مدى الحياة بين 4 جدران كان كارلوس ومازال شخصية عالمية مثيرة للجدل ومحاطة بالألغاز والأسرار. في كتابه «كارلوس» يُلقي اسكندر شاهين مجموعة معلومات هامّة وأسرارا مثيرة وصورا نادرة تنشر لأوّل مرّة عن الابن الرّوحي ل «شي غيفارا». ومن المؤكد أن ما يسرده الكتاب من وقائع واستنتاجات يفوق في أهميّته ودقته ما ورد في كتب عربية وأنقليزية وفرنسية كان كارلوس محورها. «التونسية» تنشر على حلقات مقتطفات من الكتاب المذكور: نجح الغرب في اعتقال كارلوس عبر الذراع الفرنسية ولكن هذا الغرب وجد نفسه بغتة رهينة في قبضة «ذراع الثورية العربية» تلك المنظّمة التي توجّهت في عزّ الحرب الباردة واختصرت في ما بعد بنزيل سجن «لاسنتيه» الذي يعتبر نفسه «أسير حرب» وهو بالفعل كذلك كما يقول معظم المراقبين الذين واكبوا مسيرة «ابن آوى» الذي قد يفاجئ هيئة المحكمة بأسرار تحرج فرنسا ودوائر عديدة في العالم. من هذا المنطلق رأى وقتئذ المراقبون أن المهمّ ليس ما سيثيره كارلوس من فضائح تستهدف الأجهزة الغربية وهو الضليع في علم المخابرات وموسوعة من المعلومات التي تحمل الطابع «السرّي للغاية» ولكن الأهم هو الكمية التي ستسمح فرنسا بتسريبها ومن هذه الزاوية تخوف بعض المراقبين أيامها من أن تتحوّل محاكمة كارلوس إلى سلسلة من الجلسات السريّة وربما تحت شعار «أمن فرنسا». وتابع هؤلاء: أنه إذا حدث مثل هذا الأمر وهو مستبعد نسبيّا فمن يضمن للفرنسيين سكوت جاك فرجيس الذي حاولت السلطات ترهيبه عبر إحدى وثائق «ستازي» التي تشير إليه كمساعد للإرهاب فردّ عليها بتفجير فضيحة موافقة الحكم الاشتراكي بشخص الرئيس فرنسوا ميتران على تصفيته وبشهادة «باريل» أحد الضباط الذين كانوا من عناصر جهاز مكافحة الارهاب التابع للإليزيه. وخلص المراقبون وقتئذ إلى أن فرنسا التي طاردت كارلوس تحت شعار «الشرف» ستلعن الساعة التي قبضت فيها على نزيل سجن «لاسنتيه» الذي كان ضيفا ثقيلا ومزعجا في جلسات محاكمته. فكما تقاطعت مصالح بعض الأجهزة الغربية وبعض الأجهزة العربية كالأردن والسودان ومصر في عملية اعتقاله فلابدّ من الاشارة إلى أن النتائج التي توخاها البعض لم تأت وفق مصالحه «فإنفخت» الدف وتفرّق العشاق. أرادت الأجهزة المصرية إزعاج السودان وأرسلت الفيلم الذي صوره أحد عناصرها إلى فرنسا للتأكيد على أن السودان يؤوي ما يسمى الإرهاب وفق المصطلح الغربي فكانت النتيجة ازدياد العلاقات الحميمة بين الأصلوليين في السودان والسلطات الفرنسية وهذه الحميمية أثمرت عن تسليم كارلوس. الأمريكيان جان أندرسون ومايكل بنستاين نشرا مقالا في بعض الصحف الأمريكية بعد اعتقال كارلوس بأسبوع أي في 94/8/22 جاء فيه: أنه قبل 20 عاما تعاونت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات الفرنسية وهذا التعاون أثمر عن إنقاذ حياة كارلوس وكان يحبو آنذاك في أولى خطواته الثورية. ويشير المقال إلى أن القصة الحقيقية لهذا الإنقاذ قابعة في الملفات السرية لوكالة ال«سي. آي. ايه» وهناك بيان شديد الايجاز عن هذه القصة في تقرير للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي يعود إلى عام 1979 وهذا التقرير يتحدث عن العمليات التي نفّذتها في أمريكا مخابرات 6 دول أجنبية وكانت تعمل على اعتبار الأجانب المقيمين في الولاياتالمتحدة أهدافا لها. ويضيف أندرسون وزميله في المقال المنشور: كان كارلوس في سبتمبر 1974 قد أصبح هدفا للاغتيال من جانب فريق «اغتيالات دولي» وعندما اكتشفت المخابرات الأمريكية الأمر في مرحلة من مراحل التنفيذ وجهت تحذيرا إلى حكومات البلدان التي كان يمكن أن يتمّ اغتيال كارلوس في أراضيها ومن هذه البلدان فرنسا والبرتغال وقامت واشنطن في الوقت نفسه بإخطار حكومات أمريكا اللاتينية التي يتألّف منها فريق الاغتيالات بوجوب ايقاف التنفيذ وقد أوقفتها فعلا ويضيف الصحافيان: أن السي. آي. ايه لم تعرف وقتها أنها أنقذت حياة كارلوس. وكما تعاونت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مع ال«د. أس. ت» على إنقاذ حياة كارلوس دون معرفة من الاثنين هوية الرجل عاد الطرفان للتعاون على الايقاع به وقد أكد أحد مسؤولي ال«سي. آي. ايه» لصحيفة «واشنطن تايمز» بعد أيام قليلة على اعتقال كارلوس أن ال«سي. آي. ايه» لعبت دورا مهمّا في مساعدة