مستشفى جندوبة .. استئناف النشاط الجراحي بقسم طبّ العيون    وزير الخارجية يلقي كلمة تونس في منتدى تحالف الأمم المتحدة للحضارات    عاجل/ يهم صابة زيت الزيتون: وزارة الفلاحة تعلن..    عملية سيدني.. مواطن مسلم ينقذ عشرات اليهود من الموت ويحرج نتنياهو..!    مصر تلوح بعمل عسكري ضد سد النهضة: "المفاوضات انتهت"    تظاهرة بصفاقس لإحياء الذكرى التاسعة لاغتيال الشهيد محمد الزواري    بطولة الرابطة المحترفة الثانية (الجولة 13-الدفعة2): النتائج و الترتيب..    الالعاب الافريقية للشباب (لواندا 2025): تونس تعزز رصيدها بفضية و برونزيتين    الطقس هذه الليلة..    مؤشرات حول حوادث الطرقات    مجمع موزعي النظارات يرحب بالفصل 72    قبل مباراة جمعت الفريقين.. اشتباكات عنيفة بين جماهير جنوة وإنتر الايطاليين    في هجوم خلّف 12 قتيلا خلال عيد يهودي بأستراليا ...مسلم يمنع ارتكاب مذبحة    العاصمة: يقتل جاره طعنا وشقيقته تُخفي أداة الجريمة... هذا ما حدث    بشرى للسينمائيين التونسيين إثر صدوره بالرائد الرسمي .. إحداث صندوق التشجيع على الاستثمار في القطاع السينمائي والسمعي البصري    في كتابه الجديد «المدينة في زمن الباشا بايات» .. د.محمد العزيز بن عاشور يؤرخ للمدينة العتيقة ول«البلديّة»    أولا وأخيرا .. أنا لست عربيا ولن أكون    البطولة الوطنية المحترفة لكرة السلة: برنامج مباريات الجولة التاسعة    تقرير دولي: تونس من أقل الدول الإفريقية تعرضا لمخاطر تبييض الأموال... التفاصيل    بمشاركة عديد الدول.. ادارة مهرجان نيابوليس لمسرح الطفل تعلن عن موعد الدورة 38    كأس العرب قطر 2025: مدرب منتخب الأردن يؤكد السعي لبلوغ النهائي على حساب السعودية في مباراة الغد    تطاوين: انطلاق الشباك الموحد للحجيج لموسم 1447 ه / 2026 م لفائدة 133 حاجًا وحاجة    كيفاش تتكوّن العاصفة المتوسطية علاش تنجم تتطور إلى إعصار متوسطي؟    فوز 11 تلميذا في مسابقات الملتقى الجهوي للصورة والسينما والفنون البصرية للمدارس الإعدادية والمعاهد    عاجل: ''poudre talc'' مشهورة مرفوعة ضدها قضية بسبب مريضتي سرطان...شنيا الحكاية؟    قفصة : إنطلاق الحملة الوطنية الأولى للكشف المبكر عن اضطرابات الغدة الدرقية    وفاة تونسي في حادث مرور بليبيا..وهذه التفاصيل..    حجز 30 غراما من الماريخوانا لدى شخص عاد مؤخرا من ألمانيا..#خبر_عاجل    المعابر الحدودية بجندوبة تسجل رقما قياسيا في عدد الوافدين الجزائريين..    كأس تونس.. الجامعة تعلن عن موعد سحب قرعة الدور التمهيدي    مدنين / بلدية بن قردان تنطلق في تركيز 390 نقطة انارة عمومية من نوع "لاد" بالطريق الرئيسية ووسط المدينة    عاجل: منخفض جوي قوي يضرب المغرب العربي.. أمطار غزيرة وثلوج كثيفة في الطريق    توفى بيتر غرين.. الشرير اللي عشنا معاه على الشاشة    الكاف : مهرجان "بدائل للفنون الملتزمة" يمنح جائزته السنوية التقديرية للفنّان البحري الرحّالي    المسار الحالي لتونس في مجال السلامة المرورية يقود الى تسجيل 74 الف وفاة و 235 الف اصابة بحلول سنة 2055    دورة شتوية بمدينة العلوم متخصصة في علم الفلك الرقمي باستخدام "بايثون من 24 الى 27 ديسمبر الجاري"    عاجل: التاكسي الفردي يلوّح بالإضراب بعد تجاهل المطالب    كشف هوية أول مشتبه به في هجوم سيدني    الإطار الطبي للمنتخب يتابع الحالة الصحية لنعيم السيتي للمشاركة في كأس إفريقيا    عاجل: شنيا حكاية ضبط كميات كبيرة من الكبدة المنتهية صلوحيتها كانت متجهة نحو الجزائر؟    