دوز الشمالية: حريق بوحدة تصدير التمور يُخلّف خسائر مادية    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    سيدي بوزيد: انطلاق فعاليات الدورة التاسعة للمهرجان الدولي الجامعي للمونودراما    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    الداخلية تشرع في استغلال مقر متطور للأرشيف لمزيد إحكام التصرف في الوثائق    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    هطول كميات متفاوتة من الامطار خلال الاربع والعشرين ساعة الماضية    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    القيروان: القبض على مقترفي عمليّة سرقة قطيع أغنام    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    Titre    رئيس الجمهورية يجدّد في لقائه بوزيرة العدل، التاكيد على الدور التاريخي الموكول للقضاء لتطهير البلاد    بركان ينفت الذهب.. ما القصة؟    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها على البلجيكية غريت    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    شهادة ملكية لدارك المسجّلة في دفتر خانة ضاعتلك...شنوا تعمل ؟    قفصة: تورط طفل قاصر في نشل هاتف جوال لتلميذ    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    السيطرة على إصابات مرض الجرب المسجلة في صفوف تلامذة المدرسة الإعدادية الفجوح والمدرسة الابتدائية ام البشنة بمعتمدية فرنانة    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاح التربوي المنتظر: عمل في الصّميم أم مجرّد ترميم ؟
نشر في التونسية يوم 16 - 02 - 2016

يمثل الإصلاح التربوي بتونس أحد التحدّيات التي تواجه حكومات الجمهورية الثانية. وقد نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية دراسة قيّمة للسيد بلقاسم حسن متفقّد عام بوزارة التربية حول هذا الملفّ تنشر منها «التونسية» مقتطفات مطوّلة.
تعيش تونس على وقع حوار «وطني» حول إصلاح المنظومة التربوية . ولقد استقطب هذا الحوار قطاعات واسعة من المجتمع المدني التونسي وأثار اهتمام الرأي العام الوطني مما يؤكد الأهمية القصوى التي يوليها الشعب التونسي لقطاع التربية والتعليم.
و بالفعل، فإن هذا القطاع يعتبر من أكثر المجالات التي ينتظر الشعب التونسي معالجتها و«إصلاحها» ضمن مقتضيات وسياقات ثورة 17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011 وما تستوجبه استحقاقات هذه الثورة ومتطلبات مسار الانتقال الديمقراطي وما عجت به الوعود الانتخابية للقوى السياسية التي شاركت في الموعدين الانتخابيين الوطنيين الكبيرين اللذين دعي بمناسبتهما الشعب التونسي إلى الادلاء بصوته في صندوق الاقتراع، ونعني بهما انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 وانتخابات مجلس نواب الشعب في 26 أكتوبر 2014 وخاصة تلك الوعود التي أطلقتها الأحزاب السياسية المشاركة حاليا في الحكومة المنبثقة عن الانتخابات التشريعية الأخيرة المذكورة والمتعلقة بانتخاب أعضاء مجلس الشعب (26 - 10 - 2014 ) وللتذكير فإن هذه الأحزاب التي تعتبر فائزة بشكل أو بآخر في هذه الانتخابات التشريعية والمكونة للحكومة الحالية هي حركة «نداء تونس» وحركة «النهضة» و«الاتحاد الوطني الحر» وحزب «آفاق تونس» .
لقد كان قطاع التربية والتعليم من أبرز المجلات المنتظر معالجتها واصلاحها ضمن أولويات الثورة واستحقاقاتها .حوار رسمي منقوص وحوار مدني معاكس:
يوم 23 أفريل 2015 احتضن قصر المؤتمرات بالعاصمة موكب انطلاق الحوار الوطني الرسمي حول إصلاح المنظومة التربوية تحت اشراف ثلاثي متمثل في وزارة التربية، باعتبارها سلطة الإشراف على قطاع التربية والتعليم في مراحله الثلاث الابتدائية والإعدادية والثانوية (دون مشاركة السلطة المعنية بالمرحلة الجامعية وهي وزارة التعليم العالي) والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان .
وقد سبق للاتحاد العام التونسي للشغل إعلان مقاطعته للحوار ورفضه » ركوب القطار وهو يسير» ثم غير موقفه وأصبح من المشرفين الرسميين على الحوار عندما دعاه وزير التربية السيد ناجي جلول إلى الانخراط والمشاركة الفاعلة فيه بصفة مشرف .
أما المعهد العربي لحقوق الإنسان فقد فسرت دعوته للمشاركة في الإشراف باعتباره ممضيا على عقد شراكة مع وزارة التربية وممثلا لشبكة العهد التي تضم تسعة (9) جمعيات مدنية منها عمادة المحامين ونقابة الصحافيين. وقد قيل قبيل الانطلاق الرسمي لهذا الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية بأنه ينتظر انجاز هذا الاصلاح خلال شهرين أو ثلاث ليقع الشروع في العمل به منذ بداية السنة الدراسية المقبلة .
و جاء في الوثيقة المنهجية لإصلاح المنظومة التربوية التي نشرتها وزارة التربية بمناسبة اطلاق الحوار الوطني حول التربية يوم 23 أفريل 2015 والصادرة عن المركز الوطني البيداغوجي : اليوم تجسم الارادة السياسية إرادة المجتمع بأكمله بإعلانها عن اطلاق الحوار الوطني لإصلاح المنظومة التربوية باعتباره استراتيجية تضمن مشاركة حقيقية ناجعة تجعل جميع الأطراف شركاء فعليين في نحت كيان الأجيال القادمة.
وبالرغم من هذا التفاؤل الوارد في هذه الفقرة وسواها ومن الخطاب الرسمي للأطراف الثلاث المشرفة على هذا الحوار استقبل إطلاق الحوار الوطني حول اصلاح المنظومة التربوية باحترازات شديدة من أوسع فعاليات المجتمع المدني وبتشكيك كبير في مدى فاعليته وضمانات نجاحه. وقد كان مبعث هذه الاحترازات للملاحظات السلبية الأساسية التالية:
-1 سيطرة روح الوصاية المتمثلة في الاشراف المنفرد للاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان إلى جانب وزارة التربية على الحوار دون أي سبب وجيه ودون أي وجه أو شرعية بالرغم من اعتراف الجميع بمكانة الاتحاد العام التونسي للشغل ودوره الوطني والمجتمعي واحتضانه لأكثر نقابات التعليم تمثيلية. وبالرغم من علاقة التوتر وموجات الاضرابات المتواصلة بين هذه النقابات والوزارة طيلة سنوات ما بعد الثورة وحتى خلال الفترة الراهنة وكذلك الاقرار بأهمية عمل المعهد العربي لحقوق الإنسان في مجال نشر مبادئ وثقافة التربية على حقوق الإنسان والمواطنة والمدنية .. لكن لا شيء أبدا يفسر وصاية هذين الطرفين بمفردهما على الحوار حول التربية .
2 - بروز عقلية الإقصاء فإلى جانب تفرّد اتحاد الشغل والمعهد العربي لحقوق الانسان بالإشراف، احتجت أوسع شرائح المجتمع المدني على إقصاء عدد كبير من الجمعيات والهيئات عن المشاركة في الحوار بالرغم من اهتمام أغلبيتها بموضوع التربية والتعليم وامضاء الكثير منها عقود شراكة مع وزارة التربية(...).
3 - التسرع : حيث أكد الجميع أن فترة الشهرين أو الثلاث غير كافية لتحقيق مشاركة واسعة وفاعلة وحقيقية ولا يمكن أثناءها بلورة التشخيص العلمي المعقول ولا تقديم التصور السليم للحلول .
