيف بما مثله من «ذريعة» واقعية للتدخل الخارجي بحجة «الحرب على الارهاب»، ومن «ذريعة سياسية» للقوى القديمة للمقارنة بين عهد قديم آمن وعهد جديد تعمّه الفوضى والعنف والجهل…ومن ذريعة عامة للزهد في السياسة والعزوف عن الخوض في الشأن العامّ الذي انتهكه وافدون جدد على الشأن السياسي المدني.
الأحزاب اليوم أمام امتحان المعطى الارهابي على غير إرادة منها. ولا حزب سيجد نفسه اليوم بمنأى عن التعامل مع هذا المعطى المستجدّ وطنيا ودوليا.
يحصل شبه إجماع اليوم حول العلاقة الجدلية بين انتشار الظاهرة الارهابية وعودة أجواء الحرب الايديولوجية بين الفصائل السياسية بعد الثورة.فقد انخرطت البلاد في مرحلة التأسيس الدستوري بكل فئاتها تقريبا في صراع ايديولوجي بين تيارين فكريين جرى حصرهما اعلاميا وقبليّا في هويتين متناقضتين واحدة «اسلامية» والثانية «علمانية»، وانفرط عقد الحماس الوطني والشعبي للشعارات الجامعة التي رددها الجميع أيام الحراك الثوري(الحرية والكرامة).
هذا الانقسام الجديد استدعى وافتعل الصراع حول الدين وأشعل فتيل «فتنة» ما زال لهيبها يضطرم في كل مناحي الحياة العامة اليوم ، ومن بينها التشكيلات الحزبية.
حركة «النهضة» بين زخم المرجعية الدينيّة وعبئها
تجد حركة «النهضة» نفسها اليوم أمام خيارات تاريخية ستحدّد بمقتضاها «هويّتها» وعلاقتها بالمرجعية الدينية بما سيكون محدّدا في مصيرها وربما مصير التجربة الديمقراطية الوليدة برمّتها.سيكون على «النهضة» في مؤتمرها القادم أن تنهي الجدل الدائر في داخلها وفي محيطها الوطني حول علاقتها بالاسلام باعتباره مشتركا وطنيا جامعا وخصوصا باعتباره مرجعية تفكير وسلوك تنازعها إياه التيارات الجهادية التكفيرية العنيفة.
قد يذهب البعض إلى القول إن اشتراك «النهضة» مع هذا التيار، الذي وفّر ذرائع منطقية لاستهداف الثورة، في المرجعية الاسلامية يوشك أن يكون «لعنة» عليها بعد أن كان مصدر شعبيتها ومصداقيتها وتجذّرها في تربتها الحضارية المحلية.
هذا الالتباس في قرابة نظرية ما مع التيارات الدينية العنيفة يقربها لدى البعض من شبهة «السلفية» ولو كانت سلفية فكرية مع مسحة تجديدية محدودة لا تقطع الجسور بين ضفتي التدين السلفي والتدين الحداثي. هل نستطيع الحديث عن مأزق ما ؟ لا نبالغ إن أجبنا بالإيجاب في انتظار ان يبدع العقل النهضوي البراغماتي الواقعي في مؤتمره القريب تصوّرا فذّا يفضّ الاشتباك النظري والتاريخي مع أشباه الإخوة أشباه الأعداء.