شنيا حكاية المادة المضافة للبلاستك الي تقاوم الحرائق؟    الرياض تستضيف المنتدى العالمي ال 11 للحضارات بدعم غوتيريش و130 دولة    إنشاء مجمع صناعي متكامل لإنتاج العطور ومستحضرات التجميل ببوسالم    عاجل: الأطباء يحذرون...الطب الشعبي قد يؤدي للوفاة عند الأطفال    أزمة وطنية: أكثر من 1500 مريض ينتظرون زرع الكلى    شنيا يصير وقت شرب ال Chocolat Chaud في ال Grippe؟    الألواح الشمسية وقانون المالية 2026: جدل حول الجباية بين تسريع الانتقال الطاقي وحماية التصنيع المحلي    جون سينا يقول باي باي للمصارعة بعد 23 عام مجد    اريانة: مندوب الفلاحة بالجهة يؤكد اهمية مشاركة مجامع التنمية الفلاحية بالصالون الدولي "افريكا فود"    اعتقال سوري ومصري و3 مغاربة في ألمانيا بتهمة التخطيط لهجوم إرهابي على سوق عيد الميلاد    السعودية.. السماح للأجانب بتملك العقار وتطبيق النظام المحدث ينطلق قريبا    سوسة.. العثور على جثة مسن روسي الجنسية في حديقة المكتبة الجهوية    تاكلسة.. قافلة صحية لطبّ العيون تؤمّن فحوصات لفائدة 150 منتفعًا    8 أبراج تحصل على فرصة العمر في عام 2026    تنطلق اليوم: لجان تحكيم أيام قرطاج السينمائية    شنوّا حكاية ''البلّوطة'' للرجال؟    تنبيه لكلّ حاجّ: التصوير ممنوع    بدأ العد التنازلي لرمضان: هذا موعد غرة شهر رجب فلكياً..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أطفال الشوارع:المأساة.. الأسباب والنّتائج: كيف تتحوّل البراءة إلى لغم؟
نشر في التونسية يوم 31 - 01 - 2016


تحقيق: أسماء وهاجر
التونسية (تونس)
ينتشرون في الطرقات... في المحطات في كل مكان غير عابئين بنظرات النّاس وبكل المخاطر... عيونهم تنتظر الأيادي لتمتد إلى الجيوب علهم يظفرون ببعض الملّيمات ليغيبوا -في لحظة- عن الأنظار.. هكذا هي يوميات أطفال الشوارع....
لا أحد اليوم ينفي أن الظاهرة استفحلت بعد الثورة إذ تطالعنا يوميا نماذج أطفال هائمين, يتسكعون ويتسوّلون إما بدافع الفقر أوفي اطار عصابات احتضنتهم وطوّعتهم لتسترزق بواسطتهم وتلقي بهم في عالم الانحراف من بابه الكبير وتمعن في استغلالهم ماديا وحتى جنسيا. وقد أثبتت الإحصائيات العالمية أن هناك بين 100 و150مليون طفل يهيمون في شوارع العالم وفي إحصائية صدرت عن المجلس العربي للطفولة والتنمية عن حجم هذه الظاهرة في العالم العربي اتّضح أن هناك بين 7 و10 مليون طفل عربي في الشارع... أما في تونس فقد ارتفع عددهم بعد الثورة بنسق تصاعدي: فمن ثلاثة آلاف سنة 2011 إلى خمسة آلاف عام 2012 لتبلغ مع نهاية 2014 ما يناهز 8 آلاف ينتشرون في كل أحياء البلاد.