– الارتجال : وذلك لعدم القيام قبل إطلاق الحوار بتجميع المعطيات وتحليلها وتنظيم استشارة منظمة ومنهجية لدى الخبراء والمختصين وإجراء تقييمات موضوعية وعلمية تكون قاعدة أصلية لانطلاق الحوار ودعامة منهجية لضمان نجاحه وليس القيام بالمسار المقلوب أي إطلاق الحوار ثم القيام بتكوين اللجان وتنظيم الاستشارات والتقييمات والتشخيصات وتجميع المعطيات؟
4 - عدم مشاركة وزارة التعليم العالي ووزارة التكوين المهني والتشغيل ووزارة المالية على سبيل المثال من بين الأطراف الحكومية ذات الصلة بموضوع التوجيه المدرسي والجامعي وتمويل الإصلاح وسوق الشغل … وفي هذا الصدد أيضا نسجل التغييب غير المنطقي لاتحاد الصناعة والتجارة (منظمة الأعراف) ولاتحادات الطلبة ولممثلي الأولياء والأسرة. كما لوحظ الارتجال في الاستشارات المنظمة مع التلاميذ والمدرسين. ومقابل هذا الحوار الرسمي المنقوص شهدت البلاد من أقاصي شمالها وجنوبها إلى أقاصي شرقها وغربها مجموعة كبيرة من الندوات والملتقيات ونظمت القنوات التلفزية والإذاعات والصحف والمنتديات الكثير من الحوارات والملفات والورشات حول الإصلاح التربوي وتوج كل ذلك بتأسيس المنتدى المدني لإصلاح المنظومة التربوية الذي ضم حوالي 200 جمعية مدنية مما يؤكد الأهمية القصوى التي يوليها المجتمع المدني لقطاع التربية والتعليم واحتجاجه على ما تميز به الحوار الرسمي من وصاية وإقصاء وتصميمه على إبداء الرأي والمشاركة ولو بشكل مواز ورفضه الخضوع للأمر الواقع ولتمرير مشروع إصلاح قد يتضارب مع الانتظارات الشعبية والأهداف المجتمعية والمبادئ والثوابت الواردة في الدستور الجديد، لسان حال التوافق الوطني(...).
وبعد هذا الحراك المجتمعي والتفاعل الشعبي وما تردد من أصداء عن مآخذ الرأي العام الوطني عامة للحوار الوطني الرسمي سارع الكثير من المسؤولين من بين الأطراف المشرفة وخاصة في وزارة التربية إلى التأكيد والحرص على مشاركة كل الأطراف وعلى أن غيابها عن جلسة إطلاق الحوار بقصر المؤتمرات يوم 23أفريل ليس إقصاء لها بل هو ناتج عن ضغوطات تنظيمية،وإن كل طرف بإمكانه أن يمد الوزارة بمقترحاته (؟!) .
ثلاثة إصلاحات لنظام تربوي واحد:
تعاقبت على تونس ثلاث إصلاحات تربوية كبرى من خلال سن ثلاث قوانين أساسية للتربية والتعليم هي:
– القانون رقم 118 لسنة 1958 المؤرخ في 4 نوفمبر 1958 المتعلق بالتعليم
ويعرف الإصلاح المنظم بهذا القانون بإصلاح محمود المسعدي كاتب الدولة للتربية القومية آنذاك. وقد كان هذا الإصلاح أول أساس للنظام التربوي التونسي في عهد دولة الاستقلال برئاسة الحبيب بورقيبة الذي حل التعليم الزيتوني وتبنى مشروع الفرنسي جون دوبياس Jean Debiesse الذي نصح باعتماد اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية الشعبتين «ب» و«ج» مع الحفاظ على التدريس باللغة العربية في الشعبة «أ» على أن يقع التعريب التدريجي خلال عشر سنوات ليتم تعريب التعليم بصفة نهائية. وقد استقال كاتب الدولة للتربية القومية محمد الأمين الشابي (شقيق الشاعر أبي القاسم الشابي) لتمسكه بتعريب التعليم ومعارضته لمشروع دوبياس وعوضه محمود المسعدي(...).
– القانون عدد 63 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 والمتعلق بالنظام التربوي.