«نداء تونس» وعسر الولادة المُؤجَّلة
هو الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة والمكلف نظريا ودستوريا بقيادة أول دورة انتخابية من الحكم الدائم بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. فاز في الانتخابات بعد حملة انتخابية بناها على تخويف الناس من انتشار الخطر الارهابي واتهم «النهضة» و«الترويكا» الحاكمة بالفشل في تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي فأغرى الناس بوعود لا يملك عاقل الا أن يصوّت لها. ولكنه فاجأ ناخبيه بالتحالف مع خصمه الايديولوجي الذي تأسس لإزاحته من الحكم. وها هو الان بعد ثمانية أشهر من نجاح انتخابي لافت لا ينجح في تحقيق أي وعد من وعوده الانتخابية ، ويضرب «الارهاب» في فترة حكمه بقوة ، ويدخل في نفق من الصراعات الداخلية قد تنتهي به الى الانحلال. وهو أمر يضع كل مؤسّسات الدولة الوليدة أمام خطر الانهيار. فقد تفقد الحكومة الأغلبية البرلمانية ولا تنجح الكتل البرلمانية في تشكيل حكومة جديدة فيقع اللجوء الى انتخابات مبكرة لا يتحملها لا الوضع الأمني ولا الاقتصادي ولا السياسي للبلاد.حزب يحمّله الشعب مهمة قيادة البلاد ولكنه يفشل في تحقيق تماسكه الداخلي وفي بناء مؤسساته وصياغة هويته السياسية. أن تفقد ديمقراطية ناشئة حزبها الأغلبيّ الاول سيضعها أمام حالة فراغ حزبي قد يصعب ملؤه بيسر ويوسّع من دائرة اليائسين من السياسة لصالح المراهنين على الحلول العدمية بقطبيها الانقلابي والارهابي .وحتى في صورة تمكّن الحزب من الحفاظ على جزئه الأكبر والتضحية ببعض وجوهه المؤسسة ، وهو السيناريو الأقرب للحدوث، فإن الأزمة التي عصفت به رسّخت في مخيال الناس صورة السياسي الانتهازي الذي يبحث عن المواقع والغنيمة الشخصية على ظهر الشعارات “المبدئية”.
«الجبهة الشعبية»:
الشعار الثوري وتجارة الوهم
تحاول «الجبهة الشعبية» اليسارية تقديم نفسها على أنها البديل الوحيد والواقعي للتحالف «اليميني المحافظ» الحاكم اليوم. وترى أن فرصتها التاريخية قد حانت لجني ثمار ضريبة الدم الذي دفعته (على غير ارادة منها طبعا) في مواجهة «الارهاب الديني». وتصرّ على تكريس الخلط بين التديّن الجهادي العنيف والتديّن الديمقراطي لتصفية حركة «النهضة» خصمها الايديولوجي الوجودي، وتحميلها مسؤولية اغتيال زعيميها . وهي بذلك تختار لعب ورقة الارهاب بانتهازية سياسية معلنة بغاية التموقع السياسي لا بغاية إيجاد حلول حقيقية لظاهرة تهدّد كيان الدولة برمّته ، وتلعب دور حصان طروادة لحرب متعددة الاطراف تشنّ على التجربة الديمقراطية الناشئة. وعموما فقد ظلّ الخطاب السياسي الجبهوي يراوح بين خيارين: خيار الشعار الثوري التبشيري الذي يعد باستئصال الفقر والتفاوت الطبقي والجهوي ووقف المديونية وتحقيق استقلال القرار الاقتصادي والسياسي عن مراكز النهب والاستعمار الدوليين (وهذه اللغة تستعملها الجبهة في بياناتها الموجهة للداخل الوطني لا في لقاءاتها الديبلوماسيّة مع سفراء الدول الأجنبية). هذه الشعارات تعجّ بها المقرّرات الايديولوجية الماركسية العتيقة وما زالت تجد من يتحمّس لها من شباب الجامعة ، وخاصة المنحدرين منهم من البرجوازية الحضرية. وفي الجهة المقابلة نرى «برجوازية» «الجبهة الشعبية» تتموقع في البرلمان وتتبنى المشاركة السياسية في مؤسسات الحكم مع مسحة معارضة ليبرالية تحتدّ أحيانا للتذكير بهوية يسارية مفترضة. هوية لم تعد تقنع حتى أصحابها بامتلاكها الحلول الواقعية لكل التحديات المتراكمة التي تواجهها البلاد. ولعلّ النموذج اليوناني كشف للجميع زيف الشعار الثوري إذ اضطر حزب «سيريزا»(ائتلاف اليسار الراديكالي) الى «خيانة» شعاراته الانتخابية الرافضة لشروط البنوك الدولية وسياسة التقشف، والى القبول باملاءات الاتحاد الاوروبي لإنقاذ البلاد من الانهيار الشامل، مما أدّى الى انقسام الحزب وتخليه عن خياراته الراديكالية اللاواقعية. فهل يدرك الذين أصدروا بيانات الفرح بفوز حزب «سيريز» الانتخابي حجم التغيرات الحاصلة في منظومة العلاقات الدولية ويكفوا عن بيع وهم إمكانية التحرّر الآني واليسير من شبكة الهيمنة المالية والسياسية المضروبة على الاقتصادات الضعيفة من قبل الدول العظمى وأذرعتها المالية والعسكرية المعولمة؟ وهل تكفّ «الجبهة الشعبية» عن توظيف الظاهرة السلفية الجهادية العنيفة في حربها على حركة «النهضة» التي تعتبرها خصمها اللدود وتقترب من خيار «التوافق» الذي ضمن للديمقراطية الوليدة الى حد الآن الدرجة الدنيا من الاستمرار ؟
الجبهة الديمقراطية الاجتماعية الموعودة
هي جبهة تضمّ أحزاب تنسيقية المعارضة (الحزب الجمهوري، التكتل، التحالف الديمقراطي، التيار الديمقراطي، حركة الشعب) وتخوض نقاشات متعثرة في ما بينها للبحث عن شكل العودة الى السياسة بعد أن أخرجتها الانتخابات الاخيرة من المعادلة السياسية بصورة شبه كلية. ورغم أنها تضمّ رموزا وطنية ذات تاريخ سياسي عريق فإنها فشلت في الاتفاق على قراءة موحّدة لاستحقاقات اللحظة بسبب غلبة الطموحات الشخصية وعقدة القيادة وهاجس الانتخابات الرئاسية القادمة على المتحاورين.