ضحايا أم مذنبون؟ من المسؤول عن هذه الطفولة البائسة؟ ماهي أسباب الظاهرة؟ كيف تحول هؤلاء الأطفال إلى بضاعة تُباع وتشترى؟ أسئلة وأسئلة تراودنا كلّما شاهدنا أحدهم بمفترق طريق أوأمام ساحة عمارة يبحث عمّن يوفّر له حاجاته أوالقليل منها....
«التونسية» اقتربت من هذا العالم الصامت وعاينت عبر بعض الشهادات مآسي أطفال يعيشون في الشّارع كل ذنبهم انهم ورثة الفقر والعجز وأخطاء غيرهم وقسوة المجتمع ....
كانت تضع منديلا على رأسها.. لم تتجاوز من العمر بضع سنوات.. لمحناها وهي تقترب من المارة تقبّل أياديهم وتتوسل لهم ليعطفوا عليها ويمنحوها بعض الملّيمات... هذا يلفظها وآخر يدفعها... الى أن تجد ضالتها وهكذا دواليك -في الوقت الذي ينهل أترابها العلم على مقاعد الدراسة –اقتربنا منها لنستمع إلى حكايتها. قالت إن اسمها الحقيقي خديجة وتكنّى باسم «بنت اللبة».. قبل سنتين كانت مع والدتها تتسول بها في الشارع – والدها لا تعلم عنه شيء- ثم غابت أمّها في ظروف غامضة ومنذ ذلك الحين أصبحت تعوّل على نفسها لكسب قوت يومها وهوكسب ضعيف لأن النسبة الأكبر تكون من نصيب «المعلم» والاّ ف«طريحة نبّاش القبور في انتظارها» ومنعها من الاسترزاق بالقرب من محطة برشلونة لأن «سوقها حامي» مشيرة إلى أنها تنام في الصيف بحديقة «الباساج» أوفي احدى المحطات وفي الشتاء في بهوبعض العمارات أوفي «الخربة» وهوما تسبب في إصابتها بالسعال وأمراض أخرى. وعن الاعتداءات أكدت أنه باستثناء الضرب المبرح لم تتعرض إلى اعتداءات جنسية مشيرة إلى أنها تتمنى أن تعرف مصير صديقة لها اعتدى عليها صديق مقرب من «المعلم» وهي الآن في أحد البيوت تبيع عرضها مقابل نومة هنيئة وأكل.. لا تجوع ولا تتعرّى!!.
للجوع أحكامه ....
طفل آخر اقترب منا لم يتجاوز 11 ربيعا يلقّب ب«تيغانا» يحمل جرحا غائرا في وجهه أكد أن الجوع وراء تشرده حيث جاعت أمّه وهاجر والده إلى ليبيا وانقطعت أخباره في ظروف غامضة فطلبت منه والدته أن يخرج للشارع ليشحذ قوت يومه من المارة لكنه لم يعد... «تيغانا» قال إنّه رفض أن يرى دموع والدته وهي تهان وتنعت بأبشع النعوت لتنطلق رحلته في عالم الشوارع. البداية كانت مع التسول لكن ليس بالسهل فرض الوجود بدليل أن زميلا له–طفل شوارع- شوه له وجهه وانهال عليه ضربا ولكما لأنه تحصل من احد المارة على ورقة بخمسة دنانير... لذلك خيّر أن يبحث عن قوت يومه في المزابل ريثما يشتد عوده, مؤكّدا أنه يعتبر نفسه ضحية مجتمع لم يرحم عجزه ولم يمد يده لوالدته التي لا يعرف أين ذهبت؟ اليوم هذا المجتمع يحاصره وهوفي الشارع ويعاقبه بكل نظراته.. لذلك يخاف أن يأتي يوم يحرم فيه من نور السماء ويلقى نفسه خلف القضبان كما حدث مع العديد من أصدقائه الذين سرقوا وافتكوا مال غيرهم حتى يظلوا على قيد الحياة لأن الوجود بالنسبة لهم هي قضيتهم. ويضيف «تيغانا» انهم مجني عليهم قبل أن يكونوا جناة... ولكن الجميع يرى فيهم عارا.