وقد أشرف على سن الإصلاح المنظم بهذا القانون الوزير محمد الشرفي عند توليه وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي أواخر الثمانينات من القرن العشرين . وقد تم على أساس هذا الإصلاح إرساء التعليم الأساسي وتعريب تدريس المواد العلمية في الابتدائي والإعدادي والتركيز على بث قيم التربية على حقوق الإنسان والمدنية من خلال تحويل مادة التربية الوطنية القديمة إلى مادة التربية المدنية وفصلها عن مادة التربية الإسلامية وإنشاء إطار تدريس وإطار تفقد بيداغوجي خاص بها. وقد اعتبر إصلاح محمد الشرفي قاطرة ل«تجفيف المنابع » وسحب البساط من تحت أقدام «الإسلاميين» الذين أصبح لهم حضور سياسي ومجتمعي معتبر خلال الثمانينات من القرن الماضي وتميزوا بنشاط متعاظم في الجامعة والمعاهد .
– القانون عدد 80 - 2002 المؤرخ في 23 جويلية 2002 والمعروف باسم القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي.
وقد صدر هذا القانون بمناسبة الإصلاح الذي أشرف عليه الوزير منصر الرويسي وزير التربية والتكوين في تلك الفترة . وبشكل عام يعتبر إصلاح الرويسي مجرد تطوير لإصلاح الشرفي وسعي لمواكبة التطورات التربوية العالمية على مستوى نظريات التعليم والطرق البيداغوجية حيث تميز هذا الاصلاح بإرساء مقاربة الكفايات وبيداغوجيا المشروع والتشجيع على اعتماد البيداغوجيا الفارقية واستثمار التقنيات الحديثة في التواصل والمعلومات وفتح مجال أوسع للتوجيه المدرسي عبر الشعب والمسالك المؤدية إلى شهادة الباكالوريا في محاولة التفاعل مع متطلبات سوق الشغل(...).
ولئن كان إرساء النظام التربوي في خطوطه العريضة وفيا لأطروحات بورقيبة والنظام السياسي الذي أرساه طيلة أكثر من نصف قرن منها 30 سنة تحت رئاسة بورقيبة و23 أخرى برئاسة خلفه بن علي, فإن إصلاح المسعدي وحده كان تحت الوصاية المباشرة لبورقيبة في حين وقع اعتماد إصلاحي الشرفي والرويسي في عهد بن علي.
وقد تميزت الإصلاحات الثلاث المذكورة بالتركيز تقريبا على نفس المفهوم للقيم المرغوب تركيزها لدى الناشئة باعتبارهم مواطني الغد إلى جانب اتفاقها المشترك في الحفاظ على المكانة المتميزة للغة الفرنسية التي بقيت لغة تدريس المواد العلمية على كافة المستويات التعليمية بمختلف الشعب في مرحلة التعليم الثانوي(...).
تشخيص الوضع التربوي : بين المسائل الفنية والقضايا الجوهرية
لقد رافق تطبيق النظام التربوي التونسي منذ تأسيسه غداة الاستقلال العديد من المشاكل تراوحت من الانتقائية المشطة وضعف المردود مع ما عرف بإصلاح المسعدي والإصلاحات الجزئية والفرعية التي تمت في صلبه إلى تراجع مستوى المتعلمين وضعف مكتسباتهم في ظل ما عرف بإصلاحي الشرفي والرويسي.
ومع الزمن أصبحت هناك مشاكل مزمنة للنظام التربوي التونسي وتراكمت العديد من العلل والسلبيات التي أخذت تنخر مدخلات المدرسة التونسية وتعصف بمخرجاتها وتهدد دورها ومكانتها .
وانطلاقا من التشخيص العام المعتمد بناء على الكثير من التقييمات الداخلية والخارجية ومن خلال استقراء واقع الوضع التربوي في تونس ومقارنة معطياته ونتائجه وإحصائياته مع بلدان أخرى نكتشف الوضع المزري الذي أصبح عليه الشأن التربوي التونسي وخاصة على مستوى ترتيب أبنائنا في المناظرات العالمية (على غرار مناظرتي بيزا وتمس) ورتب الجامعات التونسية عالميا وحتى إفريقيا، فهي رتب لا نجد لها أثرا في ال 6000 جامعة الأولى على المستوى الدولي وال50 جامعة الأولى على المستوى الإفريقي. ولا يفوتنا كذلك التنبيه إلى ما أصبح يخشاه الشعب التونسي من مخاطر محدقة بمصير أجياله الصاعدة وتهديدات من شأنها المس بصحتهم الجسدية والنفسية وبأخلاقهم وسلوكهم من خلال بروز ظواهر استهلاك المخدرات داخل وحول الوسط المدرسي وتفاقم حالات العنف والغش والانقطاع و«الحرقان».