ولعل عشوائية الاعلان الذي أطلقته التنسيقية عن عقد «المؤتمر الوطني لمقاومة الارهاب» وتحديد تاريخ انعقاده دون التنسيق مع كل الاطراف المعنية، ثمّ صمتهم المطبق وعدم متابعتهم للمبادرة بالجدية الكافية، يؤشّر على ضعف حظوظ هذه المبادرة السياسية في القدرة على تجميع المعارضة في مشروع سياسي وسطي تحتاجه الديمقراطية التونسية في طورها التأسيس، وقد تلجأ اليه أمام أزمة الحزبين الكبيرين.
هذا العنوان (مقاومة الارهاب) الذي اختارته التنسيقية لأوّل نشاط لها يؤشر أيضا على تسليم هذه الأحزاب بأن ملف «الارهاب» أصبح بوابة الجميع للعبور الى السياسة.
المهمّ أن عنوان «الجبهة الديمقراطية الاجتماعية» يظلّ الى حدّ الآن شعارا بلا مفاصل واضحة بما يجعل قيامه عسيرا. وغير بعيد عن هذه الجبهة «المؤجلة» أيضا نجد «حراك تونس الارادة» الحزب الجديد الذي أسسه الرئيس السابق المنصف المرزوقي الذي نكتفي بالقول إنه رسكلة لحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» ومراهنة على رصيد المرزوقي النضالي والحقوقي. رصيد نشك كثيرا في أنه ما زال حاضرا في عقول التونسيين وإن كنا لا نشك ابدا أنه حاضر في قلوبهم.
خاتمة
لقد عطّلت «العقدة» السلفية الجهادية المكنّى عنها ب«الإرهاب»، بالتباسات ظهورها المفاجئ وصعودها السريع وهيمنتها على الخطاب السياسي الوطني والدولي، مسارات عدّة متلازمة ومترابطة ومتكاملة، هي مسارات التجديد الديني والتحديث، والإصلاح الاجتماعي، والبناء الديمقراطي. وشكّل ارتباط الظاهرة «الإرهابية» بالدين موضوع رهان سياسي وثقافي محلي وعالمي لإثبات ارتباط الإسلام كدين بالعنف وعجزه عن إنتاج الحداثة والتقدم والديمقراطية ليتمّ توظيف هذا اللبس في الصراع السياسي من طرف خصوم حركة «النهضة» ذات المرجعية الإسلامية لتجريدها من مصدر قوّتها وإزاحتها من موقع قيادة التأسيس الديمقراطي ولو أدّى الأمر إلى التضحية بالاستقرار وتوفير مناخ مناسب لازدهار «الإرهاب». هكذا تم الزجّ بمعطى «الإرهاب» كلاعب رئيسي في الصراع السياسي . معطى «محدث» و«طارئ» (لا بمعنى الاصطناع طبعا) أعاق نشأة المشاريع الحزبية الضرورية للديمقراطية ، وأوشك أن يتحوّل إلى «مارد» قد يهدم المعبد على الجميع، إلى أن تستعيد الأحزاب السياسية في سياق تشكّلها الجديد صوابها وتعيد صياغة برامجها على قاعدة الأولويات الوطنية الجامعة وتمضي قدما في استكمال البناء الديمقراطي الهشّ الذي لا يعدم كثيرا من الوطنيّين الحريصين عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.