ظرف قاس جرّها إلى الشارع
هي طفلة لم يتعدّ عمرها سبع سنوات أنجبتها والدتها لمّا كان عمرها 14سنة فأطردتها عائلتها هربا من العار فاحتضنتها جدتها وحاولت أن تنسب الطفلة لوالدها غير أن كل محاولاتها باءت بالفشل ثم توفّيت جدّتها لتجد نفسها وحيدة ولم تجد ما تقتات هي وطفلتها فتعرّفت على امرأة جرتها الى عالم الرذيلة وبعد فترة ألقي عليها القبض وتمّ ايداعها السجن فبقيت طفلتها الصغيرة وحيدة وتم طردها من المنزل ولم تجد غير الشارع لتنام على أرصفته تتحمل مشاق الحياة دون ذنب اقترفته لا تدري ما تخفي لها الأيام لكن رغم مرارة ما تعيشه مازالت معالم البراءة والامل مرتسمة على وجهها الشاحب.
هذه نماذج من معاناة أطفال الشوارع، ويجمع المختصّون على أن أهم سبب لانتشار ظاهرة أطفال الشوارع هوالانقطاع المبكر عن الدراسة إذ ينقطع سنويا اكثر من 100 ألف تلميذ وينحدر 95 بالمائة من المنقطعين عن الدراسة من عائلات فقيرة تقطن في الأحياء الشعبية والجهات الداخلية المحرومة حيث تتراوح نسبة الفقر بين 60 و50 بالمائة.
الهشاشة الاقتصادية سبب البليّة
أظهرت دراسة منشورة أجراها عدد من المختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية في إطار المركز التونسي للدراسات الاجتماعية وشملت عينة تتكون من 1200 طفل أن 70 بالمائة من العينة التحقوا بأطفال الشوارع بعد ثورة 14 جانفي 2011.
وأرجعت الدراسة ارتفاع عدد أطفال الشوارع خلال السنوات الأربع الماضية إلى «الخطة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية» التي طالت الفئات الهشة والمهمشة أصلا حيث تفاقمت البطالة واستفحل الفقر وازداد المهمشون تهميشا وبيّنت الدراسة أن عدد أطفال الشوارع ارتفع منذ الثورة بشكل واضح نتيجة حالة الاضطراب التي شهدها المجتمع والتي أثرت بصفة مباشرة على بعض الأسر التونسية» وأن العوامل الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية دفعت بآلاف الأطفال إلى التشرد في شوارع المدن بحثا عن عمل لمساعدة عائلاتهم وكشف 80 بالمائة من الأطفال الذين شملتهم الدراسة أنهم انقطعوا عن الدراسة والتحقوا بالشوارع نتيجة بطالة الأب والأم بعد أن توقفت المؤسسات الاقتصادية التي كانت تشغلهم عن النشاط.
ويعدّ الإدمان على المخدرات بأنواعها القاسم المشترك بين أطفال الشوارع والملاذ الأسهل ولكنّه الأخطر للذين يخففون به من مأساتهم ولوإلى حين إذ أثبتت الدراسات إن 80 بالمائة من أطفال الشوارع يستهلكون المخدرات وأن 50 بالمائة منهم مدمنون عليها.
وتظهر نفس الدراسات أن 40 بالمائة من الأطفال مشردون بالكامل ويتخذون من البناءات المهجورة ومن المقابر ومن العربات القديمة للقطارات بيوتا لقضاء الليل.