وتنقسم هذه المشاكل المدرسية والتربوية إلى مسائل يمكن أن نطلق عليها صفة «الفنية» والتي يمكن معالجتها بحلول وإجراءات «فنية» أيضا أي معرفية وبيداغوجية وإجرائية وأخرى جوهرية وهيكلية لا يمكن معالجتها إلا بإجراءات جذرية عميقة.
ومن أهم هذه المشاكل والصعوبات والسلبيات الفنية نذكر:
6 - ضعف مكتسبات المتعلمين في اللغة العربية واللغات الأجنبية والمواد العلمية
7 - طغيان الجانب التراكمي والبعد النظري على التعلمات وكثرة مواد التعليم وفقدانها للترابط والاندماج بينها
8 - الغياب شبه الكلي للجوانب العلمية
9 -مشاكل تقييم عمل التلميذ وغلبة التلقين والإملاء وضعف التواصل وكثافة الزمن المدرسي ومشاكل الشعب والتوجيه
10 -المركزية المفرطة وصرامة البرامج وعدم قابليتها للاجتهاد
11 -ضعف مشاركة مختلف الأطراف في الحياة المدرسية واستقالة الأولياء وبروز ظواهر العنف والتسيب والغش داخل الفضاء التربوي ومن حوله
12 -تدهور البنى المادية للمؤسسات التربوية والنقص الفادح في التجهيزات والوسائل البيداغوجية ومحدودية الموارد البشرية باستثناء إطار التدريس
13 -غياب مقومات الاحتراف والجودة
14 -ضعف مردود المؤسسات التربوية من حيث ارتفاع نسب الانقطاع والرسوب
15 - مشاكل الحوكمة والقيادة الرشيدة والتأطير التربوي والبيداغوجي والمرافقة والتكوين المستمر والانتدابات والتفتح على سوق الشغل … (وللتعمق في هذه المشاكل والصعوبات يمكن العودة إلى وثيقة نحو مجتمع المعرفة: الإصلاح التربوي الجديد، الخطة التنفيذية لمدرسة الغد الصادرة عن وزارة التربية في جوان 2002 والوثيقة المنهجية لإصلاح المنظومة التربوية الصادرة عن وزارة التربية في أفريل 2015 بمناسبة إطلاق الحوار حول الإصلاح التربوي الحالي .).
وبالطبع فإن هناك جملة من الحلول والمقترحات الإصلاحية التي لا تجد معارضة مجتمعية باعتبارها حلولا بيداغوجية معقولة أو اختيارات تربوية» فنية» بدورها كفاءات ومنها على سبيل المثال :
16 - اعتماد بيداغوجيات التحكم والنجاح على غرار بيداغوجيات الكفايات والمشروع والتفريق والعمل التشاركي وعمل المجموعات
17 - اعتماد نظريات التعلم المناسبة مثل العرفانية والبنائية والبنائية الاجتماعية
18 - إرساء نظام التقييم التكويني
19 - مراجعة التوجيه المدرسي والشعب
20 - مراجعة توقيت المواد والزمن المدرسي
21 - تطوير منظومة التكوين المستمر
22 - مراجعة البرامج التعليمية والمناهج التربوية والكتب المدرسية
23 - تطوير الحياة المدرسية وتعزيز التربية على المواطنة والمدنية وحقوق الإنسان في الوسط المدرسي
24 - العناية بالبنى التحتية للمدارس وتوفير التجهيزات البيداغوجية اللازمة
25 -26 - التفاعل الإيجابي مع المحبط
27 - إدخال مواصفات الاحتراف على المنظومة التربوية وإرساء منظومة الجودة