الفرنسيين في تعقب كارلوس خلال 20 عاما وفي كافة أنحاء العالم. في عام 1975 وأثناء عملية الأوبيك الشهيرة صدرت الصحف الفرنسية بعناوين تقول: إن البيان الصادر عن منظّمة «ذراع الثورية العربية» يثبت أن قائد العملية ليس كارلوس أو أنه أحد قادة هذه العملية لأن «كارلوس في الحقيقة قتل على أيدي سادته الذين يعمل لحسابهم في الشرق الأوسط» أي بعد مجزرة توفييه التي أودت بحياة مفتشين فرنسيين اضافة إلى ميشال مكربل. ولعل اللافت في الأمر أن «الموساد» الاسرائيلي كان أول من أشاع قصة موت كارلوس وأعاد إحياء الحكاية الفرنسية في عام 1986 وذلك عبر صحيفة «دافار» الاسرائيليّة في أحد الأعداد الصادرة في فيفري من ذلك العالم. أما الدوافع التي كانت وراء هذه الاشاعة لدى الموساد فلا تزال لغزا محيّرا حتى أمام مخابرات الغرب وقد ركّز الموساد طيلة 15 سنة على إشاعة موت كارلوس بإخراج إعلامي متقن وعدة مرات وقد تضاربت معلومات الصحف الاسرائيلية حول مكان وفاة كارلوس وفق خطة مخابراتية مدروسة وصدرت معظم الصحف الاسرائيلية في فيفري 1986 تحمل عناوين وفاة كارلوس على طريقة «السبق الصحافي» ووفق دوزنة مدروسة منها من تحدث عن مقتله في موسكو وبعضها عن مصرعه في بوخارست أو بودابست ولعل الأكثرها إثارة كانت رواية صحيفة «دافار» التي اعتبرت أن كارلوس قتل في الصحراء الليبية أو ربما في لبنان على أيدي التنظيمات اللبنانية المسلّحة. ولم يكن الهدف من اشاعة موت كارلوس لدى الاسرائيليين في أماكن متعدّدة إلا أمرين: الأول للدلالة على الدول التي يتواجد فيها والثاني كما يقول أحد رجال المخابرات: ادخال الطمأنينة الى قلب كارلوس ليخرج إلى العلن فيسهل عليهم اصطياده على طريقة المقولة المخابراتية: «إذا كان الهدف حذرا جدا فطمئنه لتستطيع اقتناصه». ولكن ما كان يثير حيرة المراقبين أمام صمت «الموساد» بعد اعتقال كارلوس في الوقت الذي عبر فيه شمعون بيريز وزير الخارجية الاسرائيلي آنذاك بالقول: «أتمنى أن يقضي كارلوس بقية حياته في السجن.. فإن لم يكن في السجن ففي العالم الآخر».. في نهاية هذه القصّة يقول مؤلف الكتاب: «إرضاء للضمير والتزاما منّا أمام أحد المجهولين الذي قال انه عرف كارلوس عن قرب والذي تعهدت له بنقل رسالته التي وصلتني هاتفيّا قال: قد تكون يا أستاذ «محشورا» بالوقت لن أطيل عليك حديثي عبر الهاتف: هل تعرف قصة سلطان باشا الأطرش وأدهم خنجر أجبته: كلا ولكن أتمنى عليك ألا تطيل فقال: حاول الثّائر أدهم خنجر اغتيال الجنرال غورو عام 1920 عندما عيّن مفوضا ساميا في سورياولبنان وفشلت المحاولة وفرّ أدهم خنجر إلى جبل الدروز ولجأ إلى منزل القائد سلطان باشا الأطرش وبعد فترة أطبقت القوات الفرنسية على المنزل واعتقلت أدهم خنجر وكان سلطان باشا الأطرش يقود الثوّار في وجه الفرنسيين وقد هاله الخبر عندما وصله فما كان منه إلا أن ذهب إلى منزله وأضرم فيه النار قائلا: ما نفع جدرانك والسقف إذا لم يستطيعا حماية ثائر لجأ إليك. وأضاف: لم يكن مطلوبا من السودان حماية كارلوس بل كان المطلوب حماية كارلوس من سودان جعفر النميري ولو استطعت التقاء كارلوس ذات يوم سأعاتبه على ذلك لأن البلد الذي عبرت منه الفلاشا إلى اسرائيل أيام حكم النميري لا يزال هو نفسه جسر عبور اسرائيلي إلى الوجع العربي واذا كان نابليون قد قال: فتش عن المرأة فسأقول لكارلوس وهو الذي كان حريصا: فتش عن التقوى لأنها مخدّر أصولي وقاطعته وأخيرا ماذا تريد؟ فقال: لو تيسّر لي أن أكون من حضور محاكمة كارلوس لصرخت بأعلى صوتي: حذار أيها السادة إنّكم تحاكمون مناضلا كان يجب أن يحاكمكم كما في أيام الحرب الباردة. وختم بالقول: ما يخشاه أمثالي أن بعض الصحف العربية بالاسم تروّج حكايات وربما هي ايحاءات عن أن كارلوس سيموت في سجنه ميتة طبيعية بعدما حكم عليه بالسجن مدى الحياة وهي تقصد أن كارلوس سيكون مريحا للجميع عندما يموت والميتة الطبيعية تكون عبر «ابرة هواء» وأجبته: دعك من الخيال ففرنسا اليوم مثال في الديمقراطية والحرية ولكنه أجاب: ربما قدره سيكون كقدر معلمه وديع حداد العيش في الظلّ والموت في الظلّ وبإبرة هواء فالمناضلون في الزمن الرديء عراة حتى من الظلّ. انتهت مخابرة الرجل المجهول ولكنها تركت في الذاكرة دويّا لا يهدأ هل يعقل؟ في الزمن الرديء كل شيء يعقل.