وتؤكد المؤشرات الصادرة عن وزارة العدل أن الجرائم المقترفة من قبل أطفال الشوارع شهدت خلال السنوات الأخيرة تزايدا خطيرا إذ تتصدر السرقة سلم الجرائم حيث تبلغ سنويا أكثر من ستة آلاف جريمة تليها جرائم العنف التي تبلغ خمسة آلاف حالة ثم الجرائم الجنسية التي تصل إلى 2600 جريمة بقي أن لعلم النفس وجهة نظر اخرى تفسر عالم الطفولة المشردة ودهاليزه المظلمة.
البحث عن الأمان
حسب علماء النفس تتنازع الانسان منذ الولادة حاجتان رئيسيتان متعارضتان :الحاجة الى الامن والحاجة الى الاستطلاع والاثارة والمجازفة. ويعبر عن الحاجة الى الامن برغبة الطفل في الارتباط بوالديه ولا سيّما الأم. أمّا الحاجة إلى الاستطلاع والاثارة أو المجازفة فيعبّر عنها برغبة الطفل في استكشاف المجال المحيط به والذي هومصدر تعرضه لمخاطر عديدة.وهذه الثانية في السلوك (رغبة البحث عن الخطر وتفاديه في نفس الوقت)تظهر في مختلف مراحل العمر بكيفية متفاوتة وفي مجالات متنوعة من الوجود الإنساني.
ففي مرحلة الطفولة يتماهى (يتقمّص شخصيّة) الطفل بوالديه باعتبارهما مثالا للقوة والمعرفة, فوالده هو الأقوى دائما, وأمّه هي الأجمل... ويعبر عن رغبته في أن يكون كوالديه في كل شيء.وفي مرحلة المراهقة يشعر المراهق أنه أصبح قادرا على أن يكون له ابن بحكم بلوغه الجنسي ويصبح قادرا على التفكير المنطقي إلاّ أنّه لا يستطيع ان يمارس سلوكه الجنسي بشكل طبيعي ومشروع, وغير قادر على ممارسة التفكير المنطقي بحكم تبعيته لوالديه مما يجعله يصاب بنوع من الاحباط وهذا ما يفسر توزع المراهق بين شعورين متناقضين: تماهيه بوالديه ورغبته في التميز عنهما الأمر الذي يجعله يكبت شعوره العدائي ازاء والديه. وجوهر الأزمة التي يمر بها المراهق في هذه المرحلة يكمن في أنه مطالب بأن يوفّق بين عدوانيته لوالديه (يسميه الاستاد افرفار سلوك الرفض) وحبّه لهما واستمرار حاجته لهما,وما يصدر عن المراهق من تمرد وشغب (سلوك الرفض) أحيانا غالبا ما يرمي إلى اثارة الانتباه.
ويثير هذا الوضع الكثير من المشاكل للمراهق ولوالديه خاصة اذا كان الوالدان شديدي الحساسية نتيجة اوضاعهما غير الملائمة (بطالة, أميّة, إدمان, شعور بالنقص, عنف بينهما, الطلاق, عدم الكفاءة والدعارة...) ونتيجة هذه الصدمة يجد المراهق نفسه وجها لوجه أمام والديه أو من يكون مكانهما (الكفيل), وقد يندفع في مواجهته الى العنف, ويندفع إلى الشارع باحثا عن الأمن الذي افتقده داخل الأسرة والبحث عن الشعور بالانتماء والرغبة في التحرر من فضاء الأسرة الرتيب والمملّ.
لكن إذا كان المقصود الفتاة المراهقة فإننا سنكون أمام سيناريو متكرر لنفس الحالة حيث انّ أول ما تتعرّض له الفتاة المراهقة عندما تخرج إلى الشارع هوالاغتصاب وبالتالي الحمل وأخيرا طفل بلا نسب وفي نهاية المطاف يصبح مجرما خصوصا ان المجتمع لا يرحمه نتيجة التمثلات الاجتماعية التي فعلت فينا فعلها.