أما المشاكل الجوهرية والقضايا الأساسية التي نعتقد أنه لا إصلاحا حقيقيا دون معالجتها جذريا ولا حلا فعليا دون تناولها مباشرة بكل مسؤولية وبكل وطنية وبكل شجاعة فهي تلك المتصلة بموضوع الهوية واللغة الوطنية وبأسس المشروع التربوي المجتمعي المجيب عن سؤال من هو تلميذ المدرسة التونسية وماهي مقومات الإنسان الجديد الذي نريد من حيث القيم والمواقف والسلوكات؟ وبالتالي ماهي غايات النظام التربوي ومقاصده وأهدافه وأية مكانة للغة الوطنية الأم؟ وما ينعكس عن ذلك من برامج ومناهج وتكوين وتقييم – ذلك هو بيت الداء وأساس الدواء ومن خلال ذلك يكون الجواب الشافي الكافي عن سؤال أي إصلاح تربوي نريد؟ وهل هو إصلاح في الصميم أم مجرد ترقيع وترميم ؟
فشل «التحديث» القائم على التغريب وضرورة التأكيد على قيم الهوية والتعريب
إن جوهر المشروع البورقيبي يتمثل في «تحديث» المجتمع التونسي وإرساء أسس «الحداثة» في تونس التي كان بورقيبة يعتقد أنه لم يحررها فقط بل بعثها من جديد ومنحها هويتها. كان بورقيبة يعتقد أن الشعب التونسي مجرد «غبار من الأفراد» وأنه شخصيا عبارة عن يوغرطة الذي انتصر (يوغرطة هو القائد البربري الذي حارب الرومان وآل به الأمر الى الهزيمة). كان بورقيبة متحمسا للنموذج الثقافي الفرنسي ومتأثرا بالمنوال الغربي الحداثي. وقد كان شديد الإعجاب بمصطفى كمال أتاتورك (أب الأتراك) الذي قطع روابط تركيا بالمشرق العربي وقام بكل ما في وسعه لتحويل وجهتها الى الغرب الأوروبي. فهل نجح مشروع الحداثة في تونس وتم فعليا «تحديث» المجتمع التونسي أم أن الأمر انتهى بردة فعل شعبية جعلت البلاد التونسية تشهد أزمات دورية متتالية طيلة سنوات الخمسين والستين والسبعين والثمانين من القرن العشرين وعرفت ظواهر الغلو منذ التسعينات من القرن الماضي وانتهى الأمر بالمجتمع التونسي «الحداثي» و«المحدث» الى تفريخ عدد لا يستهان به من الشبان المتشبعين بأفكار التطرف والتعصب والانضمام الى القوى الإرهابية المنضوية تحت ألوية «القاعدة» و«داعش» حتى أدى الأمر بوزير التربية الحالي إلى التصريح ذات يوم قبيل تولية الوزارة بأن المدرسة أصبحت «تخرّج الدواعش». لقد فشل مشروع «التحديث» لأنه اعتمد أساسا على «التغريب» بدل النهوض بالمجتمع في ظل تجذير هويته وترسيخ مقومات أصالته وتعزيز شعوره بالكرامة الوطنية والاعتزاز بالذات والافتخار بالانتماء الحضاري والثقافي والتاريخي مع تفتحه على روح العصر ومواكبته لأسس التطور وللمكتسبات الانسانية ولثمار التقدم العلمي والتكنولوجي. هناك فرق كبير بين مشروع حركة «النهضة» والإصلاح » في القرنين 19 و20 والتي كان من روادها في البلاد العربية الطهطاوي والكواكبي والأفغاني وعبده وفي تونس خير الدين والجنرال حسين ومحمد بيرم الخامس وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور. لقد دعت هذه الحركة الإصلاحية إلى الأخذ بأسباب التطور والتقدم العلمي والرقي الحضاري والاستفادة من المكاسب الحضارية للغرب خاصة وللإنسانية عامة في إطار الأصالة والاعتزاز بالانتماء الحضاري وإحياء كل ما هو منير ومستنير تاريخيا وفي تراثنا . ألم تقم حركة «النهضة» الأوروبية في القرنين 14 و15 م على أساس إحياء التراثين اليوناني والروماني والاستفادة من مكتسبات وإضافات الحضارة العربية الاسلامية في مختلف الميادين.