ويرى علم النّفس أنّ أطفال الشارع, أوالأطفال المشردين, غالبا ما يعانون من شعور دائم بالخوف وانعدام الأمن. ويعتبر بحثهم عن الأمن من أهم العوالم التي دفعتهم إلى مغادرة أسرهم التي لا توفر لهم هذا الشعور, ولا تضمن لهم الحد الأدنى من الشروط لإشباع حاجاتهم ورغباتهم. وهؤلاء الأطفال, وقد استسلموا إلى فضاء الشارع, يخافون من مطاردة رجال الأمن لهم, أوملاحقة بعض الكبار الذين يتخوفون من السلوكات المنحرفة لأطفال الشوارع (سرقة, تخريب, إثارة الفوضى… الخ), أومن اعتداء بعض المنحرفين من الكبار لا سيما المنحرفين جنسيا. وفي محاولتهم التغلّب على مخاوفهم يلجأ أطفال الشوارع إلى ارتكاب أفعال معينة بقصد تخويف الآخرين منهم. فكأنهم, بسلوكهم هذا, يحاولون التخلص من مشاعر الخوف التي يعانون منها بإثارة الخوف لدى الآخرين الذين يحتكون بهم في الشارع.
وتخويف الآخرين, بالنسبة لطفل الشارع, هوبمثابة خطاب موجه للآخرين للاعتراف به كإنسان لا يختلف عن غيره من البشر, فكأنه يريد أن يقول للآخرين: «إذا لم أحظ بحبكم واحترامكم, فلتخافوا مني على الأقل». وهذا ما جعل عالم النفس الفرنسي «لاكان» يعتبر جنوح الحدث في الشارع بمثابة حوار عنيف مع الآخر يحاول الحدث من خلاله انتزاع الاعتراف به كإنسان. وهذا ما يفسر لنا بعض سلوكات أطفال الشارع التي تبدوسلوكات لا مبرر لها وتعكس رغبة مجانية في الاعتداء والتخريب وإثارة الفوضى.
ويضيف علم النّفس أن هذه النزعة التدميريّة لدى أطفال الشارع هي انعكاس للقلق الذي يعانون منه بسبب إقصائهم وتهميشهم: إقصاء من طرف أسرهم التي نبذتهم أوتخلت عنهم أوأهملتهم أوتعمدت دفعهم إلى الشارع, وتهميش من طرف المجتمع الذي لا يأبه لوجودهم في الشارع حيث لا يشعرون بالأمن ويتوقعون المطاردة والاعتداء في أية لحظة.
وقد يعبّر أطفال الشارع عن نزعتهم التدميرية من خلال المشاجرات التي تقع بينهم والتي قد تؤدي بهم إلى ارتكاب أعمال عنف ضد بعضهم البعض. وكأن نزعة التدمير –في هذه الحالة- تسقط على الذات عندما تحوّل دون توجيهها نحوالآخرين. وتتخذ المشاجرات طابعا حادا حيث يجدون فيها فرصة للتعبير عن حالة القلق التي يعيشونها والتنفيس عن شعورهم الدائم بالخوف والضياع.
وتحت تأثير الشعور بالخوف فإن أطفال الشوارع لا يستقرّون في مكان محدد, ويتنقلون من شارع إلى آخر, ومن حيّ إلى حيّ. وغالبا ما لا يكونون من نفس الحيّ الذي يسكنون فيه, وبالتالي فإن معرفتهم بطوبوغرافيا الحيّ تظلّ محدودة مما يزيد من شعورهم بالغربة والخوف.
وتسيطر على أطفال الشارع رغبات آنية تتغير حسب الظروف التي يواجهونها والمليئة بالمفاجآت. إنهم يعيشون ببعد واحد هوالحاضر. ونتيجة لذلك فإنهم قلّما يشعرون بالندم على أفعال ارتكبوها, أويميلون إلى أهداف يعتزمون تحقيقها في المستقبل. إنهم عاجزون عن وضع أهداف لحياتهم بسبب تدني, إن لم يكن انعدام, مستوى طموحهم واستسلامهم لواقعهم, وغير قادرين على اللجوء إلى الوسائل المشروعة لتغيير هذا الواقع. لذا فإنهم غالبا ما لا يقدّرون مسؤولية ما يرتكبون من أفعال, ويغلب على سلوكهم طابع المغامرة والميل إلى التحدي الذي يعطيهم الفرصة لتأكيد الذات أمام ما يتعرضون إليه من إقصاء وتهميش وإحباط.
ويؤكّد علماء النفس أن هاجس الخوف الذي يسيطر على أطفال الشوارع يشكل العقبة الرئيسية أمام الجهود التي تبذل لإعادة إدماجهم داخل المجتمع وأنّ تحررهم, ولونسبيا, من هاجس الخوف من الآخرين يعتبر شرطا ضروريا لاستجابتهم لأي برنامج يستهدف إدماجهم وتأهيلهم. وقد يكون خوف أطفال الشوارع من الآخرين هو استمرار للخوف الذي انغرس في شخصياتهم داخل أسرهم قبل أن يتجسد بشكل أكثر وضوح عندما يلقى بهم إلى الشارع. ففي داخل الأسرة عادة ما يتعوّدون على الخوف من الآخر, سواء كان هذا الآخر الطبيعة أوالناس. فالطبيعة ينظر إليها على أنها مسكونة بقوى غيبية لا سبيل إلى فهمها فهما منطقيا. ولا يتاح للطفل, عادة, أن يحتك بالطبيعة بكيفية سليمة وعقلانية ليتعرف على ظواهرها بإرجاعها إلى أسبابها الحقيقية والمباشرة. كما يتخوف الطفل من الآخرين باعتبارهم يشكلون مصدر خطر دائم, خاصة إذا تعرض الطفل داخل أسرته إلى سوء المعاملة من طرف والديه أومن ينوبهما. وعندما يلقى بالطفل في الشارع يأخذ الخوف طابعا مأساويا, إذ عليه أن يتحايل على العيش ليضمن اللقمة التي تسمح له بالاستمرار في الحياة, وفي نفس الوقت عليه أن يتعايش مع خوفه من الآخرين الذين لا ينتظر منهم سوى المطاردة والاعتداء, وفي أحسن الأحوال اللامبالاة والإقصاء.
ونتيجة للوضعية التي يعيشها أطفال الشوارع, والتي تفرز أحيانا سلوكات لا عقلية (تدمير, تخريب, اعتداء مجاني على الآخرين أو على ممتلكاتهم… الخ), فإنهم يبدون كما لوكانوا متخلفين ذهنيا, وغير قادرين على إدراك الجانب اللاّعقلاني في سلوكهم. وما يبدونه من «تخلف ذهني» ظاهري غالبا ما يكون انعكاسا لشعورهم بالفراغ لا سيما الفراغ العاطفي. وإذا ما أتيح لهؤلاء الأطفال أن يستعيدوا ثقتهم في أنفسهم ويلمسوا قبول المجتمع لهم من خلال ما يقدم لهم من المساعدة لإخراجهم من عزلتهم, فإننا قد نكتشف أنهم لا يختلفون عن الأطفال العاديين من حيث قدراتهم العقلية وميولهم ورغباتهم. ومما يؤكد ذلك أن هؤلاء الأطفال يظهرون قدرا من الاستعداد للتكيف والاندماج مع المجتمع عندما تعطى لهم فرصة تعلم مهنة والقيام بعمل يدر عليهم بعض الدخل ويتيح لهم إشباع حاجاتهم الأساسية وإشعارهم بأنهم قادرون على الإنتاج والعيش الكريم.
ألغام داخل المجتمع...