يقول الأستاذ نورالدين عرباوي في كتابه «التربية والتحديث في تونس»: «كان تيار الحداثة مدركا لاختلال التوازن بينه وبين تيار «النهضة» (أي تيار الحركة الإصلاحية ) وهو ما جعله يبحث عن شرعية افتقدها في الداخل فالتمسها في الخارج فتحول الغرب من نموذج حضاري صالح للاقتداء فقط الى مصدر للشرعية أيضا يؤمن الحداثة والمعاصرة ويبرر بقوته الفكرية والمادية الانخراط في العالمية الغربية»(1) .. ويضيف «كانت إصلاحات 1958 التي ضبطها قانون 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 الترجمة القانونية لخطاب بورقيبة في 25 جوان (حزيران) 1958 والذي كان بدوره الصبغة التونسية لمشروع دوبياس الفرنسي . لقد جاءت توصيات دوبياس مبشرة بهوية جديدة لتونس ونجد صدى هذه التوصيات في الخطاب السياسي التحديثي في تونس حيث تميع انتماؤها الاسلامي والعربي وبرز الانتماء المتوسطي والانتماء الإفريقي والثقافة المغربية كما برز التوجه الانعزالي المعبر عنه بمفاهيم الأمة التونسية والشخصية التونسية المتحررة في الانتماء الثقافي العربي والاسلامي»(2).
إن الانخراط المتحمس لتونس البورقيبية في الفرنكفونية وجعل اللغة الفرنسية مهيمنة على التعليم وتهميش اللغة الوطنية الأم قد أدى الى إبعاد جزء مهم من النخبة عن الشعور العميق بالهوية العربية الإسلامية وشجع دعاة القومية التونسية والأمة التونسية وأصحاب مقولة تونس الأقرب الى أوروبا على اعتبار أن الشعب التونسي هو ذلك الخليط الذي أفرزه امتزاج الشعوب والحضارات التي تناوبت على المنطقة .
يقول الأستاذ سفيان سعد الله في قراءة نقدية للواقع التربوي في تونس : «لا تقتصر المدرسة على التعليم وحفظ المعارف، وإنما وظيفتها نحت شخصية الطفل، وإدماجه في الوسط الاجتماعي والثقافي . ولكن المدرسة اليوم، لم تعد تضطلع بتربية الناشئة على المحافظة على قيم المجتمع، ولا تسهم في تكوين إنسان قادر على التواصل مع تاريخه والمحافظة على قيمه، بل أن بعض المواد المقررة ترسخ في الناشئة قيما مشوهة من قبيل أن التاريخ العربي الإسلامي إنما هو تاريخ دم، وشعر وتخلف، وفي المقابل تظهر هذه المواد أن التاريخ الغربي رمز للتقدم . هاهنا نميز بين مشرعين في التربية : تربية زائفة تقضي على الحياة الروحية في المجتمع وتربية حقيقية تحافظ على الخصوصية الثقافية في المجتمع. ومن الغريب أن يعتبر بعض الحداثيين أن الحداثة رفض للتربية التقليدية ثم مقابل ذلك يسقطون في فخ تقليد الغرب. فإن كان عيب أعداء الحداثة تقليد السلف والتمسك بالماضي ونظمه التربوية الى حد الانغلاق فإن عيب الحداثيين تقليد عقلانية الغرب ونظمه التربوية في القرن السادس عشر إلى حد الانغلاق، وكأنهم لا يعيرون أهمية للتاريخ بل يحصرون الحداثة في حقبة تاريخية معينة والحال أن تاريخ البشرية هو تاريخ ثورات والحداثة الغربية هي جزء لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية . وليست الحداثة حكرا على المجتمع الغربي، إنها نتاج المجتمع الإنساني في مختلف مراحله . فلكل مجتمع نظمه التربوية وأساليبه في التنشئة الاجتماعية، والمحافظة على القيم الاجتماعية التربوية لا تتعارض بالضرورة مع التقدم المعرفي والتقني الذي عرفته المجتمعات الغربية. ومن هنا لا يمكن نعت من يعتز بهويته وقيمه التربوية بأنه متخلف. ولا يمكن ان يعد حداثيا من يتخلى عن تحقيق آمال الشعب والمحافظة على تاريخه وقيمه التربوية؟