ذلك هو أكبر خطر ينتظر المجتمع مع تواصل عدم إيجاد حلول عملية لظاهرة أطفال الشوارع التي تظل محل جدل عقيم داخل المؤتمرات والندوات والمشاريع التي من المزمع إنجازها في يوم من الأيام. وقد كشفت الأبحاث والدراسات الميدانية أن طفل الشوارع عندما يكبر يعيد إنتاج الاجرام الذي مورس عليه وقد يصبح من عتاة المجرمين ومن أهم القضايا التي اهتز لها العالم وكانت من بين الملفات التي طرحت على مكاتب أكبر المنظمات العالمية ما يعرف بقضية التوربيني - التي اعتبرتها الأمم المتحدة «قضية مثال» للتدليل على خطورة أطفال الشوارع وتهديدهم لأمن المجتمع- حيث كشف السفاح رمضان منصور صاحب كنية «التوربيني» أن العنف الذي ارتكبه منذ سنوات هو اعادة إنتاج لما تعرض له هونفسه في صباه عندما فرّ من منزل أسرته ليعمل في مقهى ومطعم في محطة السكة الحديدية الرئيسية في القاهرة وكان عمره آنذاك 12 سنة وقد وقع تحت سيطرة أحد المنحرفين الذي استولى على كل ما كسبه وادّخره طوال أشهر من العمل في محطة القطارات. ولما أصرّ على استرداد أمواله استدرجه البلطجي إلى رحلة فوق ظهر القطار حيث كان من السهل عليه أن يسيطر عليه ويغتصبه ثم يلقي به من فوق ظهر القطار المندفع فخلف له الحادث إصابات في الوجه وحولا دائما وجروح غائرة في البطن والساق اليسرى وعاش مملوءا بالكراهية والرغبة في العنف والإيذاء دون تمييز فكان يفعل بضحاياه مثلما فعل به جلاده عند صغره فيغتصبهم ويلقي بهم من فوق القطارات المندفعة فيلقون مصرعهم. وقد أكدت الأبحاث الميدانية ان هذه التصرفات هي ردة فعل عادية من طرفهم فمن أين سيعرفون قيمة الانتماء للوطن؟ فالأسرة هي وطن مصغر والأم والأب والإخوة هم صورة مصغرة من المجتمع، فإذا فقد هذه الرؤية سوف يتكون لديه سلوك معاد للمجتمع ردا على إهماله وتجاهله والقساوة عليه وهذا السلوك العدائي ضد المجتمع ربما يؤذي المجتمع بأكمله.
من وراء المظلمة ؟
لا يختلف اثنان في أن عدد الهياكل والجمعيات التي تحمل عناوين الاهتمام بالطفل وإنقاذه كبير وربما في تزايد مستمر لكنّها حسب بعض المحللين لا تهتم بالقضية المعضلة وهي الطفولة المشردة حيث يتركز اهتمامها على القضايا الحقوقية السياسية لان هذه الأخيرة هي التي تجتذب أموال الدعم الخارجي وهي الواجهة التي يسهل تسويقها... لكن تبقى مشاكل التفكّك الأسري, وسوء معاملة الطفل وجرائم العنف الأسري وعمالة الأطفال كلها على هامش الاهتمامات وهوما يهيئ لازدياد مشاكل الطفولة ومن بينها مشكلة أطفال الشوارع التي لابدّ من ايلائها الأهميّة اللازمة من قبل الهياكل المعنية بالطفولة لأن أطفال الشوارع أرضية خصبة ل«مجرمين مفترضين» قد تجندهم شبكات متخصصة في الجريمة المنظمة وهي منتشرة بكثرة في المجتمع التونسي كما يمثلون في الآن نفسه «جهاديين محتملين» يسهل على الجماعات السلفية تجنيدهم مستفيدة من هشاشة أوضاعهم النفسية والاجتماعية ومن غياب أيّ آلية من آليات الرعاية والمراقبة. لكن يبقى الأمل قائما في إيجاد حضن جديد لهذه الأجساد الغضة خاصة بعد أن علمنا أن إحدى الجمعيات قامت بإعداد مشروع ضخم حقيقي لإيواء اكبر عدد ممكن من هؤلاء المنسيين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.