إن المسألة الجوهرية تتمثل بكل بساطة في أنه لا ضمان لنجاح أي إصلاح تربوي حقيقي وفعلي في تونس لا يولي التربية على ترسيخ الهوية العربية الإسلامية لدى الناشئة وتجذير اعتزازهم بأصالتهم وبانتمائهم الحضاري والثقافي مع التأكيد على التفتح على الروافد الحضارية الإنسانية وعلى مكتسبات المعاصرة وثمار العلم والتكنولوجيا. كما أن أي إصلاح تربوي في تونس لا يعيد الاعتبار للغة الوطنية الأم ويقر ضرورة التعريب وبالتالي تدريس المواد العلمية باللغة العربية أسوة بكل البلدان والشعوب التي تحترم خصوصياتها القومية وتعتز بانتماءاتها الحضارية والثقافية . إن كل البلدان المتطورة في مجال التربية والتعليم بل وفي كل المجالات تدرس بلغتها الوطنية ولا ترى لغة معينة متفردة بقدراتها في تدريس العلوم سواء كانت اللغة الفرنسية أو الإنجليزية . هذا هو حال فنلندا والسويد واليابان والصين والهند وألمانيا وإيطاليا واليونان وروسيا وتركيا بل هذا هو حال العدو الصهيوني الذي يعتمد العبرية . وإننا نتحدى أي مسؤول سياسي أو أي مرجع جامعي تونسي أن يعلن على الملأ أمام الشعب التونسي أن اللغة العربية عاجزة عن تدريس العلوم. يقول محمد رضا الأجهوري في كتابه: دفاع عن مستقبل تونس، مقالات في الهويّة والحرّية. الصادر عن الشركة التونسية للنشر وفنون الرسم، الطبعة الأولى – تونس 2015: «إنّ العداء للتعريب ينبع من هذا العداء للهوية العربية الاسلامية باعتبار أن إنجاز مشروع التعريب سيساهم حتما في إعادة الاعتبار لهذه الهويّة». ويضيف: ( لست أرى معنى لما يزعمه البعض من كونه ديمقراطيا على صعيد العمل السياسي يؤمن بالحريات ويقدّس حقوق الإنسان ثم وفي ذات الوقت يهمل قضية الهوية والانتماء الحضاري أو يناهضها ويتآمر عليها…»). كما يقول إنّ: «التحمس للتوجه الفرنكفوني ليس مجرد اختيار لغوي يعطي امتيازا خاصا للفرنسية وإنما هو بالإضافة إلى ذلك وكنتيجة حتمية عنه التزام بتكريس الأولوية للفرنسية على حساب اللغة الوطنية … لأجل ذلك كان طبيعيا جدا أن يكرّس التوجه الفرنكفوني بصفة فعلية طيلة عشرات السنين دون طرح أي تساؤل جدّي حول هذا القمع اللغوي المسلط قهرا على لغتنا الوطنية). يواصل: «إنّ الاستمرار في تكريس علاقة تبعية تونس العربية لغويا وثقافيا لفرنسا لن يسمح أبدا بتوفير أرضية ملائمة لتغيير ثقافي متجذر ولا لإصلاح تربوي ناجح ولا لتحرر وطني حقيقي ولا لتعامل مع الآخرين من موقع الاستقلال الحضاري تعامل الند للند. لذلك يتحتم هدم أساس التبعية، أمّا الجزئيات الأخرى التي هي بمثابة الأعراض، فإنها ستتهاوى بمجرد الحسم في أساس البناء». توسيع استعمال التكنولوجيات الحديثة للتواصل والمعلومات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.